الأربعاء ٢٤ آب (أغسطس) ٢٠١١
من أجل إستراتيجية عربية
بقلم جميل حمداوي

لتحقيق التنمية المسرحية

توطئــــــة:

عرف المسرح في عالمنا العربي، مند السنوات الأخيرة من القرن العشرين، ركودا كبيرا، وكسادا لا مثيل له، حتى أصبحنا اليوم نتحدث عن نكسة المسرح العربي أو احتضاره أو موته. ويعني هذا أن المسرح قد تراجع بشكل كبير، لتأخذ السينما والقنوات الفضائية مكانته السحرية الممتعة. وقد تراجع المسرح أيضا لحساب الشعر والرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا. كما تراجع معه مسرح الطفل، ومسرح الشباب، ومسرح الهواة، والمسرح الجامعي، والمسرح الاحترافي. ومن ثم، لم يعد المسرح اليوم مهنة أو حرفة تؤمن عيش الفنان، أو يمكن أن يقتات بها الممثلون أو المؤلفون أو المخرجون أو التقنيون، بل أصبح المسرح مجرد هواية أو فن لتزجية الوقت، وتسلية الناس وترفيههم. علاوة على ذلك، فقد تخلت الدولة عن دورها الهام في دعم المسرح ماديا وماليا، وتشجيعه معنويا وثقافيا؛ لأن المسرح يشكل خطرا دائما، يؤرق الدولة، ويقض مضجعها، مادام هذا المسرح ينتقد السلطة بشكل من الأشكال، وذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة،. ويقوم بتوعية الجماهير الشعبية تلميحا وإيحاء وتحريضا، وهذا ما لا تقبله السلطات الحاكمة التي ترى فيه عدوا خطيرا من الدرجة الأولى، ينبغي محاربته بجميع الأسلحة الفتاكة، وصده بشتى الوسائل سواء أكانت شرعية أم غير شرعية، ومنعه بأي حال من الأحوال من الانتشار والرواج والتداول.
وعلى الرغم من ذلك، فلا يمكن الحديث إطلاقا عن نهضة ثقافية عربية، أو عن تقدم حقيقي في غياب المسرح. فرقي الأمة وازدهارها مرتبط أشد الارتباط بعدد المسارح والمعاهد الفنية. لذا، لابد من التفكير في إستراتيجية عربية لتنمية المسرح، ولايمكن أن يتحقق هذا إلا في مجتمع ديمقراطي؛ لأن المجتمع اليوناني الذي تطور فيه المسرح بكل أنواعه كان مجتمعا ديمقراطيا، يؤمن بالتعددية، وحرية الرأي، ويقتنع بمبدإ الاختلاف، ويمتثل لروح الحوار البناء. إذاً، ماهي أهم الاقتراحات لتحقيق التنمية المسرحية في العالم العربي؟

1- توفيـــر البنيــــات التحتيــة:

لايمكن الحديث عن نهضة ثقافية في بلد ما إلا بتشييد قاعات العروض المسرحية،وتشجيع الناس على الإقبال عليها بشكل لافت للانتباه، باعتبار أن المسرح أداة للتوعية والتنوير والتثقيف، ووسيلة لمحاربة الأمية والجهل. ويعد المسرح كذلك مسلكا حقيقيا للإفادة والإقناع والإمتاع. ولايمكن للمسرح العربي أن يحقق ازدهاره إلا بتشييد المسارح الفنية الواسعة والرحبة، وإنشاء المعاهد التابعة لها للتعليم والتكوين والتأطير. زد على ذلك، لابد من بناء المركبات الثقافية التي تتوفر على قاعات للمسرح، ومكتبات فنية، وقاعات للتدريب والتكوين والتأطير، وذلك بغية تقديم فرجات درامية سواء أكانت تراجيدية أم كوميدية أم مختلطة تجمع بين الملهاة والمأساة. ولابد كذلك من مراعاة الخصوصيات الحضارية والثقافية حين بناء المسارح وتشييدها، حيث تخضع هندستها المعمارية للخصوصية العربية هوية وتأصيلا وتأسيسا. بمعنى أن تتلاءم المسارح مع الفضاءات العربية الفرجوية (الأسواق، والمواسم، والزوايا، والأضرحة، والملاعب، والساحات...)، كأن تؤسس الدولة أو المؤسسات الخاصة مسارح دائرية أو شبه دائرية في فضاءات مفتوحة، كفضاء الحلقة، وفضاءات المسرح الاحتفالي...، مع التحرر من الفضاءات المسرحية الغربية المغلقة، بما فيها مسرح العلبة الإيطالية.

2- التشجيع المادي والمالي والمعنوي:

لايمكن للمسرح العربي أن يحقق نهضته الفنية والثقافية المرجوة إلا بالدعم الحقيقي، وتوفير الإمكانات المادية والمالية. بمعنى أن المسرح لايمكن أن يزدهر في ظل غياب التجهيزات المادية والتقنية والرقمية، أو في ظل غياب الإمكانات المالية. لأن المسرح لايمكن أن يتحقق بدون تمويل حقيقي وفعال. فلابد من تقديم منح وهبات تشجيعية، وذلك في شكل مساعدات، للفرق والجمعيات والنوادي المسرحية، من أجل استكمال عملها الفني التأسيسي أو التجريبي. ولابد للدولة أو المؤسسات الخاصة أن تدعم بكل إمكاناتها المتوفرة المسرح التجريبي القائم على البحث والابتكار والاستكشاف؛ لأن هذا المسرح أساس النهضة الثقافية الحقيقية، ونواة التميز والإبداع والتفرد عربيا وعالميا. وبتعبير آخر، على الدولة أن تشجع بكل ما أوتيت من إمكانات وطاقات المسرح التجريبي ماديا وماليا ومعنويا، من أجل أن ينتج هذا المسرح، عبر طاقاته الإبداعية المتميزة والخارقة، نظريات وممارسات متفردة، أو يقدم لنا فرجات عربية نموذجية وحداثية لها قصب السبق عربيا وعالميا. ولأجرأة هذا التصور، يتعين على الدولة أو المحافظات أو البلديات المحلية أن تخصص نسبة 1% من ميزانيتها للمسرح.

3- التأطير والتكوين في المجال المسرحي:

تستلزم تنمية المسرح العربي على جميع المستويات والأصعدة أن تشرف الدولة أو المؤسسات الخاصة على تكوين الممثلين والمخرجين والتقنيين والمؤلفين تكوينا جديدا، وذلك في ضوء النظريات الحديثة والمعاصرة. ويشمل التكوين معرفة تقنيات التمثيل والتشخيص، والاطلاع على مبادىء السينوغرافيا، وتمثل نظريات الإخراج، وإتقان آليات الكوريغرافيا، واكتساب تقنيات التأليف المسرحي، ومعرفة طرائق الإعداد الدراماتورجي للنصوص. ويعني هذا إخضاع المسرح العربي لقواعد الفن والعلم، مع الاستعانة بالموهبة المصقولة. وبتعبير آخر، أصبح من الضروري تكوين الممثلين في معاهد الرقص والموسيقا والتشكيل والرياضة البدنية، ودفعهم لتعرف علوم الترتيل والتجويد والخطابة، والاطلاع على اللسانيات الصوتية، ودراسة تاريخ الفنون والآداب والعلوم، واستيعاب آليات مدارس التشخيص، وتقنيات الإخراج.

4- تطوير السينوغرافيا المسرحيــة:

تعرف السينوغرافيا بكونها علم تصوير الخشبة أو المنظر الركحي، ويهتم هذا العلم كذلك بالديكور، ومعمار الخشبة المسرحية. وتعد السينوغرافيا بمثابة تقنية إخراجية ترصد الجوانب البصرية والهندسية للعرض المسرحي، من إضاءة، وموسيقا، وتشكيل، وتقسيم للخشبة، واهتمام بالكوريغرافيا، والأزياء، والماكياج.

وإذا كان العرض المسرحي يحمل دلالات لغوية منطوقة مباشرة أو غير مباشرة، فإن السينوغرافيا تقوم بمهمة التوضيح والتفسير والشرح. أي: تؤول بصريا كل العلامات الغامضة، وتشرح بالملموس الفيزيقي كل الدلالات الملتبسة الغامضة، وتفكك كل الإشارات السيميائية أو الرمزية، وذلك من خلال ربطها بمرجع بصري حسي. ويعني هذا أن السينوغرافيا تنقل النص المسرحي من خاصيته التجريدية إلى عالم التجسيد البصري، والممارسة الركحية، والتفسير الأيقوني، والتمثيل الحركي، والكوريغرافيا الجسدية. ومن هنا، تتكون السينوغرافيا بصفة عامة من الأزياء، والماكياج، والكتل البشرية، والديكور، والإضاءة، والموسيقا، وتنظيم الخشبة، وبناء المناظر والديكور. ويعني هذا أن السينوغرافيا أشمل من الديكور والمعمار المسرحي. ومن ثم، فلها وظائف فنية وبصرية وجمالية ومرجعية، لاتتحدد إلا حسب سياق العرض المسرحي، وحسب متوالياته المشهدية، وفصوله الدرامية.

هذا، وقد تطورت السينوغرافيا من فن الزخرفة والديكور وهندسة المعمار إلى فن خلق الصور والرؤى، وذلك من خلال تفعيل الإضاءة والألوان والتشكيل والشعر والآليات الرقمية والمعطيات السينمائية الموحية.

ونخلص من كل هذا أنه آن الأوان لتنويع السينوغرافيا المشهدية، كأن نوظف السينوغرافيا التاريخية، والسينوغرافيا الأسطورية، والسينوغرافيا الاحتفالية، والسينوغرافيا الشاعرية، والسينوغرافيا الكروتيسكية، والسينوغرافيا البلاستيكية، والسينوغرافيا الكوريغرافية، والسينوغرافيا السيميائية، والسينوغرافيا الإثنوسينولوجية، والسينوغرافيا التجريدية، والسينوغرافيا الدادائية، والسينوغرافيا التكعيبية، والسينوغرافيا السريالية، والسينوغرافيا العبثية، والسينوغرافيا الواقعية، والسينوغرافيا الطبيعية، وسينوغرافيا اللامعقول، والسينوغرافيا الأنتروبولوجية...، دون نسيان الاهتمام بالسنوغرافيات المعاصرة، كالسينوغرافيا الرقمية، والسينوغرافيا السينمائية، والسينوغرافيا التشكيلية، بدلا من الاكتفاء بتقنيات المسرح الفقير. ولابد كذلك من استغلال تقنيات فن التشكيل وخدع الطبع والتصوير، بدلا من إعداد سينوغرافيات ثقيلة ومكلفة ومرهقة. ويعني هذا أنه لابد من الاستفادة من التكنولوجيا المعاصرة في خلق سينوغرافيا مسرحية أكثر اقتصادا وتلوينا وإبهارا وإدهاشا للمتلقي الراصد، مع تأثيث ديكور العروض المسرحية تأثيثا ورقيا وبلاستيكيا بطرائق جديدة، وذلك لأداء رسالات محددة تلميحا وإيحاء وتوهيما.

5- البحث عن نظريات مسرحية جديدة لتطوير المسرح العربي:

من المعروف أن الإبداع المسرحي لا يمكن أن يحقق جودته ووجوده وهويته وكينونته الحقيقية إلا من خلال الجمع بين النظرية والممارسة، وذلك في علاقة جدلية ملتحمة ومترابطة ترابطا بنيويا وعضويا. و يعني هذا أن المسرح لا يمكن أن يستمر، أو يحقق التقدم والازدهار، أو يفرض نفسه في الساحة الثقافية المحلية أو العربية أو العالمية، إلا إذا كان مدعما بنظرية فلسفية أو فنية، وذلك في شكل نسق من التصورات الفكرية والجمالية، وشبكة من المقاصد والأهداف والغايات، تروم تجديد المسرح بنية وتصورا، وتحديثه تجنيسا و تأسيسا وتأصيلا، مع طرح مجموعة من الأجوبة لأسئلة تتعلق بالوجود والإنسان والمعرفة والقيم.

ومن بين الحقول المعرفية التي عرفت التنظيرات بكثرة، نذكر: الحقل أو المجال المسرحي، فقد بدأ كثير من المبدعين وعلماء المسرح يصدرون بيانات وأوراق ومشاريع ودراسات تحمل في طياتها تأملات تنظيرية، وذلك لفهم المسرح العربي من كل جوانبه المرجعية والجمالية والفنية، ووضع أسسه الفكرية والجمالية، قصد تأسيس مسرح عربي أصيل. وغالبا ما ينبني التنظير المسرحي على تحديد ماهية المسرح، وذكر مقوماته، والإشارة إلى تبعية المسرح العربي للغرب أو عدم تبعيته له. وبعد ذلك، ينتقل المنظر إلى رصد القواعد والمبادئ والأصول النظرية، وذلك سواء على المستوى الفكري أو على المستوى الفني والجمالي، مع تحديد الوظيفة والغرض من هذا التنظير الجديد.

ومن المعروف جيدا، أن التنظير المسرحي ليس جديدا في الساحة الثقافية العربية، بل كان معروفا لدى الغربيين، فقد وجدناه عند أرسطو في كتابه:" فن الشعر"، وبرتولود بريخت في:" الأرغانون الصغير"، وكوردون كريك في نظريته حول إصلاح المسرح، و دنبيس ديدرو حول:" تناقضات الممثل"، وفيكتور هيجو في مقدمة مسرحيته:" هرناني"، الداعية إلى تكسير الوحدات الأرسطية الثلاث، وبيتر بروك في نظريته المتعلقة بـ:"المساحة الفارغة"، وجيرزي كروتوفسكي صاحب:" نظرية المسرح الفقير"، وأنطونان أرطو صاحب المنهج الحركي و"مسرح القسوة"، وستانسلافسكي صاحب نظرية إعداد الممثل...وآخرين.

هذا، وقد عرفت الساحة الثقافية العربية في مجال المسرح منذ منتصف ستينيات القرن العشرين إلى يومنا هذا مجموعة من النظريات والبيانات والأوراق والتصورات الدرامية، التي حاولت البحث عن هوية المسرح العربي تأسيسا وتجنيسا وتجريبا وتأصيلا، سواء أكان ذلك على مستوى المضمون أم على مستوى الشكل أم هما معا. وكل هذا من أجل مواجهة الاستلاب الحضاري والتغريب والمسخ الثقافي.

ومن بين النظريات المسرحية المعروفة عربيا مسرح المقلداتي مع توفيق الحكيم، ومسرح السامر مع يوسف إدريس، والكوميديا المرتجلة مع علي الراعي، والاحتفالية مع عبد الكريم برشيد، ومسرح التسييس مع سعد الله ونوس ودريد لحام، والمسرح الحكواتي مع روجيه عساف، ومسرح الصورة مع صلاح القصب، والمسرح التراثي مع عز الدين المدني، ومسرح الگوال مع عبد القادر علولة، ومسرح النفي والشهادة مع محمد مسكين، والمسرح الثالث مع المسكيني الصغير، والبيان الجدلي مع عبد القادر عبابو، ونظرية الافتراض الجمالي مع نوال بنبراهيم، والنظرية الإسلامية مع عماد الدين خليل ونجيب الكيلاني وجميل حمداوي، ونظرية الاستدراك مع أحمد ظريف، و نظرية المرتجلات مع محمد الكغاط، والكوميديا السوداء مع لحسن قناني ومصطفى رمضاني، والمسرح الفردي مع عبد الحق الزروالي، والنظرية المهنية مع سعيد الناجي، والاحتفالية الجديدة مع محمد الوادي...

وما أحوجنا اليوم إلى نظريات مسرحية جديدة لتفعيل دور المسرح، وتطوير الركح العربي تجريبا وتأسيسا وتأصيلا، وتنويع الريبرتوار المسرحي، وتحقيق التراكم والإنتاج الإبداعي تأليفا وتأثيثا وإخراجا ونقدا!

6- تطويــر النقد المسرحي:

آن الأوان لتطوير النقد المسرحي العربي، وتجاوز المقاربات السائدة، كالمقاربة الفنية، والمقاربة الانطباعية، والمقاربة الصحافية، والمقاربة التاريخية، والمقاربة المرجعية. واستبدال كل ذلك بالمناهج النصية، ولاسيما المناهج المعاصرة سواء أكنت سيميائية أم تفكيكية أم تداولية أم أسلوبية أم قرائية. والمنهج الأصلح لتناول قضايا المسرح العربي، وتحليل عروضه ونصوصه هو المنهج السيميولوجي، الذي يتناول المعطى الدرامي تفكيكا وتركيبا، وذلك قصد التوصل إلى البنى العميقة التي تتحكم في العرض المسرحي توليدا وتكونا وبناء، وتحديد آليات الانتقال من البنية السطحية إلى البنية العميقة، وذلك بغية معرفة طرائق انبثاق المعنى، معتمدين في ذلك على طريقة المستويات والبنى المنهجية لمعرفة كيفية تشكيل الدلالة النصية في هذا العرض المسرحي.

هذا، ويتم التركيز، في إطار المقاربة السيميائية، على مساراتها المنهجية، كالمسار السردي، والمسار التمثيلي، والمسار التصويري، والمسار التوليدي، والمسار التلفظي.

هذا،وتتطلب المقاربة السيميوطيقية في التعامل مع العرض المسرحي والدرامي أثناء عمليتي: التفكيك والتركيب البنيويين، الانطلاق من مجموعة من النصوص المتداخلة والمتراكبة داخل العرض الميزانسيني، التي يمكن حصرها في: نص المؤلف، ونص الممثل، ونص المخرج، ونص السينوغراف، ونص الراصد. ومن ثم، يصعب الإحاطة سيميائيا بكل تلك النصوص الشائكة والمعقدة. كما يعد المسرح في تركيبته البنائية والجمالية فنا شاملا وأب الفنون. وبالتالي، فهذا يتطلب من السيميوطيقي الإلمام بمجموعة من العلوم والمعارف والفنون والصور، وذلك للاستهداء بها في أثناء عملية التشريح والتحليل، كمعرفة تقنيات السينما والموسيقى والأدب والتشكيل والرقص والنحت، والإلمام أيضا بتقنيات الإضاءة والسينوغرافيا ودراسة المنظور...
ولا نكتفي بسيميائية الفعل والعمل كما عند كريماص وجوزيف كورتيس ورواد مدرسة باريس، بل ننتقل إلى سيميائية العلامات والرموز لدى بورس، فسيميائية الذات والأهواء والعواطف والانفعالات كما عند كريماص وجاك فونتانيي، ثم البحث عن مفاهيم جديدة نظرية وتطبيقية لمقاربة النصوص والخطابات الاستهوائية. ونضيف إليها سيميائية الكلام والحوار والتواصل،مستلهمين نظرية سيميائية الكلام الروائي عند الباحث المغربي محمد الداهي.
ويمكن الاستعانة أيضا بالمقاربة الإثنوسينولوجية التي ترتكز على مجموعة من المبادئ النظرية والتطبيقية، ويمكن حصرها في النقط التالية:

مقاربة الظواهر الثقافية الإثنوغرافية، وذلك باعتبارها فرجات شعبية وممارسات أدائية احتفالية.

 تحديد مكونات الأشكال الفرجوية، وترسم طرائق اشتغالها، وتتبع تطورها أو نكوصها.

 رصد الأشكال التعبيرية والفرجات المسرحية في أبعادها التاريخية والأنتروبولوجية والفلسفية، مع تحديد بنياتها الشكلية، واستخلاص عناصرها البنيوية والسيميائية الثابتة والمتغيرة، كأن ندرس فن الحلقة بالمغرب مثلا، وذلك بمعرفة تاريخها، ورصد مكوناتها السيميائية اللفظية وغير اللفظية، وتعرف بناها الفنية والجمالية والكوريغرافية والإيقاعية، وتحليل خطابها الدلالي، واستقراء أبعادها الأنتروبولوجية والطقسية والفلسفية، وعلاقة تلك الفرجة الاحتفالية بالإنسان والمجتمع.

 البحث عن العلاقات المفترضة بين الأشكال الفرجوية الثقافية بالفن المسرحي، وهل يمكن اعتبارها رافدا من روافده أم هي شكل فني مستقل له هدفه وكيانه الخاص؟

 معرفة كيفية استثمار أشكال الفرجات الفطرية أو محتوياتها التراثية، والإفادة من بعض أجوائها لتطعيم العرض المسرحي بمزيد من الأصالة والثراء والتأسيس.

 الاعتماد على منهجية الملاحظة والإدراك والوصف و التحليل والتأويل، ووصف الأشكال الفرجوية بطريقة علمية موضوعية.

 البحث عن الفني والجمالي والدرامي في تلك الظواهر الفرجوية الثقافية الأنتروبولوجية، سواء أكانت تلك الظواهر بسيطة أم مركبة.

 دراسة تلك الفرجات الشعبية الفلكلورية على ضوء مناهج علمية متعددة ومتداخلة، وذلك من أجل تكوين فهم أدق وأعمق بجماليات الفرجة، ومعرفة طرائق اشتغالها أداء وعرضا وفضاء وجسدا وتصويتا وتنغيما.

 التعامل مع الممارسات الفرجوية الإثنوغرافية، وذلك باعتبارها ظواهر رمزية وسيميائية، وأشكالا علاماتية تستوجب الوصف والتفكيك والتركيب.

 ربط الفرجة الفلكلورية بكل مكوناتها الجسدية والموسيقية والحركية وطقوسها الأنتروبولوجية والمشهدية.

 البحث عن مواطن الإبداع والأصالة في تلك الممارسات الفرجوية الشعبية الاحتفالية ذات البعد اللامادي.

7- الاهتمام بالفرجات الإثنوسينولوجية:

تدرس الإثنوسينولوجيا (L’ethnoscénologie)، وذلك حسب جان ماري براديي( Jean-Marie PRADIER)، مختلف الممارسات الفرجوية والسلوكيات الإنسانية في مختلف ثقافات شعوب العالم، وذلك في أشكالها المنظمة وصيغها المقننة. أي: إنها تدرس الفرجات الشعبية القديمة والأشكال التعبيرية الثقافية الأصيلة. وبالتالي، فهي تدرس جميع ثقافات شعوب العالم ذات الطابع الفلكلوري دون استثناء، ولاسيما التي لم تعرف فن المسرح بالمفهوم الغربي لكلمة المسرح.

وبتعبير آخر، فالإثنوسينولوجيا مجموعة من الفرجات الفطرية والثقافات الإثنية المتنوعة، وهي كذلك مجموعة من الأنشطة الإنسانية الحية المتنوعة، ومجمل الفنون المشهدية الاحتفالية والظواهر البشرية سواء أكانت فردية أم جماعية، والتي يغلب عليها الطابع المشهدي المنظم. وفي إطار هذه الأنشطة والفنون الشعبية، يمكن الحديث عن الألعاب، والأعياد، والاحتفالات، والطقوس، والحركات الصامتة، والرقص، والموسيقى، والرياضة، والجسد، والتراجيديا، والكوميديا، والفكاهة، والأمكنة الدرامية المفتوحة وفضاءات الهواء الطلق...؛ لأن المسرح الغربي مرتبط في جوهره بالفضاءات المغلقة، وخاصة العلبة الإيطالية. في حين، نجد أن عرض الفرجات الشعبية الثقافية رهين بفضاءات احتفالية شعبية مفتوحة.

ويعني هذا أن الإثنوسينولوجيا تدرس الثقافة الشعبية والفرجات الفلكلورية المتنوعة، وذلك في مفرداتها ومكوناتها وتلاقحها واندماجها وعطاءاتها. زد على ذلك، تدرس الإثنوسينولوجيا جميع الأشكال التعبيرية الإنسانية سواء أكانت مقدسة أم دنيوية، مكتوبة أم شفوية، ذات ثقافة عالمة أم شعبية، احترافية أم غير احترافية، تقليدية أم معاصرة، كل هذا من أجل خدمة التراث الثقافي اللامادي للبشرية، والدفاع عنه بشكل من الأشكال. وعلى العموم، تهتم الإثنوسينولوجيا (L’ethnoscénologie)، باعتبارها علما متعدد الاختصاصات والفروع والشعب، بجماليات تجسيد المتخيل، وتمثيله فنيا وجماليا، وتشخيصه دراميا وفرجويا. كما تهتم الإثنوسينولوجيا بدراسة الظواهر الثقافية العالمية ذات البعد الإثنوغرافي والعرقي والسلالي، والتي تحمل في طياتها فرجات مشهدية مختلفة عن فن المسرح. والمقصود من هذا أن الإثنوسينولوجيا تبحث في الأشكال الفرجوية الفطرية العريقة والأصيلة المختلفة عن بنية المسرح الغربي الأرسطي. أي: إن مجموعة من الفرجات الإنسانية والأشكال الثقافية والظواهر الإبداعية الفردية والجماعية قد تحمل في طياتها فنيات أسلوبية وتقنية، وأفكارا جادة وهامة، ومتعة جمالية، ويمكن أن تتضمن كذلك معارف بيداغوجية تطبيقية، وتحوي ابتكارات إجرائية و تقنية وجمالية، وذلك على مستوى الأداء والتعبير والتشكيل. وكل هذا يمكن أن يستفيد منه الطلبة والأساتذة الباحثون في مجال المسرح والفنون والعروض الفرجوية والمشهدية. ونستحضر من بين هذه الفنون والفرجات الفطرية العريقة: النو، والكابوكي، وكاطاكالي، وأوبيرا بكين (Opéra Pékin)، والكوميديا دي لارتي، والكراكوز، وتعزية الشيعة، وخيال الظل، والحلقة، والمداح، والحكواتي، وسلطان الطلبة، واعبيدات الرما، والسامر، والمقلداتي، والبساط، والجذبات الصوفية (العيساوة)، والعرائس، والأقنعة، والأعراس الأمازيغية...

ومن هنا، يظهر لنا أن الإثنوسينولوجيا شعبة علمية جديدة تهتم بدراسة الأفكار القديمة، وتعنى بالإبداع الفني والجمالي، ومقاربة الفرجات الفلكلورية في ضوء مناهج النقد العلمي الموضوعي. وبالتالي، فهي متعددة المشارب والمصادر، وقد تشكلت انطلاقتها الأولى في مجال الفنون المشهدية، وتبلورت كذلك داخل النطاق الجامعي، وداخل أروقة اليونسكو ودار ثقافات العالم. وفي العموم، الإثنوسينولوجيا مقاربة أنتروبولوجية وإثنوغرافية للفرجة الإنسانية نظريا وتطبيقيا، إن درسا وإن عرضا.

وقد حان الوقت اليوم للاهتمام بالإثنوسينولوجيا المسرحية، ودراسة جميع الظواهر الفرجوية الشعبية العربية بصفة خاصة والعالمية بصفة عامة. ويمكن استعراض هذه الفرجات في مركبات ثقافية عامة أو خاصة، أو في ساحات عمومية أو رياضية أو فنية أو ثقافية مفتوحة، تشرف عليها مؤسسات الدولة أو مؤسسات خاصة، يحضرها النقاد والمبدعون والمهتمون بالمسرح والثراث الشعبي، فتعرض جميع الفرجات الشعبية الفطرية أمام نخبة من النقاد والمبدعين والأكاديميين وطلبة المسرح، من أجل الاطلاع عليها، وتقويمها دلالة وصياغة ومقصدية، والاستفادة منها إخراجيا (ميزانسينيا ) في بناء الدراما العربية المعاصرة.

8- الاهتمام بمسرح الطفل ومسرح الشباب والمسرح الجامعي:

ينبغي على المؤسسات الحكومية المشرفة على قطاع التثقيف والفعل الدرامي أن تهتم بمسرح الطفل اهتماما كبيرا، و تعمل على تشجيعه ماديا ومعنويا. كما ينبغي على وزارات التربية والتعليم والمعارف في وطننا العربي أن تبادر إلى تدريس المسرح بالتعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي والجامعي. كما نطالبها أيضا بخلق مباريات ومهرجانات ومسابقات ولقاءات وندوات لتنشيط مسرح الأطفال أو المسرح المدرسي بكل فروعه وأنواعه، من أجل مسايرة الحداثة الحقيقية، وذلك بخدمة الطفل خدمة صحيحة، ومراعاة حقوقه الطبيعية والمكتسبة.
ولابد من الاهتمام كذلك بمسرح الشباب باعتباره ظاهرة اجتماعية صحية في المجتمع العربي، وتكوين هؤلاء الشباب والفتيان تكوينا فنيا وجماليا وأخلاقيا وتربويا؛ لأن مسرح الشباب يحمل رسالة نبيلة ومسؤولية جسيمة، تتمثل في رفع مستوى الوعي المعرفي لدى الشباب. وبالتالي، تسمح لهم بحرية التعبير أدبيا ودراميا عن قضايا الواقع الموضوعي، والإحاطة بمشاكله العديدة الشائكة، وذلك عبر المعالجة الجدية، والانتقاد الصارخ، ناهيك عن رصد همومهم الداخلية، واستبطان دواخلهم الشعورية واللاشعورية، بارتجالية تامة، وعفوية صادقة، وحوارات متقدة.

ولايمكن الحديث إطلاقا عن أمة متحضرة وواعية وراقية في غياب مؤسسات المسرح بكل أنواعها العمرية والكيفية، وغياب الثقافة الجمالية والفنية، فالأمم المتقدمة تعرف بعدد مسارحها ومدارسها ومعاهدها وجامعاتها ليس إلا.

9- تشجيع المسرح القرائي داخل المؤسسات التربوية:

لايمكن لأمة ما أن تحقق التقدم والازدهار والرقي إلا برعاية المسرح رعاية صادقة وحقيقية، والاعتناء به بشتى السبل، وتدريسه في المؤسسات التعليمية والتربوية، وإدخاله ضمن مقررات الشعب في المؤسسات الجامعية والمعاهد الأكاديمية. ويعني هذا أن يتحول المسرح إلى مادة تعليمية- تعلمية من جهة، وطريقة للتدريس الحديث والفعال من جهة أخرى، وذلك ضمن ما يسمى بالمسرح القرائي، أو المسرح التعليمي، أو المسرح المدرسي،أو مسرح الطفل، أو مسرح الشباب، أو المسرح الجامعي.

والمقصود بالقراءة المسرحية أو الممسرحة أن يقدم المدرس درس القراءة اعتمادا على التمثيل والتشخيص، وتحويل النص القرائي إلى نص مسرحي، أو تمثل مقومات الدراما والمسرح، لتحسين مهارة القراءة لدى المتعلمين. ومن ثم، يصبح التلميذ في هذا السياق التربوي والتعليمي قارئا مسرحيا بامتياز.

وبناء على ماسبق، فمسرح القارئ Readers Theatre هو الذي يهدف إلى مسرحة القراءة الصفية، عن طريق توفير كل الظروف الدرامية الممكنة لجعل المتعلم يتفاعل إيجابيا وديناميكيا مع درس القراءة، وذلك من خلال الجمع بين هدف التعليم وهدف اللعب، وبين والترفيه والتسلية، قصد خلق الحيوية والحب والسعادة، مع العمل بصدق وجدية على تحقيق الحياة المدرسية الناجحة والفعالة.

وهكذا، فاستخدام الدراما أو المسرح من أهم التقنيات الديداكتيكية والبيداغوجية التي تسعف المتمدرس على التحكم في مهارة القراءة الصفية وغير الصفية، وتحسين مستواها أداء وتعبيرا وتواصلا وتشخيصا. كما أن مسرحة القراءة تساعد التلميذ على فهم الدرس القرائي فهما جيدا، واستيعابه بسهولة ويسر ومرونة، مع الاستمتاع به تسلية وترفيها، مادام هذا الدرس يؤدى عن طريق الدراما والمسرح. وبذلك، يولد هذا النوع من المسرح في نفوس المتعلمين حب القراءة بنهم كبير، وإقبال شديد؛ لأنهم يجدون فيه متعة وجدانية، وراحة نفسية، وسعادة روحانية، وحياة مدرسية زاخرة بالحركة والنشاط والتفاعل الديناميكي.

كما تسعف القراءة الممسرحة المدرس على إخراج التلاميذ من شرودهم وعزلتهم وانطوائهم وانكماشهم، وذلك عن طريق إدماجهم في أدوار مسرحية وجماعات فاعلة، لكي يساهموا في تنشيط الفعل القرائي، وذلك عبر أداء مجموعة من الأدوار البشرية والواقعية. ويعني هذا أن القراءة الممسرحة تطهرهم من أدران الشر والحقد والعدوان، وذلك عن طريق إثارة الخوف والشفقة، كما تحررهم من نوازع النفس الأمارة بالسوء، وتخلصهم من عقدهم المكبوتة، عبر التفريغ، والتسامي، واللعب، والتقمص، والتشخيص الدرامي.

وعليه، فما أحوجنا اليوم إلى تطبيق المسرح في تعليم القراءة ضمن منظومتنا التعليمية والتربوية! لما له من دور إيجابي في تسهيل عملية استيعاب الدروس، وذلك عن طريق الجمع بين التعلم والمتعة، والتعليم والترفيه.

ولا يتصور المدرس أن مسرحة القراءة مكلفة أو صعبة المران، تستلزم التكوين العميق في مجال الفنون الجميلة بصفة عامة وفن المسرح بصفة خاصة، كما تتطلب مجموعة من الإمكانيات المادية والمالية التي يصعب الحصول عليها. لأن المعلم دائما " يرتاب من كلمة " مسرح"، فيتبادر إلى ذهنه خشبة المسرح، وما يتبعها من مؤثرات وديكورات وأزياء وساعات من الحفظ والتدريب والمران. بينما الأمر أسهل من ذلك بكثير، إذ هو لا يعدو في الحقيقة مجموعة من التلاميذ، يقفون على خشبة المسرح الذي هو في الحقيقة مقدمة الصف، ويمثلون أدوارهم الصغيرة، من دون حاجة إلى أي مؤثرات أو مشاهد أو ديكورات، ما خلا ورقة النص التي يحملونها بأيديهم"#. وهكذا، فمسرحة القراءة وسيلة مهمة وناجعة، وطريقة ديداكتيكية هادفة، وتقنية بيداغوجية فعالة لتحقيق مدرسة النجاح والإبداع.

10- بين الهواية والاحتراف:

ينبغي أن يكون المسرح العربي محترفا، وذا خصوصية مهنية من جهة، مع الحفاظ على مسرح الهواية من جهة أخرى، وكل ذلك من أجل أن يبقى المسرح حيا نابضا بالحياة والحركة والتطور. ومن المعلوم أن المسرح الاحترافي هو الذي يحقق إلى حد ما كرامة الممثلين، ويدافع عن جميع حقوقهم الطبيعية والمكتسبة، ثم يحافظ على أنفتهم داخل المجتمع الليبرالي، وذلك عن طريق تأطيرهم داخل مؤسسات فنية احترافية منظمة قانونا وتشريعا. إن هذا النوع من المسرح المنظم والخاضع للتأسيس القانوني والتشريعي هو البديل المستقبلي للمسرح العربي:"إن التسليم بتراكم المسرح [العربي] كما وكيفا يقضي بضرورة تفريغه في إطار مهني احترافي، يوفر له سندا على الصعيد القانوني والتنظيمي، على اعتبار أن المهنية هي مرحلة نضج الممارسة الفنية، وبلوغها نوعا من التردد، يلزم بتوضيح موقع ممارسيها، وموقع نوازلها داخل شبكة اجتماعية للممارسة الفنية. إن المهنية اعتراف بممارسة فنية وبوقائعها ضمن ما يعترف به في المجتمع من ممارسات ووقائع حرفية ومهنية وغيرها. "#

ويعني هذا أن النظرية المهنية هي التي تربط المسرح بالاحتراف، والاشتغال داخل إطار قانوني ونقابي منظم، وتنظيم العملية المسرحية تأليفا واقتباسا وتشخيصا وإخراجا وتأثيثا. كما تربط هذه النظرية الاحترافية الفرجة المسرحية بمؤسسة العرض ترويجا وإنتاجا وتقديما، وتقرنها بفكرة التسويق القائمة على شباك التذاكر. لكن دون التفريط في مقومات مسرح الهواة، وذلك عن طريق الدعم المالي، والتشجيع المادي والمعنوي.

11- إنشاء هيئة أو جمعية لرجال المسرح والنقاد المسرحيين:

لايمكن للمسرح العربي أن يحقق تطوره الحقيقي إلا بتأسيس جميعة أو هيئة لرجال المسرح بصفة عامة، تهتم بهمومهم ومشاكلهم، وتدافع عن حقوقهم المشروعة، وتعرفهم بواجباتهم ومكتساباتهم. كما ينبغي أن تكون هناك هيئة أخرى لنقاد المسرح للبحث عن أسباب تراجع المسرح العربي، والسعي نحو إيجاد الحلول الكفيلة لكل المشاكل التي تعاني منها الدراما العربية، وتحديد الخطط الناجعة لإنقاذها بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، مع تبيان مختلف التصورات الإستراتيجية للسمو بالمسرح نحو مدى أرحب وأفضل. ولن يتحقق كل هذا إلا بوجود جمعية أو رابطة أو ناد أو هيئة عليا تجمع النقاد المسرحيين، ولاسيما النقاد المعاصرين الأكفاء الذين يمتلكون أدوات القراءة والتحليل والتقويم والتوجيه والنقد الحداثي. والآتي، أن تكون لديهم خبرة وفيرة، وعدة منهجية صلبة، وتجربة محنكة ومتمرسة في هذا المجال. وليس كل من يؤرخ للظاهرة المسرحية، أو يدرسها دراسة أكاديمية، أو يعد رسالة أو أطروحة جامعية، يعتبرا ناقدا، فالنقد موهبة معرفية، وكفاءة منهجية مصقولة، وممارسة إجرائية نصية متقنة.

وفعلا، فقد تأسست جمعيات وهيئات تضم مجموعة من نقاد المسرح البارزين، كالجمعية العربية لنقاد المسرح العربي بمصر، والهيئة العربية لنقاد المسرح بالإمارات العربية المتحدة. وثمة نقابات وهيئات أخرى تضم رجال المسرح في مختلف ربوع الوطن العربي، لكن يجب تفعيلها تفعيلا ديناميكيا حقيقيا، لكي تؤدي أدوارها المنوطة بها، ولابد من تنفيذ أنشطتها المبرمجة سنويا،وأجرأتها على أرض الواقع على أحسن وجه.

12- نحو مسرح الجمال والجودة:

يكون العرض المسرحي جميلا وجيدا، عندما يخلق المخرج عرضا جماليا متكاملا متناغما، تنسجم فيه جميع العناصر والمكونات داخل هرمونية فنية متناسقة. ويكون العرض جميلا كذلك، عندما يترك وقعا جماليا على المتفرج بمفهوم يوس وإيزر، ويحقق لذة ومتعة حينما يتحقق التفاعل التواصلي على حد مفهوم رولان بارت، أو حينما يكون العرض المسرحي نصا مفتوحا، زاخرا بالدلالات السيميائية، والحمولات التناصية، والمستنسخات الذهنية، والانطباعات الجمالية، وذلك حسب تصورات أمبرطو إيكو. ويكون العرض خطابا جماليا جيدا، عندما يستجيب لأفق انتظار الراصد (القارئ)، إبهارا وإمتاعا وتكيفا، أو يخيب أفق انتظاره عن طريق الانزياح والإغراب والإدهاش، أو يؤسس ذوقه من جديد، وذلك من خلال تمثل مسافة جمالية جديدة ذات وقع جمالي آخر غير معهود من قبل.

هذا، ويختلف التقبل الجمالي من راصد إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، وهذا الاختلاف هو الذي يغني العرض الدرامي، ويثريه بالحيوية المتجددة، ودينامكية التأويل، وكثرة الملء الدلالي والمرجعي.

وتأسيسا على ماسبق، يتبين لنا بأن المسرح في جوهره الحقيقي هو - قبل كل شيء- عرض درامي ممتع، و فرجة لسانية وحركية متناغمة، ومشاهد كوريغرافية متناسقة، يتداخل فيها ماهو سمعي وماهو بصري. وفي الوقت نفسه، يهدف هذا المسرح إلى الإمتاع والإفادة، وتغيير المتلقي المتفرج ذهنيا ووجدانيا وحركيا، وصناعة فن جمالي جذاب.

12- إنشاء قناة فضائية خاصة بالمسرح:

ثمة مجموعة من القنوات الإعلامية الفضائية في الغرب تعنى بالمسرح في كل طقوسه وأنواعه وممارساته وتنظيراته، بينما نفتقد عربيا لقناة مسرحية متخصصة، إلا ما ما يتم إدراجه من برامج مسرحية ضمن القنوات الثقافية، كالقناة الثقافية المصرية أو القناة الثقافية السعودية. لذا، آن الأوان لإنشاء قناة عربية متميزة متخصصة في قضايا المسرح العربي، والبحث في نظرياته وممارساته الفرجوية. كما ينبغي أن تتكلف هذه القنوات التلفزية والفضائية والإعلامية بعرض مختلف المسرحيات العربية والغربية الكلاسيكية والتجريبية على حد سواء، مع تقديم برامج وندوات ثقافية حول العروض المسرحية، وتقديم دروس في مواد المسرح تمثيلا وتأليفا وإخراجا وتأثيثا. وهنا، يمكن الانفتاح على إنتاج المسرح العالمي وإبداعاته الفنية والجمالية لمعرفة مواطن التميز والقوة والنضج. وفي الوقت نفسه، ينبغي العمل بجدية على نقل التجارب المسرحية العربية القديمة والحديثة والمعاصرة، ومناقشتها رصدا وتحليلا وتقويما وتوجيها.

13- بناء المواقع الرقمية الخاصة بالمسرح:

بما أن عصرنا هو عصر المعلومات والرقميات، فمن الأفضل إنشاء مواقع إلكترونية خاصة بالمسرح، تعرف المتلقي الافتراضي بفن المسرح، وتقدم له تاريخه القديم والحديث، وتعرفه كذلك بمكوناته الفنية والجمالية، وتهتم بتوثيق المسرح العربي تحقيبا وتصنيفا وجمعا ودراسة، مع التعريف كذلك برجاله ومخرجيه ومبدعيه، فتقدم له دروسا تكوينية في شتى فروع المسرح، عن طريق استجماع النصوص والدراسات، وأرشفة الأنشطة والأبحاث والكتب والإبداعات المسرحية.

ومن المعلوم أن ثمة بعض المواقع العربية التي تعنى بالمسرح،سواء أكانت مدونات شخصية أم مواقع ثقافية عامة. ومن بين هذه المواقع الهامة، نذكر: موقع مسرحيون لقاسم مطرود،وموقع المسرح دوت.كوم، وموقع الفوانيس المسرحية، وموقع مسرحي... ولكن تبقى هذه المواقع غير كافية، وفي حاجة إلى التطوير اليومي لتتبع كل الأنشطة المسرحية في العالم العربي، مع الانفتاح على مختلف الأقلام المسرحية العربية.

تركيـــب واستنتــاج:

تلكم – إذاً- نظرة مقتضبة حول أهم عناصر الخطة الإستراتيجية لتحقيق التنمية المسرحية في عالمنا العربي، ولايمكن تحقيق هذه التنمية إلا في مجتمع ديمقراطي، يؤمن بالتعددية الحزبية، والاختلاف الفكري والسياسي، والحوار البناء، والانفتاح على الشعوب الأخرى حضارة وثقافة ومدنية. وقد قدمنا في هذه الورقة مجموعة من الاقتراحات والتصورات التي نراها ضرورية من أجل الرفع من مستوى المسرح العربي، والحفاظ على وجوده وهويته وكينونته. وبالتالي، لايمكن الحفاظ على الأمن والسلم العربيين إلا بإشغال الشباب، والإنصات إلى مواهبهم، وتشجيعهم على ممارسة الفن، ودفعهم إلى التعبير عن آرائهم بصراحة وحرية وديمقراطية، وإلا فسيأتي يوم سينفجر فيه الجميع، حيث سيحولون مسرح الكلمة والقمع والكبت والقهر إلى مسرح الممارسة والتفعيل والتغيير الشامل. وآنئذ، لايمكن أن نعود بعجلة التاريخ إلى الخلف.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى