الأربعاء ١٧ آب (أغسطس) ٢٠١١

خرافات حول الحب

أحمد سليمان العمري

منذ بدء البشرية وكلنا نضارب على الحب، نتسارع لنعيشه، نعاصره وننعم في ظله، منذ الأزل ونحن نعيش حالات شبيهة به، نحمله عبئاً هائلاً من مشاكلنا اليومية ومن إرهاصات نتنبأ بها حوله وجلاً من انتظاراتنا.

منذ أن أحسسنا الحب ونحن نبحث عن تعليل وتبرير لتصرفاتنا كان العقل هو الذي يدرسها ويقيمها ويخرج في النهاية بنتيجة لا علاقة له بها.

ما أكتبه عن هذه الحالة النفسية الجميلة هو كم من التجارب الشخصية ودراسات علمية عدة لعلماء النفس والاجتماع وإحصائيات كثيرة لتجارب واقعية.

ولأن الحب حالة نفسية فأنه من الصعب جداً للبحوث العلمية الوصول إلى نتيجة يتفق عليها الجميع، ولكن هذا لا يعني أن لا نتحدث عن هذه الحالة بصورة إجمالية عامة مع اختلاف الأشخاص والمجتمعات.

الحب نتعرف عليه من خلال التجربة، وهذه التجربة ومعاصرتها لا نستطيع قياسها في المختبرات وأجهزتها، ولكننا نستطيع وصفه وتصويره، ووصفه وتصويره هو أمر نسبي وحيثي من شخص لآخر.

بعد مراقبتي لسنين طويلة لحالات عدة وأشخاص مختلفة أطباعهم وأطوارهم وجدت أن الغالبية العظمى منهم لم يتعرفوا بعد على قدراتهم على الحب أو حجب الوسائل التي تؤدي إلى إحباطه أو وضعه في سجن والحكم عليه بعدم التحرر، وهذا يعود إلى عدم فهم السبل التي تنمي وتطور هذا الشعور الجميل الذي يلعب دورا فعالاً في حياتنا ويجعلنا كلنا عطاءً ونماء.
أنا هنا لا أقصد البتة في هذه المخطوطة تقديم مادة علمية جافة بحته، لا بل إثارة تطور المعرفة المتعلقة بالأشياء التي نحسها وتغيراتها علينا سلبا أو إيجابا ومدى تأثرنا بها أو تأثيرها علينا. ولهذا، سأقدم نقاط وأسميتها خرافات لفهم الناس الخاطئ لها، وأعتقد أن السواد الأعظم منهم يؤمن بصحتها أو لا يعيها ويسيره في كثير الأحيان عقله الباطن - وكم للعقل الباطن من سيطرة علينا – وتعمدت الاختصار في هذا الطرح لأني لو أردت كتابة خرافات كثيرة حول هذا الحس الجميل وفهم الناس الخاطئ له لما كفاني كتاب، إلا أنني طرحت بعضاً من الخرافات التي أشك في كثرة معتقديها، وهي:

الخرافة الأولى: الجنس يحرر النفس.

الخرافة الثانية: الحب في السنوات الأولى مختلف وأقوى.

الخرافة الثالثة: لا حب من غير غيرة.

الخرافة الرابعة: ما الحب إلا للحبيب الأولي.

الخرافة الأولى:

الجنس يحرر النفس.

الحب والجنس عمليتان قد تكونان في أحياناً كثيرة مرتبطتين يبعضهما البعض، إلا أنه من المهم أن لا نخلط بينهما، فالجنس من غير الحب ممكن والحب من غير الجنس يستطيع أن يكبر وينمو، هذا الشيء يعرفه الكثير إلا أنه للأسف يقع خلط في معظم الأحيان بينهم.

سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي، أعطى تطور وتحرر الطاقة الجنسية من الناحية الصحية العضوية والروحية اهتماماً كبيرا وذلك لدراسته لحالات كانت أوروبا حينها في بداية غرقانها في الجنس والإباحية مما أثر في النهاية على نتائجه وإعطائه هذا الموضوع كماً كبيرا، فقد كتب أشياء كثيرة قد تكون اليوم لا معنى لها مثل مرور الطفل بحالات جنسية في طفولته وهي التي تمحور حياته الجنسية عندما يكبر.

بعد سيغموند فرويد أتى فيلهلم رايش، ودرس الجنس من الجانب البيولوجي وعلل الضغوط النفسية أو النشاط الجنسي بأنه هو الذي يؤدي إما إلى إرهاق نفسي وبالتالي عضوي أو العكس وهذا لأن الضغوط التي تتسبب في شد عضلي بشكل عام، استمرارها يؤدي بالتالي إلى مشكلة عضوية أو نفسية صعبة مثل الانفصام في الشخصية.

دراسة هذين الباحثين في وقت تشابه من الناحية التاريخية والاجتماعية أودا بهما إلى نفس النتيجة رغم اختلاف وسيلة الدراسة والبحوث، ألا وهي، التحرر الجنسي يعني في النهاية تحرر المجتمع وتلقائياً راحته واستقراره و ارتقائه.

الجنس حالة قد تريح الروح من جانب، إلا أن للروح آلاف الحالات التي تحتاجها وتصبوا إليها النفس وتطلبها، والدليل بأن هناك كثرة هم الذين يمارسون حياتهم الجنسية بانتظام واستمرارية بيد أنهم لا يستطيعون قتل الضغوطات النفسية أو أزماتهم الروحية ولا يجدون السعادة لا بل أحياناً كثيرة تؤدي بهم كثرة العلاقات الجنسية إلى نتائج عكسية صعبة.
إنه من الأجدر بنا أن نبحث عن الحس الجميل ونعيشه ولا نبحث عن من يعلمنا الحياة، بل من يكتشف الحياة معنا.

من طور حياته الجنسية وتجاهل متطلباته الروحية وقدراته على الحب لن يجد الاستقرار النفسي الكامل.

لقد سيطر الجنس على العلاقة قبل الحب، حتى أصبح العامل المشترك بينهم مُتجاهل ولا يريد أحدا معرفته، حتى أن الطرفين ما عادوا عرفوا هل هذا الذي يعيشونه حب أم حالة شبيهة سيطرت الرغبة الجنسية عليها، وهذا الذي يؤدي في كثير من الحالات للإحساس بعدم السعادة والإرهاق النفسي الدائم، فقد كانت الطريقة للبحث عن السعادة عضوية بحتة خاطئة ونهج السعادة روحية نفسية قوامها عقيدة أنا أدين وأذعن قلبي وعقلي لها، الإيمان بقدسية الحب.

قال ابن القيم رحمه الله، بأن النفس تُطلق على الذات بجملتها، كقوله تعالى: ﴿كل نفس بما كسبت رهينة﴾، وهذا دليل قضية لا أنفيها بل أأكدها وهي ارتباط الحالة النفسية بالعضوية والعكس. وتطلق النفس على الروح وحدها، كقوله تعالى: ﴿يا أيتها النفس المطمئنة﴾، أما الروح فلا تُطلق على البدن، لا بانفراده ولا مع النفس. فالفرق بين النفس والروح فرقٌ بالصفات لا فرقٌ بالذات.

وللنفس صفات يسيرها صاحبها، إما بيقينه بأن الجنس ليس هو الطريق الوحيد للسعادة فتطمئن باعتبار طمأنينتها لربها بعبوديته ومحبته وبقدرته على حسه وحبه للأشياء من حوله، أو تلومه لأنها حيناً تأمره لإشباع رغباتها الجنسية بإفراط تعدد علاقاتها، حتى تودي به عوضاً عن السعادة إلى أزمات قد لا يخرج منها.

الخرافة الثانية:

الحب في السنوات الأولى مختلف وأقوى.

إن الرأي الشائع عند الناس بأن الحب في السنوات الأولى وحتى الأربعين أو الخمسين من العمر مختلف وله وجه جميل آخر. رأي لا صحة فيه، خاطئ، لأن الحب ليس مرتبطاً بعمر معين ينتهي في الستين أو في السبعين وحتى الثمانين، إنها حاله روحية تختلف من شخص لآخر ومن تجربة لأخرى، فالتجربة الأولى في بداية العمر تكون جميلة جداً ونحسها بكل مشاعرنا وبقوة وهذا لأننا ما عرفنا هذا الحس الجميل من قبل، فتكون كل الأشياء غير مهمة أمام هذا الحس، فيكون بالتلقائية أجمل منه عند الكبر، وهذا لأن الحب عند كثيراً من الأزواج يتقلص وما عاد الجنس شهياً جميلاً ومثيرا كما كان، تحول إلى روتيناً مملاً معتادا، وعلى الرغم من هذا يتمسكون في العلاقة لقناعاتهم وتنازلهم بأن هذا الشيء تطوراً تلقائياً لأي علاقة.

هل الحب طاقة تتطور أم تنفذ مع الوقت؟ القدرة على الحب هي ذات القدرة على الإحساس في العالم وبأنفسنا وإدراكها، فالحب طفل صغير يكبر ويترعرع في ظلال القلوب ومن يؤمن به بعيداً عن حسابات المنطق والمعقول، ومن ألحد هذا الحس الجميل فإن أطفاله يتيمة - فحبه هي أطفاله - تحبو نحوا حتفها فتموت قبل أن تتنفس الصعداء أو تتبسملِ، وفاز من رعى طفله حتى يكبر ويدرك مدى ارتباط هذه الحالة الروحية الجميلة بسعادته، فلا يتنازل عنها أبدا.
كل الذي ذكر آنفاً يحتاج إلى قوة وعي وإدراك وإرادة، فأحياناً كثيرة لا نعي سيطرة العقل الباطن علينا، وخاصة في المدن الكبيرة حيث المال والاقتصاد يلعبان دوراً فعالاً ومؤثراً في الحياة وبالتالي على الحس، فقد يتغرب عنا لأن الحس في مجتمع مادي كهذا لا يؤخذ بعين الاعتبار، فالانجاز والموضوعية والفهم الحاذق والنجاح هم قوامه، لا بل الشعور والعاطفة تعتبر دماراً ورجعيةً، فنهجرهما. فكر الناس مليء بالمال والاستهلاك والنجاح، كله يدور حول المصلحة المشتركة والحالة الاجتماعية والمضاربة مع الآخرين والتفكير الكبير في ضمان المستقبل والأطفال وعنايتهم. إذا كان الفكر دائماً مليء بهذه الاعتبارات ومراجعتها بشكل يومي، فستتقلص قدراتنا على الإدراك تلقائيا، حتى يحذف الحس من حياتنا ومعه الحب تدريجياً ويختفي ولا يعود له وجود حتى حبنا للطبيعة والأشياء تأخذ طابعا مختلفاً، وشريكة الحياة الحبيبة تصبح في زخم الأفكار التي لا تؤمن بغير الملكية شيئاً من الأشياء التي نملكها ودورها الوحيد الوظائف وإتمام الواجبات.

الأفكار ذات الشكل الواحد لا تؤدي في النهاية إلا إلى التوتر العصبي والإرهاق النفسي المزمن، فنحن لا نحس يوما بعد يوم كيف نخسر بمرارة حيويتنا ونموت روحياً فتموت قدرتنا على الحب معها. وهذا هو السبب يا قارئي الذي يجعل الحب مختلفاً في بداية العمر وعند الكبر، ما عادوا قادرين على فهم هذا الحس الجميل بسبب مللهم وعدم إحساسهم فلا يعود للحب مكان عندهم – كل التعازي الروحية سيداتي وسادتي- وقدراتهم على الحب تتراجع وتتفاقم عدم قدرتهم عليه أو إدراكه أو الإحساس به.

من المهم عندي أن لا يُحمل كلامي على مَحمَلٍ بأن هذا التطور طبيعياً مع الكبر، إنما السؤال الذي يطرح نفسه هو القيادة الحياتية وأدارتها وفلسفتها وكيفية التعامل معها والأسلوب.
شخص في الستين أو السبعين أو حتى الثمانين يحس ويعي ما يدور حوله ويقظته ايجابية وقادر على مواجهة نفسه والآخرين بنظرة مختلفة وقوة إدراك، تكون له القدرة تماما أو أكثر على الحب مِن مَن هم في مقتبل أعمارهم، الشيخوخة شيخوخة الجسد لا الروح، وبقاء شباب الروح مرتبطاً بالحس وقوة التأمل – والتأمل أعظم العبادات- ولهذا، ليس بالضرورة أن يكون الحب في مقتبل العمر مختلفاً عن آخره.

انه من المدهش سماع الذين لطالما بحثوا عن السعادة وما وجدوها، أخذوا الطريق الخاطئ لها، بحثوا عن المال والإنجاز والجاه والسلطة - وأنا أعترف بأن المال عصب الحياة، لكنه ليس كلها- واعتقدوا أن الحس لا دور له فأهملوه، لا عجب أن لا يلتقوا السعادة في طريقهم، فالسعادة نهج وزقاق ومدن رحبة لا يجدها إلا من آمن بالحس والعاطفة وجعلها ديناً له.

الخرافة الثالثة:

لا حب من غير غيرة.

"من باطن الحب تتفجر الغيرة" هذه هي عقيدة المحبين الرائجة، أسمعها دائماً تتبعها أنفاساً صعداء "ما الذي أستطيع فعلة لقتل غيرتي".

الغيرة أمراً دائماً شبه يومي نتعايش معها ولا نحتملها، نعتقد أنها هي ظلال الحب أو وجهه الآخر وهو أمر مسلم به لأنه مرتبط بالضرورة مع العاطفة ولا سبيل لنا للتخلص منه.

هل يمكن التغلب على الغيرة؟ قبل أن أجيب على هذا السؤال أود أن أقدم شرحاً عن أسبابها. إن الكائن المختفي خلف الغيرة هو حس لا يستهان به، الخوف، الخوف من خسارة من نحبهم أو أن لا ننال حبهم، لأن هناك شخص آخر قد يفوز بهم، أو لأسباب أخرى، قد تكون أحلاماً نعتقد أنها لن تتحقق معه أو حياة لن تكون جميلة لقلة ماله أو شهرته أو سلطته.
الخوف من أن أخسر الحب أو كينونته أو بعضاً منه على يد آخر، وكثرة هم من يحاولون السيطرة الكاملة على تفكير من يحبونهم حتى من ممارسته هواية، رياضة أو قراءة أو حب طفل من امرأة أخرى، أو أي شيء آخر غير مشترك بينهم، قد يولد له من خلاله حساً بالسعادة من ليس للآخر علاقة به.

من عنده حس الغيرة، عنده الخوف، الخوف من خسارة من يحبهم إذا كرس وقته أو بعضاً منه لشيء أحبه وهم لا يشاركونه إياه أو فيه، وليس بالضرورة أن يكون متعلق بحس شهواني لشخص آخر. الذي يبدو من الغيرة بجلاء في الدرجة الأولى هي الأنانية والخوف بعدم القدرة على ربط من نحبهم معنا بالصورة الكافية وهذا واضحاً مثل رابعة النهار، الإحساس بالملكية لمن نحبهم ونتعامل معهم بالعقل الباطن وكأنهم أشياء لا أرواح لها حريتها في أن تحب أو لا تحب أو تُقدِم على تصرف أو تتركه.

هذا النوع من الحب يولد الإحساس عند من نحبهم بالقيد وحصر القدرات التي تؤدي لعدم تطور الشخصية إلا في الإطار الذي يسمح لهم به.

عندما يرتبط الحب بالغيرة، أي علاقة الرجل بالمرأة فيبدو طبيعيا لكثرة تواجده ولأننا عرفنا هذا الحس مرة أو مازلنا نحسه، ولهذا السبب يكون هذا النوع من العلاقة عند كثيراً من الناس طبيعيا مسلماً به، فهم عرفوه ولا ينكروه على الآخرين، الغيرة في الحب وهذا الشيء لا شك فيه- حسب رأي العامة.

فلنفكر سوية بشمول ونكتب على ورقة خارجية كل التحيزات حول هذا الحس، سنجد بأن الحب عملية روحية لا ترتبط بالتلقائية مع الغيرة.

إذا أحببت فسأحس بإيجابية وأحس بالعاطفة، الحنان، الاهتمام، والخوف على من أحب والاحترام، إذا أحببت فسأعطي حباً، حباً فقط من غير أن أملكه أو أحاول تغييره أو أحجم قدراته، أحبه كما هو. الحب يبدأ عندما نكون أهلاً للعطاء والتعزيز، فيخلق عندنا كنتيجة تلقائية في انتظار أن ننال ذات الحس الذي أعطيناه لمن نحب وإذا تحقق هذا الشيء عند الطرفين يتولد عندهم الشعور بالحب، وهنا يبدأ عند الغالبية الإحساس بالملكية "أنا أحبه وهو يحبني، إذاً هو لي وأنا له" بدأ الخطأ الأول والأكبر، هذا هو الحس الذي يولد الغيرة فيما بعد، وبالتالي الألم الروحي.

الملكية في المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي هو مفتاح التجربة والخبرة لمن يكبر وتتكون شخصيته في جماعات كهذه.

امتلاكه للأشياء شيء طبيعي ومنطقي وانتقال هذا الحس إلى كينونة الحب يحمل ذات الآلية والمفهوم، ولأن الحب قائم على قدرات يتخذوها شخصان ولأن الجماعات امتدادا لهم وبالتالي إلى المجتمع الاقتصادي الرأسمالي الذي لا يدار بالعاطفة بل بالمنطق والمعقول.

أنه من الواضح أن الأصل في الحب وشكله الفعلي لا علاقة له بالامتلاك وطرق الإدارة ووسائلها. الحب في شكله الحقيقي هو الأجمل إذا وقع بين اثنين من غير التفكير بأن يمتلك أحدهم الآخر، أو بربط أحلاماً مادية، أن لا يروا غير أنفسهم مجردين من أي فكرة مادية لا علاقة للحب بها، وأن يتخلوا عن شيئين هما العامود القائم عليه الحب الحقيقي أو هدمه، وهما الخوف أن لا نُحَب بالكم الكافي الذي نتمناه، والآخر امتلاكنا كينونة الحب كجسد مادي ونتعامل معه بموضوعية.

أنا أعي السؤال الذي سيراود الكثير الآن بعد هذا الطرح، "كيف سأتغلب على هذا الحس أو أتقبله إذا كان الخوف وحبي للملكية في تكويني؟"

الإجابة: فالنحب الحب كما هو ولا نعلق عليه ما هو براء منه، الحب لا يقبل بدلاً غير الحب، الحب يخلق عطفاً حناناُ رعاية واهتمام واحترام وتقبل.

الخرافة الرابعة:

ما الحب إلا للحبيب الأولِ.

هذه الخرافة الرابعة في مخطوطتي وليست الأخيرة في عقيدتي. الحب ليس حدثاً قدرياً نادرا أو حالة فريدة من نوعها، بل يجب أن يكون دائماً يومي.

كثرة هم الذين يعتقدون بأن الحب لا يأتـي إلا مرة واحدة في العمر أو مرتين، إذا كنا أهلاً للحب فأننا نعشق ونهوى مراراً وتكراراً ونستطيع أن نحس الحب في العمر مرات كثيرة، بشرط أن تكون لدينا القدرة عليه وعلى استيعابه.

يصحو الآن بالتأكيد سؤال آخر من الغمرة، هل يستطيع أحداً أن يحب اثنين أو ثلاثة في آن واحد؟ الإحساس بالكَلَف والهيام والغرام لمن هو متعطشة روحه إليه يستحوذ على كل حسه واختلجات نفسه مع الحبيب فلا تكون مساحة أبداً لآخر في كيانه، وبعيدا عن هذا الحس المفعم القوي المليء بالتولع والهوى يستطيع أحدا له القدرة على الحب بأن يحب أكثر من شخص في آن واحد بذات الحب وذات الكثافة رغم وجود اختلاف بينهم في الأطوار.

ولأننا نعتقد بالحب الكبير الذي يزعم الكثير بندرته فإنه من الطبيعي أن نصف من يحب اثنين في آن واحد بـ "دونخوان" سيء السمعة، لأن أحداً لا يريد أن يصدق إمكانية حب اثنين في نفس الوقت.

فقط الحب النقي الذي لا يرتبط بالضرورة أو يندمج بالتضافر مدى الحياة وهذا ربط نفسي طبيعي، وليس من الطبيعي تقليدية وعادات شعوب لا يتناسب هذا الفهم مع فكرها.

ولأننا الآن نتحدث عن الحب فلنتحدث عنه أيضاً من الجانب النفسي والدور الفعال الذي يقوم به مستثنيين آراء السياسيين، الشيوخ، الكهنة، المعلمين، الفلاسفة والصحفيين.

من عنده القدرة على الحب ومنفتح على العالم له القدرة أن يحب آخرين بغير حدود بعادات وتقاليد وديانات خارج حدوده. هذه الحالة الروحية تتغلب على كل الحواجز التقليدية التي وضعها البشر لتخدم مصالحهم الشخصية حتى أصبحت اليوم ديناً ومنهجاً ودستوراً ومن لا يذعن عقله وقلبه له خارج عن القانون. إن الحب يخبئ معه سر السعادة في الحياة وأمامه تتلاشى كل الأشياء وتصبح غير مهمة ومعها حتى الفضيلة والإخلاص. من له القدرة على الحب لا يسأل عن الحب الكبير لأنه لا يرى في كل حب يعيشه غير الحب الكبير من غير اختلاف، فالاختلاف هو في شرائح المجتمع والشخصيات التي يحبها، فهو لا يحب الاختلاف بكم وكثافة مختلفين، هو يحب الفرد بحد ذاته وتصرفاته لا يفرق بينهم، ليس هناك الحب الكبير، كل الحب هو حباً كبيراً من غير قيود مع اختلافه وتقلباته في بحار الحياة.

فالنحب الحياة، ونحب الأشياء كلها، نحب الشجر والحجر نحب المدن والعواصم، وأحبها إلي التي يحفها نهر ويتخللها شجرٌ وهمسها في الليل نبضٌ ونسائها ملكت الدرهم والدينار فما عاد يعنيها، فأحبت الحب لأجله. كنت أبحث عن مدينة فاضلة كهذه أحبها لتكون وطني من بين الأوطان وأطلت البحث يتلوه خيبات أمل تجاوزت الناطقين بلسان العربية، وخرجت يوماً والمساء متجهاً نحو الراين وجلست في المقهى المعتاد أمام النهر – فهو دائماً كان يسمعني- أرمي بتجاربي واشكي له همي من نساء الموانئ كنت أحببت جميلة منهن، ما كنت أعرف أنها تنتظر رُباناً تعتقد أنه سيأتي لها بكنوز وجواهر، ما عَرَفَت أنها ستكون عنده قطعة يملكها، فأحبت كل بحّار ترسي مراكبه عند نهديها... وقبل المغيب كعادتي بلحظات عدت كأني ما حزنت يوماً ولا خُدِعت، أسترق البسمات من وجوه المارة والأشياء، فاكتشفت أني قضيت أكثر من نصف عمري أبحث عن المدينة الوطن وإذا بها هي التي منذ أن صحت ذاكرتي على الحب أسكنها.

مازلت أحب، وأعاني أعاصيره وزلازله وبراكينه، لن أتنازل عنه أبدا، لا أمان معه ما دام القلب نابضاً به، ليس هناك جداراً واقياً من رصاصه، سأعشق وأغرم وأحترق وستطفأ ناري وأحترق مرة أخرى وثانية وثالثة وألف مرة، سأستيقظ من جديد وسأحب من جديد وأغرم حتى آخر أنفاسي ليكون آخرها جميلاً مزركشاً بعاطفة ما تركتها يوماً... وكثير القبل. وقتها سأصرح بأني أخذت كل حظي من الحياة كلها وإن بكت عيني وتقرح قلبي كي أعيش هذا الحس، وأعلن أنني متحملٌ مسؤولية عواقب الذي يليه بحب ورضا، ولأني عشت الحب مؤمناً مطمأنة نفسي به، سأموت عليه مستسلماً وروحي هادئة آمنة... وأنتم؟ كما لم ترضوا مالاً بوطن بدلاً، لا تقبلوا عن الحب بغيره بدلاً، ستذكركم كلماتي بأنكم ستسعدون، وحينها تقبلوا مني كل الحب ولا تقبلوا مني بغيره بدلا.

أحمد سليمان العمري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى