الخميس ٤ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم خير الدين بن الطاهر جمعة

أكاذيب أمّي الخمسة

1-حذاء بلا قدمين:

كنت صغيرا، وكان الشتاء قابعا في بيتنا بعنفوان، حين أفقتُ من النوم في ذلك الصباح الكسول خرجتُ إلى وسط الدار باحثا عن إخوتي وأمي، صافح الحزن وجهي الصغير الناعس، فقد فوجئتُ بالبيت مكتظا بنساء يلفهن السواد والنواح، صوت نديبهنّ بعثرَ غفوة قلبي بين ضلوعي، لهيب بكائهن مازال يمزّق ذاكرتي بفنون من الخوف و هالات من السماء و غيوم من الأفكار، أحسستُ كأني أغرق في حلم سحيق مرعب، تراجعتُ و انفلت ُّ داخلا غرفة نوم والديَّ، و جدتُ حذاء أبي كالعادة عند الباب فقفزتُ باحثا عنه في فراشه كما كنت أفعل دائما لكني لم أجده، شممت غيابه في ثنايا الأغطية و كنت عاجزا عن الفهم،أخذت الحذاء من خيوطه، كل زوج بيد، أجرّهما و خرجتُ إلى وسط البيت و أنا ممسك بخيوط الحذاء لا أريد تركه، كان بمثابة السلاح الذي أستمد منه الشموخ في مواجهة عاصفة البكاء والعويل التي كنتُ أشقها..صوت مخيف أسمعه لأول مرة...أتذكر نظرات النساء الجالسات على طول الجدار، كانت مزيجا من الاستغراب والشفقة والذهول، ظللت أبحث عن أمي غير عابئ بنظراتهن، كنت أريد أن أسألها:
 كيف يخرج أبي بدون حذاء؟؟؟ نعم كيف يمكن لأبي أن يخرج من البيت دون حذاء؟؟؟؟!
و أخيرا رأيتها من بعيد تقوم من مكانها مضطربة، حملتني بين ذراعيها والحذاء يتدلّى بين يدي لا أريد تركه، بدت لي و كأنها تمسح دموعها، لمحتُ انتفاخ عينيها ، فهمتْ نظراتي المستغربة، أدخلتني الغرفة وهي تحاول أن تتكلم بصوت مرتعش وكلمات مترددة و قد علا وجهها صفرة حزينة...و لكني بادرتها بسرعة:

أين أبي؟أين ذهب؟؟

قالت بصوت مختنق وهي تبلع ريقها :

سيعود...

و كيف يترك حذاءه؟

صمتتْ، أخذت مني الحذاء ووضعتْه في الخزانة و لكني بعصبية بريئة فتحتُ الخزانة ووضعتُه في مكانه عند الباب عند ذلك مسحت على شعري و قد أصبحت دموعها أكثر جرأة ثم قالت :
سيعود..

ضمتني بقوة و أخذت تبكي بحرقة، شعرتُ بدموعها تبلل وجهي و لكنها سرعان ما مسحت دموعها و قالت بفرح كاذب :

سيعود يا بني إنه ذهب إلى تونس العاصمة في عمل و سيعود قريبا ليلبس حذاءه هذا.....
و لكن أبي لم يعد وظل حذاؤه في مكانه بلا قدمين.

و بعد شهر من الانتظار الزائف دخلتُ غرفة والديّ، أخذتُ الحذاء ووضعتُه في الخزانة.

و تلك كانت كذبتها الأولى!

2- لحم بلا رائحة :

رفيقة ظلمة الفجر كانت و غيمة من التحدي والعطاء ستظل، و في بيتنا الكبير مع أبناء عمي كانت لحظة الغداء حربا بين الأيدي على قصعة الخشب الضخمة و لذلك كانت أمي تتعلّل بصغر سني و هزالي لتضع لي الطعام في طبق وحدي رغم نظرات زوجة عمي المستاءة و في كل مرة كانت تضع قطعتين من اللحم على الطعام فنأكل معا و لكنها دائما تضع كل اللحم أمامي و تقول " أنا لا أحب اللحم". وفي إحدى المرات صادف أن كان الطعام بلحم الدجاج فرمت ناحيتي بالقطعتين و ردّدت نفس الكلام و لكن بعد الغداء، دخلتْ هي لتغسل جبل الأطباق المتسخة و عند باب المطبخ لما كنتُ متوجها إلى بيت الراحة، لمحتها تمسك بعظم فخذ الدجاج لتأكل ما بقي فيه من لحم، ذهلتُ لما رأيت و لكنها حينما انتبهت إلى وجودي، ابتسمت و قالت لي في هدوء :

لحم الدجاج يتعب معدتي يجب أن تنهرني عن أكله حتى لا أمرض...

و انهمكت في غسل الأطباق....

و تلك كانت كذبتها الثانية!

3- أعظم حفلة على وجه الأرض:

أربعة عشر..... أربعة عشر..... أربعة عشر..... أربعة عشر.....

كان ذلك هو الرقم الذي أردده و أنا أركض بأقصى سرعة، تطير بي السعادة وأنا في الطريق إلى البيت، كانت الحرارة شديدة و لكن ذلك لم يثنني عن الركض، كان العرق يتصبب مني و أنا أسابق رياح الصيف الجافة، كانت الفرحة تعصف بقلبي الصغير، وطوال الطريق كانت علامات الفرح بادية على الكثير من الآباء و هم يمسكون بأيدي أبنائهم و يشترون لهم الحلويات والمشروبات الغازية و المرطبات من المحلات البسيطة المنتشرة على طول الطريق..ظللت أركض حتى أصل أمي لأسعدها و أراها ترقص فرحا و سعادة و أنا أردد ذلك الرقم السحري الذي لن أنساه، أخيرا وصلتُ الباب، دفعته بسرعة، لاحت لي أمي من بعيد وراء منسج الزرابي، فأخذتُ أصرخ: " أمي نجحت، أربعة عشر، معدلي أربعة عشر..أنا الأول في عائلتنا..تفوقت على ابن عمي وابن عمتي..نجحت يا أمي أخذتُ الشهادة الابتدائية
ولكن أمي ظلت قابعة وراء المنسج تصنع زربية من الصوف مع بنات عمي، بقيت جالسة القرفصاء في مكانها و يداها منهمكتان في تنسيق خيوط الصوف الملونة، خُيّل إليَّ أنها لم تسمع، فأعدتُ كلامي:" أمي لقد نجحتُ..أربعة عشر.." عند ذلك رفعت نظرها إليّ وقالت بصرامة:

خالك توفي منذ شهر لا أستطيع أن أزغرد أو أشتري لك شيئا..يعني لا أستطيع أن أحتفل بنجاحك..."

و أمام ذهولي وحزني واصلتْ بصوت قاطع:

لا نستطيع أن نحتفل، ماذا سيقول عني الناس؟؟

ذبحتني كلماتها الصارمة و اخترقني الحزن الأسود أحسست كأن الدنيا ضاقت بي حتى أصبحت سجينا لدموعي، ولكني لم أقل شيئا جلستُ بجانبها عند المنسج في حين كان ابن عمي يُدخل مع أمه صناديق المشروبات الغازية و هو غارق في السعادة..ظللتُ صامتا، شعرت ُبحزنها على خالي الذي كان آخر سند لها في هذه الدنيا..كنتُ أريد أن أقول لها إنني سأكون رجُلَها في هذه الدنيا اللعينة و أنني لن أتركها تنسج الزرابي حتى لا تتشقق أصابعها من الخيوط والصقيع لكن دموعي النائمة حالت دون ذلك....

عند الغروب طلبت مني أمي أن أظل في البيت لأنها ستذهب إلى زوجة خالي لتطمئن عليه،
انتظرتها طويلا حتى حلَّتْ الظلمة، ولكنها لم تأت فذهبتُ للنوم و أنا أمحو فرحتي المخنوقة، هدأت مظاهر الفرحة ناحية بيت عمي فتجرعت المرارة على وسادتي و أخذني النوم فحلمتُ بحفلة كبيرة في بيتنا كان أبي حاضرا فيها وقد انتعل حذاءه الأسود اللمّاع، بدا آسرا ببياضه الثلجي و شعره الفاحم البهيج و لكن بعد وقت لا أستطيع تقديره، وفي تلك الظلمة الحالكة والنوم يلف إخوتي جميعا أحسستُ بيد تهزني برفق من كتفي، لقد كانت أمي، ساعدتني على النهوض و أخذتني من يدي إلى غرفتها أجلستني على فراشها ثم من تحت سريرها أخرجت قفة من سعف النخيل، فتحتها وأخرجت منها وقد تهلل وجهها زجاجة كوكاكولا كبيرة و قطعتيْ مرطبات و بالونيْن، أخذت واحدا و الابتهاج يغمرها كأنها طفلة صغيرة و شرعتْ تنفخ البالون ثم أطلقته في الهواء ليحدث ذلك الصوت الغريب المضحك ثم عانقتني و هي تقول :
مبروك يا روحي يا غالي....
تلك الليلة احتفلنا وحدنا بالشهادة.....و سمحت لي أن أنام في فراشها....

و تلك كانت كذبتها الثالثة..!!

4- لحم بلا رائحة (2) :

جميلة جدا بدت، بل أجمل امرأة على وجه الأرض كانت بما بقي من شعرها الليلي الخجول و صفحة خدها النافرة في كبرياء و نظراتها الأنيقة مثل غفوة البحر في الصباح، رغم شيخوختها المبكِّرة المٌذِلَّة وبالرغم من هزالها الرشيق فقد خطف المرض الخبيث ماء الحياة من وجهها، تساقط شعرها و لم يبق من أسنانها سوى جذوع سوداء و تناثرت حبَّات داكنة أعلى صفحة وجهها.....ها هي أمي تخوض العلاج الكيميائي لمقاومة مرض عنيد لا يرحم..كنتُ كل صباح في مصحة الفارابي في مدينة صفاقس أغسل وجهها، أربط وشاحها الأخضر الداكن على رأسها،أمازحها كطفلة تلهو بالحياة، أطعمها فطورها و نحن نستمع إلى أغاني " صليحة " البدوية التي كانت تحبها كثيرا والتي دائما تبثها محطة تونس التلفزية قبل بداية الإرسال ( فراق غزالي والعين تنحب من فراق غزالي آآآآآآآآآآآآآآه و العين تنحب..)، كنت دائما في حالة من الفرح والسعادة فلا مجال للحزن أمامها في المقابل كانت هي تراقب تصرفاتي بذكاء، كنتُ رابع إخوتي الخمسة و فأشعر بسعادتها وأنا بجانبها، كنتُ ألعب دور الزوج الذي مات، و الأخ الذي رحل، و الابنة التي طالما حلمتْ أن تنجبها، و الملاك الحارس الذي سيخدمها حتى آخر لحظة في حياتها...كان يومنا الأول في المصحة مُهلكا بين التحاليل والأشعة والحقن المختلفة وكانت هي أشبه بطفل صغير يختبئ وراء نظراتها فزع نائم و حين عدنا إلى الحجرة كانت لا تقوى على المشي بل منهَكة تماما فجعلتُ أساعدها بأن وضعتُ يدي تحت إبطها، كانت تجرّ قدميها جرا و عند المساء جاءت الممرضة لتخبرنا أنه في حالة أرادت أمي الذهاب إلى بيت الراحة في الليل فما عليها إلا أن تضغط على الزر القريب من الفراش لتأتيها الممرضة وتساعدها على قضاء حاجتها و في أثناء ذلك لمحتُ الامتعاض في عيني أمي...استلقيتُ على الفراش بعد أن غطيتها جيدا و قرَّبْتُ منها إناء الماء و قلتُ لها إن أردتِ شيئا فأيقظيني فأجابتني موافقة بإشارة من رأسها و غرقتُ في نوم عميق لا قرار له، كنت منهكا جدا، لكن في ظلمة الليل أفقتُ على جلبة في بيت الراحة الذي كان ينبعث منه نور خافت فنهضت بسرعة، تفاجأتُ بأمي جالسة وكلها وهن على المرحاض لا تقوى لا على أن تغسل نفسها و لا حتى على النهوض و ظلت جالسة في استسلام مرير لم تقوَ على النظر إليَّ و أنا كذلك و لكنني أنهضتها بجسمها الضئيل مثل ابنة لي جعلتهاُ تتكئ على فخذي ثم شرعتُ في غسلها غير عابئ بشيء، مسحتُها ثم رفعتُ ثيابها و أخذتُها على مهل إلى فراشها، ربطتُ وشاحها الذي انفرط على رأسها، سويتُ وسادتها ورفعتُ ملاءتها إلى أعلى ثم عدتُ إلى فراشي دون أن أقول كلمة...كانت المرة الأولى ولم تكن الأخيرة..لم أنم ليلتها..أدرتُ ظهري لها ودفنتُ وجهي في الوسادة خنقتُ نشيجي فيها و حرصت أن لا يهتزّ جسمي حتى لا تشعر بشيء و لكنها أحست بي فقالت بصوت متقطع :
لم أشأ أن أضغط على الزر لا أريد أن....الممرضة...وقد ناديتُك مرارا فلم تجبني، كنتَ تغط في نوم عميق....

وتلك كانت كذبتها الرابعة!!!

5- حذاء بلا قدمين (2)

في ذلك الصباح القائظ و كان قد مرّ على خروج أمي من المصحة قرابة الشهر أفقتُ في الصباح و آلام في الحلق تشعرني بالغثيان، ذهبتُ إلى غرفتها فوجدتُها مستيقظة في فراشها، لمحتُ قرب السرير حذاءها البني القديم حين كانت شابة، لقد جلبه لها أبي من فرنسا، نظرتْ إليّ بصمت و قالت لي إنها أرادت أن تتفقد ملابسها في الخزانة ولكنني عارضتها على إخراج الحذاء، فقالت لي بابتسامة متعبة إنها حين تشفى ستلبسه، قالت ذلك بصوت خافت، في تلك اللحظة انتبهتُ إلى أنها متعبة أكثر من يوم أمس فجلستُ كعادتي على حافة سريرها وأخذتُ في غسل وجهها بخرقة باردة مبللة و في تفقد كل شيء فيها ملابسها وفراشها وكل شيء... لم تستطع ابتسامتها أن تمنع سماعي صوت تنفسها الذي بدا لي أعلى من السابق، أمسكتْ يدي وكأنها تطمئنُني، قالت لي:

لابد أن تذهب لعرس ابن عمتك إنه مغترب في كندا و لا يعرف أحدا هنا، أكيد أنه سيحتاجك..
و أمام صمتي أصرت على رأيها :

اذهب إلى العرس و حين تأتي لديّ ما أوصيك به..

أجبتُ مذعورا:

توصيني!!؟

أمر يخص إخوتك...اذهب الآن و حين تعود ستجدني أحسن حالا و أقول لك كل شيء..
كانت كلماتها متعبة و حارقة من أثر العقاقير التي تناولتها سويتُ وسادتها، عانقتها شممتُ ريحها العطِر ثم خرجتُ...

حين عدتُ ظهرا و جدتها نائمة،كانت الآلام في حلقي تزداد حدة إلى درجة أنني أصبحتُ غير قادر على أن أبلع شيئا، ظللتُ أنتظرها، حاولت أن أوقظها، فتحتْ عينيها ببطء، أشارت بعدم قدرتها على النهوض، ساعدتُها في ذلك، أشارت إليَّ بعينيها ففهمت أنها تريد أن تذهب إلى بيت الراحة، ساعدني أخي الأصغر على إمساكها، حاولتُ أن أحملها مثل طفل صغير لأنها لم تكن تقوى على المشي و لكنها رفضتْ بإشارة من يدها كان جسمها قد قطَّعتْه العقاقير وبدَّدَتْه الأمراض....بعد ذلك أرجعناها إلى الفراش، كانت عاجزة عن الكلام أو الحركة...

الساعة الثامنة ليلا بدأت البرودة تغشى قدميها، عند ذلك شعرتُ بالخوف يملأني، فخرجتُ لا ألوي على شيء أخذت سيارتي وذهبت لآتي بخالتي الكبرى...لم أتركها و لو لحظة كنتُ أرى البرودة تبتلع جسدها شيئا فشيئا...تحولت آلام الحلق إلى انسداد تام شعرتُ فيه بالاختناق وعدم القدرة على الكلام كما انتابني ارتعاش في مفاصلي لم أستطع السيطرة عليه أو تفسيره...كنتُ جالسا على الأرض أتأمل خيالات باهتة من عالم آخر : هي ذي خالتي تسند رأس أمي على ركبتها، تقطّر في فمها الماء. و حين أُذِّن للفجر طلبتْ مني خالتي أن أنوبها في ما كانت تفعل لتذهب للصلاة، اعتذرتُ لها بإشارة من رأسي...ثم أخذ جسمي في الارتعاد كان لديّ شعور أن جزءا من جسدي سينخلع...وفي لحظة اكتسحتْ البرودة قيظ الصيف..فوقفتُ بلا هدف كالمجنون و ذلك عندما التفتتْ إليَّ خالتي بوجه كالموت..فانهرتُ على الأرض أشلاءً من إنسان و بقايا من حياة....

في فجر جمعة قائظ ماتت أمي حاملة معها وصيتها...

في المقبرة لم أستطع أن أتركها هناك و أعود وحدي ولكن ابن عمتي جرّني بشدة وأخذني في لطف و رغم ذلك ظللتُ كل صباح و أمام نظرات الناس المستغربة أدخل غرفتها لأطمئنّ عليها...

في اليوم الثالث اقتربتُ من فراشها كالعادة جلستُ على حافته فلمحتُ حذاءها البني، مسحتُ ما علق به من أتربة، أخذته معي و حملته إلى غرفتي في الخزانة فتحتُ صندوقا متوسط الحجم و هناك وضعتُ حذاء أمي القديم بجانب حذاء أسود كان هناك ...
ظللتُ عبثا أنتظر وصيتها التي وعدتني بها، قالت إنها ستفصح عنها حين أعود...
و تلك كانت كذبتها الخامسة!!

رحم الله أمي لقد كانت أعظم من أن تظلِّ على قيد الحياة.....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى