الاثنين ١٥ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم محمد بروحو

سنوات في قارورة

إنه الآن يقطع المسافة إلى عين المكان، الذي اعتاد أن يحضر إليه، كلّما تحرّك شوق القصبة في نفسه. مكان له ارتباط به. منذ زمن بعيد. يقدره بجيل أو جيلين. أو ربما يتخطى ذلك. إنّها أيام الصّبا والشباب. تدفن في هذه الأحجار التي تنبت في المكان. حينما كان يحضر ولمّة الأقران. لكنه الآن يجد نفسه وحيدا. لقد غادر البعض خارج الوطن. منذ فترات. ولم يعد يعلم عنهم شيئا.

الوقت غروب. وقرص الشّمس البرتقالي يكاد يغيب في أفق البحر. وهو اللّحظة، يحمل على كتفه قصبة صيد. وبيده اليسرى يحمل قفة من العزف، يضع فيها طعام العشاء. و الطّعم الذي سيحتاجه لهذه اللّيلة.

ينحدر بتؤدة وبخطى ثابتة. إن الأحجار التي يضع عليها أقدامه قد تخونه في أية لحظة. صخور تشهد على مراحل من حياته. وحياة أقرانه.

يتأمل الشفق، وهو يعكس أرجوان ألوانه على وجهه الرجولي. ونسمات البحر، تهبّ نحوه في اشتهاء، فيشتمّها بعمق. فتحضره ذكرى صديقه الهادي. كلما حضرا معا إلى هنا كان يقول له:

- كلّما شممت رائحة البحر وعبق نسماته، إلا وأحسست بأني أولد من جديد.
كأنه يسمع صدى الكلمات، يتردد على صخور الجبل، الذي يحاصر المكان. لقد عشق البحر كما عشقه صديقه الهادي.

في غفلة منه، وبين ثنايا الذكريات، كان الظلام قد بدأ يحجب المكان. وظل هو ينتظر طلوع القمر، ليمارس هوايته على نوره الفضي. قد يستغرق مكوثه هناك اللّيل كله.

في لحظة التّأمل. يشرع القمر في البزوغ. وهو يرفع شراعه. ويخاطب كلّ الصّيادين. إنه مساء آخر، وليلة قد تأتي بصيد وفير. فتعود عليهم بالخير والرّزق. ليلة يدثّرها غمام يصعد بريح الشرقي، حيث تحبّ الأسماك أن تندفع مع أمواجه بحثا عن الغذاء.

بعد أن يلقم لقيمات يسد بها جوعه الليلي. وهو يهيئ القصبة، ثم ليرمي بالصناّرة إلى البحر. بعد أن يضع بها الطّعم. وهو يبسمل.." باسم الله.. اللهم اجعل صيدنا هذه الليلة صيدا وفيرا.. " يتّخذ مكانا له على صخرة. صخرة تطلّ بعلوها الشاهق على شساعة البحر. إنه مكان مناسب يستطيع أن يرمي منه بصنارته بكل أمان. حيث الرّؤية المناسبة. والتي تزداد وضوحا كلّما توسّط القمر السّماء. يتتبع حركاته الخفية، فيحسبها سنينا من عمره. من حياته وهو يتذكّر ذاك اليوم. وكان أول يوم يحضر فيه إلى هنا. حضوره صيادا وليس زائرا.

كانت بداية الحكاية من ذلك التاريخ. يسردها على مسمع أقاربه ومعارفه كلّ مرّة. يحكي أنها كانت أوّل ليلة يأتي فيها إلى هذا المكان، أوّل مرّة يرمي فيها بصنارته إلى البحر، ليغنم بصيد وفير، لكنّه وهو كذلك، كان قد سمع صوتا يهتف به. وهو ما تكرر هذه اللّيلة. شيء ما كان يتحرّك بقربه. ثم إذا به ينتبه على تحرّك خيط الصنّارة. يمسك بالقصبة ويتهيّأ لسحبها، لقد فعل ذلك بسرعة، وهو يجذبها بقوة، لكنّها كانت ثقيلة. بدا يحاول إخراجها من الماء، لكنه لم يستطع. كرّر ذلك مرّات، تمزّق خيطها. أصلحه على عجل ثم رمى به ثانية إلى البحر. غريب ذلك الإحساس الذي نزل به وقتئذ.

كان أمله أن يكون صيده هذه اللّيلة وفيرا. كان استغرابه كبيرا. فالمكان يعرفه جيّدا. مكان تحب الأسماك أن تجتمع فيه.

لقد ظل يحاول مدّة طويلة. كان اللّيل قد قضم ثلث الوقت. غفي غفوة، لم يدرك كم مرّ عليه من الوقت. سحابة تحجب ضوء القمر، لم تعد الرّؤية واضحة. انتبه على زخّات المطر تلامس وجهه البارد. نظر إلى السّماء. سحابة ترسل قطرات خفيفة، ولم يكن في السّماء سواها. ثمّ أحسّ بريح الشرقي تهب بقوّة. تتحرك مندفعة نحوه. فتندفع أمواج البحر. وأصبح هائجا. وبدأت تلاطم الأحجار التي تقابل البحر. التي كان يجلس على إحداها. رشّات متتالية تبلّل المكان. أمسك بالقصبة وقرّر أن يغادر المكان. حاول سحب الصنارة لكنه لم يستطع هذه المرّة كذلك. كانت ثقيلة. خمن أنها سمكة كبيرة.

قطرات المطر تتكاثر وقوّة الرّيح تزداد. وهدير البحر يملأ سمعه. وهو يحاول سحب الصّنّارة. كانت ثقيلة. كاد أن يمزّق الخيط. لكن قطرات السحابة كانت قد بدأت تقل وهو يراها تبتعد عن مكانه شيئا فشيئا. وضوء القمر يكسّر ما تلاشى منها. فيرسل ضوءه الفضي على البحر. ثم يقل هدير البحر، وتسكن الرّيح. ويهدأ هيجانه. يشرع في سحب خيط الصنارة بلطف. شيء ما كان يعلق بها، وهو يراه يقترب منه. دون حراك.

كانت قنّينة زجاجية، فتحها، وجد بها ورقة مكتوب عليها

الهادي هو اسمي، و1958 هو تاريخ ميلادي. تطوان هي عنواني. هاجرت إلى إسبانيا على قارب الموت سنة 1980. حضرت مخاض امرأة، كانت ترافقنا. توقف بنا محرّك القارب فلم ندر كيف سيكون مصيرنا..!؟

كانت الرّسالة التي قرأها، رسالة معبّرة، أحدثت في نفسه رجّة. وهو يعيد قراءتها مرات ومرّات، كان يتذكر صديقه الهادي. الذي سافر ولم يعد يعرف عنه شيئا.

كانت قطرات من دموعه تبلّل الرّسالة، وهو لا يزال يقرأها، ويقرأ منها اسم الهادي..
جمع خيط الصّنارة، وغادر المكان حزينا، وقد قرّر أن لا يعود إليه ثانية..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى