الاثنين ١٥ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم مهند النابلسي

الأبقار المقدسة وبركة التماسيح!

ألم يحن الآوان لثورة ثقافية عربية تواكب ربيع الثورات العربي؟

يتحدث محي الدين أللاذقاني في كتابه "عكس التيار" عن الأكاذيب الثقافية والزيف والابتذال، كما يتطرق لظاهرة "ألأبقار المقدسة" ويدعو لذبحها ! ويقول أن تصفية الشعر من ظاهرة الابقار المقدسة بحاجة الى شخص كالسياب يضع الفن قبل المصلحة. وحسب رأي الكاتب "المشاكس": فالقصيدة التي لا تأسر قارئها عاهة في جبين الشعر،حيث يعقد مقارنة معبرة بين شعر سميح القاسم الخطابي المباشر وشعر المتنبي الرائع فنيا....

ففي حين يشكل الأول مقطعا شعريا باستخدام ألألفاظ المتقاربة والمختلفة المعاني مثل"تبعت وبعت..عبدت وبدت..أسرت وسرت..بعدت وعدت..ومت ومت.."حيث (حسب تعبير الكاتب) يمكن وصف هذا المقطع بالترهات المسكونة بالخطابة والرتابة والمباشرة، فاننا نسمع بالمقابل المتنبي يستخدم نفس اللعبة البلاغية القديمة ويقول:

كفى بك داء ان ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا

كما يشبه الصحافة الأدبية "ببركة التماسيح"، ويسلط الأضواء على ظواهر "النفاق والشللية والروتين" التي تعيق الابداع الحقيقي والأصالة، والتي تفتح منابرها "للمرضي عنهم"وتستنكر بل "وتقمع" هؤلاء اللذين خارج الشلة والموجودة اسماؤهم في "اللائحة السوداء الخفية"!
ويلخص الواقع الثقافي العربي السائد بايجاز معبر حيث يقول في الصفحة 116:ولغاية غير مفهومة في التكوين البشري يحمل المثقفون الانتهازيون وجوها حمراء خبيثة وأقفية أكثر احمرارا من المقدمة لكثرة ما كيل لأصحابها من صفات نفسية وجسدية، ولو أخذنا عينات عشوائية من كل جيل للمثقف الانتهازي وعكسه، لاستطعنا أن ندرك المأزق الذي تقع به الثقافة العربية المعاصرة، فالأول يعيش ويسافر ويحضر الندوات والمؤتمرات والمهرجانات، ويتصدر المجالس ويفتي ويفعل ما يريد، فيما الثاني يتشرد مفلسا في وطنه وفي بقاع الارض!
فبعض النقاد السينمائيين العرب (على سبيل المثال)لا يخرج مجمل نقده وتحليله للأفلام عن "كليشهات" مكررة تحشر تعابير مجترة هنا وهناك، وهي جاهزة دوما لكي يصف بها معظم الأفلام حتى السخيفة والتجريبية، ولا يتجرأ (نفاقا وحفظا للعلاقات والمكاسب) على توجيه نقد لأي عمل سينمائي مهما بلغت رداءته وتوجهاته السياسية أو الخطابية المباشرة، والمثال الجديد واضح في التمجيد والمدح المبالغ الذي تم اطلاقه بحق فيلم "خزانة الألم"، ذلك لأنه حصل على الاوسكار (بغير وجه حق في اعتقادي)، ثم لأنه صور في دولة عربية بالرغم من الخطابية الفجة الغير مباشرة وتمجيده السافر للغزو الامريكي واحتلال العراق، واظهاره المبالغ به لبطولات الجنود الامريكيين وبالمقابل اظهاره للعرب والعراقيين وكأنهم ليسو الا مجموعات ارهابية سادية و همجية ! والغريب أنه حتى الجمهور الأمريكي بذائفته الفنية الراقية قد "عاقب" هذا الفيلم فلم يحقق أية مكاسب تذكر على شباك التذاكر ! وهنا نلاحظ تدخل التوجهات السياسية في تحديد الفيلم الفائز بالاوسكار، فقد وصف بعض نواب الكونغرس فيلم آفاتار بأنه معاد "لأمريكا" فيما اعترض أعضاء جمعية "المحاربين القدامى" على المشاهد "الغير واقعية" التي تضمنها فيلم "خزانة الالم، الا أنه نجح في السباق أخيرا بغرض "تبرير وتزيين" الاحتلال الامريكي للعراق!

ويمكن أن أسوق أمثلة اخرى كشريط "فجر العالم " العراقي الذي نال المدح والثناء فقط لتعرضه بالنقداللاذع لممارسات نظام صدام حسين وللحرب العراقية – الايرانية، والذي مولته فرنسا، ونفس الكلام ينطبق على شريط "ابن بابل " الذي يتعرض للمقابر الجماعية ومعاناة أكراد العراق في عهد صدام ، متجاهلا الاحتلال الأمريكي الذي تسبب في موت ملايين العراقيين وحول العراق لدولة فاشلة ! كذلك اشير لبعض الأفلام "البالغة الرداءة" الذي تعرض سنويا في مهرجانات السينما الاوروبية- العربية والتي تقام في العواصم العربية والتي لا يتعرض لها ناقد عربي (الا فيما ندر)، وكأنه يتملق السفارات الاوروبية واستهتارها بذائقة الجمهور العربي!

كذلك يشير محي الدين اللاذقاني للزيف والمواربة والسطحية الخطابية، ويستند لمقولة ارنست هيمنجواي:"ان النثر عبارة عن بناء معماري فني حي،وليس مجرد زخارف على الهامش"، ويثني على نجيب محفوظ لكونه واحدا من الكتاب القلائل اللذين تصدوا للأسئلة الصعبة، وينتقل الى نقطة بالغة الأهمية وهي ان الغرب لا يترجم بالنظر الى أهمية العمل، بل بالنظر الى زاوية الرواج الغربي وهذا ما يفسر معرفة الغرب كله لمائة عام من العزلة لماركيز، فدور النشر الغربية تبحث عن العمل المليءة بفولكلور الشعوب والطقوس القديمة وصور الحواري الشعبية التي يختلط فيها الرقص بالأذان وبقرع طاسات العرقسوس والدخان المتصاعد من جلسات الكيف(ص.166) ، كذلك لنتأمل طروحات زيدان في رواية النبطي، والذي يستعرض بافاضة عادات العرب وطقوس السفر والطعام والجنس، ثم ينتقل لتأثير انتشار الاسلام اجتماعيا وسياسيا، ممجدا عادات الجاهلية العربية والشخصيات اليهودية من طرف خفي، ومستعرضا بدايات انتشار الاسلام "كدين فتوحات كاسح"، متجاهلا بقصد البعد الحضاري والانساني والقيمي للاسلام سعيا لترويج وقبول روايته عالميا وربما بهدف قنص جوائز عالمية، هكذا يفسر وهم العالمية الذي يتراكض كتابنا لتحقيقه!

في الروايات الثلاث التي قرأتها خلال العام الماضي (شيكاجو،واحة الغروب وعزازيل)، اجتهد كتابها لوضع شحنات "استشراقية" لافتة مع مشاهد جنسية مباشرة وغير واقعية، ولا تضفي بعدا فنيا حقيقيا لمجمل العمل،وكأن عينهم على الجوائز والترجمات العالمية وفرص تحويل رواياتهم لأعمال سينمائية!

وبعد فان"عكس التيار" كتاب رائع يستحق أن يقرأ لأكثر من مرة. وبالرغم من مرور أكثر من عقد ونصف على صدوره، الا أنه يبدو وكأنه يصف بمرارة الواقع الحالي للثقافة العربية وتناقضاتها ما يؤكد أن امورنا الثقافية كما السياسية تسير للأسوأ، حيث يبدو وكأن الزمن قد توقف، وربما كحال ثورات الربيع العربي المتأجج، فقد آن الأوان لحدوث ثورات ثقافية عربية تمجد الرأي الحر والفكر التنويري، وتزيل النقاب عن ممارسات النفاق والزيف والانتهازية، وتؤسس لعمل ثقافي ابداعي حقيقي وفكر تنويري جديد ! ولنكن صادقين ونقول أن الطغاة لم يعبثوا بمصير شعوبهم الا لأنهم وجدوا الولاء والطاعة وكافة أبواق النفاق تمجد عقد عظمتهم المزيفة وممارساتهم الفاسدة والقمعية، وتلوذ بالصمت عن انتهاكاتهم الظالمة بحقوق الرعية والعباد، طمعا بالسلامة والمكاسب ورغد العيش!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى