الأحد ٧ آب (أغسطس) ٢٠١١

تلك القطط المتأسفة

جمال فهمي

طبعا، ليس كل الأعضاء الناشطين فى قطيع «آسفين يا مبارك» مجرد صيَّع مأجورين من قبل لصوص وحرامية غسيل كبار، منحهم نظام الرئيس المخلوع فرصة نهب ونشل تاريخيين لا يمكن تعويضها.

صحيح أن نسبة كبيرة من هؤلاء «المتأسفين» ناس غلابة بائسون، دفعهم البحث عن الرزق إلى الانخراط فى هذا القطيع الذى رأيناه يتسكع ويتنقل من ميدان لآخر حتى استقر أول من أمس فى «التجمع الخامس» أمام أكاديمية الشرطة، حيث مقر محاكمة المأسوف على إجرامه، لكن صحيح أيضا أن صفوف إخواننا «المتأسفين» لا تخلو من مواطنين عاديين جدا لا تفسير لموقفهم الغريب هذا إلا أنهم يعانون من أعراض مرض صار، منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى، معروفا ومشهورا فى أوساط الباحثين والمشتغلين بالعلاج النفسى باسم Stockholm syndrome أو أعراض «عقدة استوكهولم»، وهى عقدة توصّفها بدقة العبارة الشعبية الدارجة القائلة بأن «القط (قد) يحب خنّاقه»!

وتعود تسمية هذا المرض والانتباه لأعراضه إلى عام 1973 عندما نفذت عصابة من المجرمين عملية سطو مسلح على مقر بنك كبير فى العاصمة السويدية، وقامت العصابة باحتجاز بعض الموظفين كرهائن لمدة ستة أيام، لكن عندما نجحت عناصر من شرطة استوكهولم فى اقتحام البنك والتعامل مع الخاطفين لاحظوا -بمزيج من شعور الصدمة والدهشة- أن بعض الرهائن أبدوا تعاطفا واضحا مع العصابة حتى إنهم اشتركوا معها فى مقاومة أفراد الشرطة الذين أتوا ليحرروهم، بل أكثر من ذلك، تطوع عدد من هؤلاء الضحايا بالذهاب إلى المحكمة وأدلوا بشهادات تصب فى مصلحة أعضاء العصابة!

هذا السلوك الشاذ والغريب استوقف عالما وطبيبا نفسيا يدعى «نيلز بيجرو» فعكف على تأمله ودراسته، ثم خرج آنذاك بنظرية جديدة فى علم النفس أطلق عليها «متلازمة استوكهولم» وشرحها بأن بعض الناس (أفراد أو جماعات) عندما يتعرضون لعدوان متصل وطويل الأمد كالاحتجاز أو القمع أو الاحتلال أو الاعتداء والتعذيب البدنى والاغتصاب المتكرر، فإنهم بدل أن يدافعوا عن كرامتهم يفعلون لا إراديا العكس، إذ ينسجون ويطورون نوعا من العلاقة العاطفية المريضة والمنحرفة تظل تربطهم بجلادهم، وهى علاقة تنطوى على خليط مركب من شعور الانسحاق والكراهية والحب والإعجاب بقوة الجانى وتفوقه!

لقد قدم الطبيب بيجرو تفسيرا وتعليلا منطقيا مقنعا لهذا المرض النفسى الذى تهاجم أعراضه بعض المقموعين والمعذبين، خلاصته أن الإنسان عندما يتعرض للقمع والسحق والإذلال، وبعدما يشعر باليأس وفقدان كل إدارة وأى قدرة على رد وردع جلاده ومغتصبه فإنه يكون أمام خيارين لا ثالث لهما، أولهما أن يظل واعيا بعجزه ومهانته ويبقى متيقظا متحفزا يتحين الفرصة ليثور ويتحرر من قهر غاصبه، والخيار الثانى أن يندفع غريزيا فى طريق الهرب من ألم ووجع الإحساس بالعجز فيلجأ إلى نوع من التوحد النفسى مع الجلاد ويطلق العنان لشعور التعاطف معه، وقد يبذل مجهودا كبيرا فى البحث والتنقيب عن شمائل حقيقية أو وهمية يتمتع بها خاطفه أو قاهره، ثم يتكئ عليها فى تبرير شذوذه وإعجابه المرضى بمن كان سبب عذابه.
باختصار.. جزء لا بأس به من أعضاء قطيع «المتأسفين» الذين يدهشوننا الآن عندما نراهم يلطمون الخدود ويشقون الجيوب علنا فى الشوارع والميادين، حزنا وشفقة على القاتل المخلوع، هؤلاء مجرد مرضى مساكين يحتاجون إلى برامج علاج وتأهيل نفسى، وحالتهم التى تصعب على الكافر لا بد أن تستثير فينا مشاعر الشفقة وليس الإحساس بالغضب والقرف...

جمال فهمي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى