الخميس ٢٨ تموز (يوليو) ٢٠١١

في بيتنا بخيل!

فوزي صادق

حتى العصافير تسمعنا زقزقتها، وحتى الأشجار تسمعنا حفيفها، وحتى المياه تسمعنا خريرها، وكل هذا مجاناً من الطبيعة ودون مقابل، ماعدا البخيل من بني الإنسان، فإنه ينتظر بشغف دعوتنا له بـ (تفضل)، أو (لاتدفع).. آآه.. ساعد الله قلب كل من يدق أسفين مقالي على وتره.. فكم من الزوجات يشكين بخل أزواجهن، وكم من الأبناء والبنات يشكون بخل آبائهم، والله إنها مصيبة ليست كمثلها من مصيبة، إنه مرض البخل وما أدراك ما البخل، إنه مرض عضال، ولا دواء له سوى بفناء صاحبه!

فالبخل والحسد ندان لبعضهما، وكل منهما يحاول إثبات قدرته وقوته في إنزال بني آدم أسفل سافلين.. والإرث العربي غني بالبخلاء وقصصهم، ولايغرنك عصر الأي باد واللاب توب، فالبيوت تعـج بالبخلاء الذين تـتعوذ من أنفاسهم ملائكة السماء.

كثير من القضايا الإجتماعية الشائكة أساسها البخل وفصوله، ومعظم العوائل والعشائر العربية، تجد بخيلاً واحداً على الأقل في دوحتها وفلكلورها الشعبي، وتكون شخصيته ظاهرة ومشهورة أمام العلن، وبدون إستحياء أو مجاملة.. وإذا مر بقارعة الطريق الكل يعرفه: (هاهو البخيل)، والكل يدعوا الله أن يصبر زوجته وأولاده على العيشة معه تحت سقف واحد، ويتوارث الأجيال قصته.. وأنا على يقين الآن إن كل من يقرأ مقالي سيحظر في عقله أسم بخيل يعيش من حوله، وسيتذكر مواقفه التي أشتهر بها.

مع الأسف إن معظم البخلاء يودعون الحياة بنهاية مؤسفة وحزينة، وهذا ماعلمته وسمعت عنه ويعرفه كثير من الناس.. فطبيعي أن ينفر منه أولاده وقبلهم أمهم، فيعيش لوحده مع بعض الزيارات القليلة من أجل بر الوالدين، فنسمع فجأة إنه غادر الحياة وفاحت ريحته، ودون علم أحد من أقاربه !، وكثير من القضايا التي أحتككت بها، وجدت بجوهرها بخيلاً يطفو على سطحها، وهذا مارأيته بأم عينيّ، وبالتجربة، فبصّمته ودونته برواياتي وقصصي، وكلها قصص واقعية تدمي العين، كرواية بخيل العرب التي لم أطبعها.

أخبرتني أم وأبناءها إن أبيهم البخيل يقفل ثلاجة البيت بقفل إضافي، ويحتفظ بالمفتاح في جيبه حتى أثناء نومه، وكلما فتح الثلاجة يعد الفاكهة من جديد كي يتأكد إنها لم تنقص، وإذا زاره أحد من أقربائه، يخبره إنه أشترى فاكهة وإن الثلاجة مليئة بها دون عرضها عليه، ولقد تأكدت من هذا في غيابه وبحضور أبناءه.

أما البخيل الآخر، فقد كدس قلبه بملايين الريالات التي تملاً حسابات البنوك بطريقة (حبر على ورق فقط)، ودون التلذذ بها ، وحرام أن يرى أبناءه وأحفاده فلس أحمر منها!، وحتى إن أبكت حالة فقرهم شعوب العالم أجمع.. وأما المصيبة العظمى عندما ترى بعض الأثرياء يزاحمون الفقراء في العطايا المجانية من الحكومة وغيرها!

لم يقصّر الجاحظ في قصصه عن البخلاء، وأشبعها حتى بان الفيض من أطراف دفتي كتابه، لكن لم يعلم الجاحظ إن الزمان فاق ما كان يتخيله من قصص وغرائب عن بخلاء هذا الزمن، وإن الواقع الحياتي الأن يحمل في طياته بخلاء يستحقون لقب أقل ما يقال عنهم (ملوك البخلاء)، إذ بمجرد خروجهم تحت السماء، يخسف لهم القمر قهراً، وتكسف لهم الشمس صبراً، وتدمي لهم القلوب قيحاً ، فبمدينة خليجية، وقبل بضع سنوات فقط، أشرفت الشرطة والبلدية وبحضور جمع غفير من أهالي المنطقة، بتكسير جدران الطين العريضة برافعة البلدوزر، وتم أستخراج عشرات من جرار الصلصال المليئة بالريالات الفرنسية الفضية، ولقد قدر مصدر مسؤول قيمتها بالعملة الحالية بما تعادل عشرة ملايين دولار، ولقد تحدث أبناء المنطقة إن صاحب هذا البيت من البخلاء المشهورين في أواخرالسبعينات الميلادية، ولقد هاجره أبناءه مع أمهم، وبقى وحيداً إلي أن مات دون أن يعلموا به، ففاحت ريحته حتى وصلت البيوت المجاورة، وهي من العمالة الأجنبية، فتم أستخراج جثته ودفنه بعد أن قرضت الفئران أذانه وأصابعه، وبعد أن باع أبناءه البيت، أراد المشتري أن يهدمه ويقيم مكانه مبناً جديداً، وتفاجأ أثناء الهدم، بوجود كنز مدفون بالجدران العريضة، وإذا هي جرار كبيرة مختومة بالطين، وبداخلها ريالات فضية فرنسية!
في نهاية المطاف، نقـول لاحول ولا قوة إلا بالله، وساعد الله قلبك يازوجة البخيل، وساعد الله قلبكم يا أبناءه، وساعد الله قلبك يا أقاربه وجيرانه، وساعد الله الملائكة الهاربين من فوقه، والقرين من الجن من تحته، فوالله لو للبخل دواء، لأوجده الباري، لكن هي علة مامثلها علة، وأحق أن نسميها بسرطان الأخلاق، ولن ننسى قول الشاعر في البخيل:

لايخرج الزئبق من كفه، ولو ثقبناها بمسمار:: يحاسب الديك على نقره ويطرد الهر من الدار:: ويكتب فوق كل رغيف له، يحرسك ا لله من الفار، وقيل من الجار.

فوزي صادق

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى