السبت ٢٧ آب (أغسطس) ٢٠١١
مفهوم الحقيقة في الخطابين:
بقلم جميل حمداوي

الفلسفي والإبستمولوجي

توطئــــة:

تعد الحقيقة من أهم المفاهيم الفلسفية التي انشغل بها الخطاب الفلسفي قديما وحديثا؛ وما زالت الحقيقة تفرض ذاتها على الباحثين والمفكرين والفلاسفة سواء أكان ذلك في الغرب أم في الشرق، نظرا لقيمتها الأخلاقية التي يقوم عليها البناء الاجتماعي من أجل تحقيق الفضيلة، وتحصيل السعادة الكبرى عاجلا وآجل، أو لقيمتها الوجودية التي بها تتم معرفة الخالق والمخلوقات، أو لقيمتها المعرفية الضرورية لتقدم العلم والفنون والآداب والتكنولوجيا، بغية تحقيق الرقي والازدهار والتقدم، والرفع من مستوى الإنسانية ماديا ومعنويا.

وقد رأينا في أوراق الفكر الإسلامي ، وذلك مع المفكر المغربي الدكتور عابد الجابري (1935-2010م) في كتابه" بنية العقل العربي"، أن الفلاسفة كانوا يحصرون الحقيقة في البرهان العقلاني، بينما المتصوفة كانوا يحصرونها في العرفان الوجداني والمعرفة الذوقية واللدنية. في حين، نجد أهل الظاهر يحصرونها في البيان وظاهر النص، بينما علماء الكلام من معتزلة وأشاعرة وماتريدية وشيعة وخوارج ومرجئة يعتمدون على آلية الجدل والحجاج والبيان للوصول إلى الحقيقة #.

بيد أن الحقيقة في الخطابين: الفلسفي والإبستمولوجي ، وذلك في الفترة الحديثة والمعاصرة ، تتخذ عدة أوجه وأنماط فكرية، فقد تكون الحقيقة عقلية مع ديكارت مثلا، أو حسية مع التجريبيين، كدافيد هيوم، وجون لوك، واستيورات ميل...، أو تكون حقيقة حدسية مع هنري برجسون، أو تكون حقيقة برجماتية مع وليام جيمس... وقد تكون الحقيقة فطرية أو مكتسبة، وقد تكون يقينية مطلقة مع نيوتن مثلا، أو نسبية و محتملة مع إنشتاين، أو تكون منعدمة مع فيلسوف النفي نيتشه...

هذا، وتعتمد الحقيقة على آليات متنوعة وأنساق فلسفية مختلفة ومتباينة المنظور والتصور. والغرض من هذه الدراسة هو إدراك التحولات التي طالت مفهوم الحقيقة في فلسفات الماضي والحاضر، وتحولاتها في الإبستمولوجيات الحديثة والمعاصرة، وإدراك قيمة الحقيقة وجوديا ومعرفيا وقيميا، وتقديرها تقديرا نقديا إيجابيا. إذاً، ماهي الحقيقة في اللغة والاصطلاح؟ وهل يمكن تأسيس الحقيقة على الرأي الشخصي والاعتقاد والظن والوهم والاحتمال؟ وهل الحقيقة معطى أم بناء؟ وماهي مصادر الحقيقة ومعاييرها؟ وهل الحقيقة واحدة أو متنوعة؟ وهل الحقيقة مطلقة أو نسبية؟ وماهي قيمة الحقيقة؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في هذه الورقة المتواضعة.

 مفهـــوم الحقيقـــة:

من المعروف أن الحقيقة في اللغة هي الثبات والاستقرار والقطع واليقين ومخالفة المجاز. ومن ثم، فالحقيقة في " لسان العرب" بمعنى الحق، والصدق، والصحة، واليقين، والوجوب، والرصانة، ومقابلة التجاوز. وفي هذا الإطار يقول ابن منظور في لسانه:" بلغ حقيقة الأمر أي يقين شأنه. وفي الحديث: لايبلغ المؤمن حقيقة الإيمان حتى لايعيب مسلما بعيب هو فيه؛ يعني خالص الإيمان ومحضه وكنهه. وحقيقة الرجل: مايلزمه حفظه ومنعه ويحق عليه الدفاع عنه من أهل بيته؛ والعرب تقول: فلان يسوق الوسيقة وينسل الوديقة ويحمي الحقيقة... والحقيقة ما يحق عليه أن يحميه، وجمعها الحقائق. والحقيقة في اللغة:ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه، والمجاز ماكان بضد ذلك، وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة: وهي الاتساع والتوكيد والتشبيه، فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة،...وحق الشيء يحق، بالكسر، حقا أي وجب... وأحققت الشيء أي أوجبته. وتحقق عنده الخبر أي صح. وحقق قوله وظنه تحقيقا أي صدق. وكلام محقق أي رصين... والحق: صدق الحديث.والحق: اليقين بعد الشك.#"

أما الحقيقة في كتاب" التعريفات" لأبي الحسن الجرجاني، فهي :" اسم لما أريد به ما وضع له. وهي فعيلة من حق الشيء إذا ثبت ، بمعنى فاعلة، أي حقيق، والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الاسمية، كما في العلامة، لا للتأنيث. وفي الاصطلاح، هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح به التخاطب، والشيء الثابت قطعا ويقينا. يقال حق الشيء إذا ثبت. وهي اسم للشيء المستقر في محله، وما به الشيء هوهو كالحيوان الناطق للإنسان".#

وترتبط الحقيقة في معجم لالاند (Lalande) بالمعنى الحقيقي. وضمن هذا السياق، تتعارض الحقيقة مع الخطإ. كما أن الحقيقة تحيل على الواقع بالمفهوم المنطقي، فكل ماهو موجود فهو حقيقي، وما ليس موجودا فهو خطأ#.

والحقيقة في الاصطلاح هي كل ماهو صادق وواقعي وثابت ويقيني، أوهي مطابقة الفكر للفكر، أو مطابقة الفكر للواقع ، أو كما يقول العرب:"الحقيقة هي مطابقة ما في الأذهان لما هو في الأعيان". وتتناقض الحقيقة مع الكذب والغلط والوهم والظن والشك والتخمين والرأي والاعتقاد والباطل.

ويلاحظ جليا أن الحقيقة تتخذ مفهوما معرفيا وقيميا. فعلى المستوى المعرفي، الحقيقة هي التي يتطابق فيها الحكم مع الموضوع المرصود، أو يتوافق فيها الحكم النظري مع الممارسة العملية. كما يقصد بالحقيقة على المستوى القيمي كل ما هو صادق وحسن ويقيني وثابت، وذلك في مقابل الكذب والسيء والزائل . لذا، يقول هيجل Hegel (1770-1831م) في موسوعته التي خصصها للعلوم الفلسفية :" عادة مانطلق لفظ الحقيقة على مطابقة موضوع ما لتمثلنا، وفي هذه الحالة فإننا نفترض وجود موضوع ينبغي أن يتطابق مع تمثلنا له. وعلى العكس من ذلك، فالمعنى الفلسفي للحقيقة يقتضي- بتعبير عام ومجرد- مطابقة محتوى ما لذاته. وهذه دلالة أخرى للفظ الحقيقة، مغايرة للدلالة المذكورة آنفا. أما الدلالة الفلسفية الأكثر عمقا للحقيقة، فهي توجد- في جزء منها- أيضا في استخدام اللسان. هكذا، نتحدث مثلا عن صديق حقيقي، ونعني به صديقا يسلك بطريقة مطابقة لمفهوم الصداقة.كما نتحدث أيضا عن منتوج حقيقي.أما اللاحقيقي فيتخذ نفس المعنى الذي يتخذه ماهو سيء أو قبيح، أي ما ليس ملائما في حد ذاته. وبهذا، المعنى فالدولة السيئة هي دولة غير حقيقية، وماهو سيئ هو غير حقيقي.وبشكل عام، فاللاحقيقي يكمن في التناقض الموجود بين التحديد أو التصور من جهة، ووجود الموجود من جهة أخرى."#

ويعني هذا أن مفهوم الحقيقة مفهوم ملتبس وغامض وشائك، ومتعدد الدلالات من حقل إلى آخر، ومن فيلسوف إلى آخر، وذلك حسب تصوره النظري ونسقه الفلسفي. وعلى الرغم من تعدد التعاريف والدلالات، فالحقيقة مرتبطة في جوهرها بالصدق، واليقين، والفضيلة، والسعادة، والكمال، والمعرفة العلمية الحقة.

 الحقيقــــة والــــرأي الشخصي:

عندما نريد التحدث عن مفهوم الحقيقة داخل الخطاب الفلسفي ، يتبادر إلى أذهاننا مضاداتها العكسية. مما يجعلنا ذلك نقدم على طرح بعض الأسئلة العويصة والإشكاليات المعقدة، مثل:هل يمكن الحديث عن الحقيقة في معزل عن متقابلاتها كالوهم والرأي والاحتمال والاعتقاد؟ فهل يمكن أن نجعل من الرأي الشخصي سندا للمعرفة الحقيقية اليقينية؟ أم أن الرأي مجرد حكم ذاتي تنقصه الحجة العلمية والبرهنة الحجاجية . وبالتالي، يصعب علينا الاطمئنان إليه لبناء معرفة حقيقية أو حقيقة يقينية ؟

1- الرأي عائق إبستمولوجي يحول دون الوصول إلى الحقيقة:

تتقابل الحقيقة مع مجموعة من المفاهيم، كالرأي الشخصي (opinion)، والظن، والاعتقاد، والاحتمال، والوهم. فالإبستمولوجي الفرنسي جاستون باشلار Gaston Bachelard (1884-1962م)يعتبر الرأي عائقا معرفيا ، يمكن التخلص منه أيما تخلص، وذلك من أجل تكوين معرفة علمية صحيحة وبناءة. فلا يمكن – علميا- بناء معارفنا واستدلالاتنا واستقراءاتنا وأقيستنا الرياضية والمنطقية والعلمية على مجموعة من الآراء الشخصية والمعتقدات العامة أو الخاصة أو الانطباعات المشتركة والحدوس المشوهة؛ لكونها آراء ذاتية شخصية نابعة من الوجدان والقلب والعاطفة، ومرتبطة بالمنافع البشرية والمصالح الإيديولوجية. بينما الحقيقة العلمية نموذج للمعرفة الموضوعية ، التي تقوم على الحجاج الاستدلالي، والتماسك المنطقي ، والمعرفة الحقة ، والاستنتاج المتماسك نظريا وتطبيقيا:" الرأي نوع من التفكير السيئ، بل إنه ليس تفكيرا على الإطلاق.إنه يترجم الحاجات إلى معارف من خلال تعيينه للأشياء وفق منفعتها، ومن ثم، يحرم نفسه من معرفتها.إننا لا نستطيع أن نؤسس أي شيء كيفما كان انطلاقا من الرأي. ولذلك، يجب القضاء عليه أولا. إن التفكير العلمي يمنعنا من تكوين رأي بخصوص مسائل لا نفهمها، أي بخصوص مسائل لا نعرف كيفية صياغتها بشكل واضح. إذ ينبغي في البداية معرفة كيفية طرح المشاكل. وهذا المعنى الذي تتخذه المشكلة هو الذي يمنح العقل العلمي خاصيته الحقيقية".#

وهكذا، يرفض باشلار الاعتماد على الرأي الشخصي؛ لأنه لا يجدي بأي حال من الأحوال في ميدان المعارف العلمية. لذلك، يستبدله بالحقيقة اليقينية القائمة على البرهان العقلاني نظرية وتطبيقا.

2- الرأي القائم على الاحتمال يمكن أن يكون مصدرا للمعرفة:

يرى الفيلسوف الألماني لايبنـز Leibniz(1646-1716م)أن الرأي المبني على الاحتمال يمكن أن يكون مصدرا من مصادر المعرفة العلمية ، وخاصة في مجال المنطق، وذلك عندما يصعب الحسم في قضية معينة بشكل قطعي، فتتوفر لدينا بعض المعلومات والمعطيات، آنذاك يمكن الاستعانة بهذا الرأي الاحتمالي لبناء المعرفة وتكوينها. وفي هذا الصدد يقول ليبنـز:" إن الرأي القائم على الاحتمال قد يستحق اسم المعرفة، وإلا سوف يتم إسقاط كل معرفة تاريخية وغيرها من المعارف.وبدون الدخول في نزاعات لفظية ، فأنا اعتقد أن البحث في درجات الاحتمال سيكون أكثر أهمية لنا، وهو ما نفتقر إليه، إذ يعتبر بمثابة النقص الذي تشكو منه علوم المنطق لدينا. ذلك، أننا عندما لا نستطيع أن نجزم في مسألة ما بشكل قطعي، فإنه بإمكاننا أن نحدد درجة الاحتمال انطلاقا من المعطيات المتوفرة، ومن ثم نستطيع أن نحكم بطريقة عقلانية على الجزء الأكبر جلاء."#

وهكذا، نرى أن الفيلسوف لايبنـز يدافع عن الرأي باعتباره وسيطا مهما في تشييد جهاز المعرفة المنطقية، مع المساهمة في تكوينها حجاجيا واستدلاليا.

3- الرأي الشخصي درجة من درجات الحقيقة والمعرفة اليقينية:

يرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط E.Kant (1724-1804م)أن الرأي الشخصي درجة من درجات المعرفة ؛ لأن المعرفة تبدأ أولا بالرأي، فالإيمان ثانيا، ثم تنتهي بالحقيقة ثالثا. ويتسم الرأي بكونه ناقصا ذاتيا وموضوعيا، وغير كاف لبناء المعرفة الحقيقية واليقينية ، ولاسيما في مجالات العقل الخالص الذي يرتبط ارتباطا كبيرا بالتجربة ، أو في مجال الرياضيات الخالصة التي لا تعتمد إطلاقا في بناءاتها الاستدلالية على الآراء الشخصية والمعتقدات الذاتية. وكذلك في المجال الأخلاقي، فلا يمكن إصدار الأحكام اعتمادا على الآراء الشخصية. يقول كانط في هذا السياق:"يمثل الاعتقاد- أو القيمة الذاتية للحكم في علاقته باليقين الذي يتوفر في الوقت ذاته على قيمة موضوعية- ثلاث درجات، هي بالشكل التالي: الرأي، والإيمان، والمعرفة.

الرأي هو اعتقاد يعي بأنه غير كاف ذاتيا وموضوعيا، وعندما لا يكون الاعتقاد كافيا سوى من الناحية الذاتية، وفي الوقت ذاته يعتبر غير كاف من الناحية الذاتية ومن الناحية الموضوعية، يدعى المعرفة. فالاكتفاء الذاتي يسمى اعتقادا راسخا بالنسبة لي، أما الاكتفاء الموضوعي فيسمى يقينا بالنسبة لكل واحد...

ليس هناك أي مجال للرأي الشخصي بخصوص الأحكام التي تصدر عن العقل الخالص. فبما أن تلك الأحكام لا تستند على مبادئ التجربة، فإن مبدأ الارتباط يقتضي الكونية والضرورة، ومن ثم يقينا تاما، وإلا لن يكون هناك أي خيط يقود إلى الحقيقة.
يضاف إلى هذا أنه من العبث تكوين آراء في مجال الرياضيات الخالصة: فإما أن نعرف وإما نمتنع عن الحكم. وكذلك الشأن بالنسبة للمبادئ الأخلاقية: لا يجب أن نخاطر بفعل ما من خلال رأي بسيط مفاده أن كل شيء مباح، بل يجب أن نعرف ما نفعله".#

وهكذا، نجد أن الفيلسوف كانط يعترف بدور الرأي الشخصي ، وذلك باعتباره سندا مهما في بلورة الحقيقة ، ولكن بعيدا عن العقل الخالص، والعقل العلمي الأخلاقي، والعقل الرياضي الحق.

4- ضرورة التحرر من الآراء السابقة لبناء الحقيقة اليقينية:

يذهب ديكارت Descartes (1596- 1650 م)الفيلسوف الفرنسي إلى أن الشك هو المعيار المؤدي إلى الحقيقة واليقين على غرار رأي الغزالي (1111-1057م) في كتابه" المنقذ من الضلال". ويعني هذا أن ديكارت يشك في كل شيء من أجل الوصول إلى الحقيقة المطلقة سواء على الصعيد الأنطولوجي أو الإبستمولوجي أو الأكسيولوجي، إلا أن شيئا واحدا لا يشك فيه إطلاقا هو عملية الشك نفسها، التي تحيلنا على عمليات التفكير والتأمل والاستدلال والبرهنة. ومادام الإنسان يفكر فهو موجود، والله موجود، والطبيعة موجودة ، والإنسان بدوره موجود. لذلك، قال ديكارت قولته المشهورة:" أفكر ، إذاً، فأنا موجود".

هذا، ويوضح ديكارت مبدأ الكوجيطو بهذه الصيغة الفلسفية:" ونحن حين نرفض على هذا النحو كل ما يمكننا أن نشك فيه ، بل وحين نخاله باطلا، يكون من الميسور لنا أن نفترض أنه لا يوجد إله ولا سماء ولا أرض، وأنه ليس لنا أبدان. لكننا لا نستطيع أن نفترض أننا غير موجودين حين نشك في حقيقة هذه الأشياء جميعا، لأن مما تأباه عقولنا أن نتصور أن من يفكر لا يكون موجودا حقا حينما يفكر. وعلى الرغم من أشد الافتراضات شططا فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بأن هذه النتيجة: أنا أفكر ، وإذا فأنا موجود، صحيحة. وبالتالي، إنها أهم وأوثق معرفة لمن يدبر أفكاره بترتيب.

ويبدو لي أيضا أن هذا المسلك هو خير المسالك التي نستطيع أن نختارها لكي نعرف طبيعة النفس، وأنها جوهر متميز كل التميز عن البدن: لأننا حين نفحص عن ماهيتنا نحن الذين نفكر الآن في أنه ليس خارج فكرنا شيء هو موجود حقا، نعرف جليا أننا لا نحتاج لكي نكون موجودين إلى أي شيء آخر يمكن أن يعزى إلى الجسم، وإنما وجودنا بفكرنا وحده. وإذا، ففكرتنا عن نفسنا أو عن فكرنا سابقة على فكرتنا عن الجسم، وهذه الفكرة أكثر يقينا، بالنظر إلى أننا لا نزال نشك في وجود أي جسم في حين أننا نعرف على وجه اليقين أننا نفكر."#
وليس الشك عند ديكارت إلا عملية فطرية ولدت معه منذ طفولته الناعمة، وهذه العملية التوثيقية والظنية هي التي ستحرره من الأخطاء السابقة، والإشاعات المنتشرة في الوسط الاجتماعي، وكل ذلك من أجل بناء نسق معرفي حقيقي ويقيني صادق. يقول ديكارت في هذا المجال:" كنت قد انتبهت، منذ سنواتي الأولى، إلى أني قد تقبلت كمية من الآراء الخاطئة على أنها آراء حقيقية وصادقة، وإلى أن ما أقمته على هذه المبادئ غير المؤكدة، لا يمكن أن يكون إلا أمورا مشكوكا فيها وغير مؤكدة؛ وذلك بحيث كان علي أن أقوم، مرة واحدة في حياتي، بالتخلص من كل الآراء التي تلقيتها وصدقتها إلى ذلك الوقت، وأن أبدأ كل شيء من جديد ابتداء من الأسس، وذلك إذا ما كنت أريد أن أقيم قدرا من اليقين الصلب والثابت في المعارف والعلوم .لكن بدا لي في ذلك الوقت أن هذه المهمة كبيرة جدا بالنسبة لعمري، فانتظرت إلى أن أبلغ أقصى سن أصبح فيه أكثر نضجا، بحيث أستطيع إنجاز هذا الأمر..."#
ويتبين لنا ، من خلال ما سبق، أن ديكارت يؤمن بضرورة التخلص من الآراء والمعتقدات السابقة ، التي تكون قد تكونت لدى الباحث أو الفيلسوف بالشكل الطبيعي أوالعادي ، وذلك عن طريق ممارسة الشك من أجل الوصول إلى اليقين والمعرفة المطلقة.

5- القلب مصدر للحقائق والمعارف:

يرى بليز باسكال B.Pascal (1623-1662م) في كتابه:"خواطر/Pensées"أن العقل ليس دائما مصدر المعارف والحقائق العلمية والإنسانية، فيمكن للقلب أن يكون مصدرا للمعرفة الحقيقية، مادامت هي نابعة من الذات والداخل. ومن ثم، فالقلب يعضد العقل، ويقويه لمعرفة الكثير من الحقائق الغامضة، وإدراكها بشكل جيد، ولاسيما الحقائق الروحانية والحقائق الرياضية والمعارف الفيزيائية. ومن هنا، فعلى العقل أن يؤسس خطابه المعرفي والعلمي على مبادئ القلب والغريزة. وأي سخرية تطال القلب، يمكن أن تطال كذلك العقل. لأن العقل يحتاج إلى حقائق القلب، مادام ينطلق منها بوصفها حقائق بديهية أولى. ويقول بليز باسكال في هذا الصدد:" نعرف الحقيقة لابواسطة العقل فقط، ولكن أيضا بواسطة القلب. فعن هذا الأخير نعرف المبادئ الأولى التي يحاول الاستدلال العقلي...

إن معرفة المبادئ الأولى، مثل: المكان والزمان والحركة والأعداد هي من الصلابة بحيث تتجاوز سائر المبادئ التي يقدمها لنا الاستدلال العقلي. إنما ينبغي على العقل أن يستند، لتأسيس خطابه بكامله، على المعارف الصادرة عن القلب والغريزة. فالقلب يشعر أن هناك ثلاثة أبعاد في المكان، وأن الأعداد لانهائية، وبعد ذلك، يأتي العقل ليبرهن أن لا وجود لعددين مربعين يكون أحدهما ضعف الآخر.

إننا نشعر بالمبادئ، أما القضايا فيستخلص بعضها من بعض، والكل له نفس اليقين، وإن اختلفت الطرق المؤدية إليه. ومن غير المفيد كذلك، بل من المثير للسخرية أن يطلب العقل من القلب البرهنة على مبادئه الأولى حتى يتوافق معها، ومن المثير للسخرية أيضا أن يطلب القلب من العقل أن يشعر بجميع القضايا التي يبرهن عليها حتى يتلقاها منه."#

يذهب باسكال في هذا المقتطف النصي بعيدا حينما يجعل القلب مصدرا للمعرفة الحقيقية. ومن جهة، يمكن أن نتفق معه حينما تكون المعرفة مرتبطة بالإيمان ومعرفة الخالق، آنئذ يمكن أن نعتبر القلب مصدرا للحقيقة الصادقة. ولكن من جهة أخرى ، يستحيل الحديث عن القلب كمصدر للحقيقة في مجال العلوم الحقة والعلوم التجريبية.

ويتبين لنا مما سبق بأن الحقيقة قد تنبني على الرأي الشخصي، أو الاعتقاد، أو الشك، أو فراسة القلب، أو الاحتمال، أو العقل، أو التجربة. ومن هنا، فالحقيقة - في رأينا الشخصي- تستند إلى معطيين: معطى إيماني قائم على التسليم، وتمثل الأخلاق، واستبصار الروح ، وذلك حينما يتعلق الأمر المبحوث فيه بالغيبيات أو الأخرويات التي من الصعب إدراكها بالعقل والتجربة معا. بيد أن واقعنا الفيزيائي يستلزم منا إدراكه معرفيا عن طريق العقل والتجربة. لكن ثمة خطوات أولية ضرورية لقيام العلم قد تسبق الفهم العقلاني والخبرة التجريبية ، ويمكن حصرها - مثلا - في الانطلاق من فرضيات احتمالية، أوالاحتكام إلى اعتقادات حدسية، أو شخصية أو علمية،مثل تفاحة نيوتن التي أوحت له بنظرية الجاذبية. بل يمكن القول: إن فراسة المؤمن الروحية قد تساعده على استشراف الأمور قبل وقوعها. كما أن معظم النظريات الفلسفية انطلقت من فرضيات تخمينية وأفكار تأملية، البعض منها مثالي، والبعض الآخر واقعي.

 الحقيقـــة والواقــــع:

تدل كلمة الواقع من خلال مشتقاتها اللغوية والدلالية على ماهو ثابت ويقيني . وبالتالي، واقع غير قابل للتغير والتحول، على عكس ماهو غير واقعي ، والذي يحيلنا على الوهمي والمجرد واللايقين والغريب والمعقول ... ويدل الواقع أيضا على ما هو حسي وتجريـبي وموضوعي ومادي. إذا، فما علاقة الفكر بالواقع؟ وهل الواقع ثابت فعلا؟ أم هو واقع متغير ومتحول ؟ وما علاقة الحقيقة بالواقع؟ هل ثمة مطابقة يقينية مطلقة أم مطابقة نسبية ومحتملة؟

1- مصدر الحقيقة هو عالم المثل:

يذهب الفيلسوف اليوناني أفلاطونPlato (نحو427-347ق.م) إلى أن الحقيقة اليقينية لا توجد في الواقع المادي الحسي النسبي، بل توجد في عالم المثل الذي يتسم بالطابع التجريدي والمفارق للعالم المادي المتغير والمزيف. بينما عالم المثل هو عالم ثابت ويقيني وأصيل وجوهري. ومن ثم، فالوجود الحقيقي حسب "أسطورة الكهف" لأفلاطون ليس هو الوجود الذي نعيش فيه، فهو مجرد نسخة مزيفة من عالم حقيقي هو عالم المثل، والذي لايتم إدراكه إلا عن طريق التأمل العقلي المجرد. كما أن المعرفة الحقيقية واليقينية والمطلقة لا توجد في عالمنا المحسوس والمتغير والنسبي، بل توجد في عالم المثل الذي يحتوي بدوره على قيم متكاملة ومطلقة، كالعدل، والحق، والخير، والجمال. وتتسم هذه القيم بكونها خالدة وحقيقية وكلية ومطلقة، بينما قيم البشر هي قيم زائفة ونسبية، مادامت ترتبط بالعالم النسبي الذي هو انعكاس مشوه للعالم الحقيقي المثالي. ومن ثم، فالقاضي العادل الحقيقي لايوجد إلا في عالم المثل، بينما في عالمنا المتغير لا يوجد سوى قاض نسبي غير كامل في قيمه وعدالته وفضائله. وينطبق هذا الحكم على الجميل والخير وعلى باقي القيم الأكسيولوجية والفضائل الإنسانية المعروفة لدينا. وعلى هذا الأساس طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته الفاضلة؛ وذلك لكونهم يحاكون عالما نسبيا وغير حقيقي#. ومن هنا، ينطلق أفلاطون من تصور مثالي مفارق لعالم المادة والحس والتجربة والظواهر الملموسة بغية تبيان مصدر الحقيقة اليقينية الصادقة.

2- مصدر الحقيقة هو عالم الواقع:

يرفض الفيلسوف اليوناني أرسطو Aristote(نحو384-322ق.م)تصور أستاذه أفلاطون بشكل جذري، وينكر أن يكون هناك عالم المثل بهذا التجريد الخيالي الطوباوي. وبالتالي، يستحيل أن يصدر المادي المحسوس عن المثالي المجرد. ومن هنا، يقول أرسطو بأن الحقيقة اليقينية توجد في عالمنا الحسي المادي، ولكن تكمن في الجواهر دون الأعراض. أي: إن الحقيقة ثابتة في الجوهر دون الخصائص والأشكال الثانوية، تلك الأشكال التي تتغير من حالة إلى أخرى حسب الظروف والمتغيرات الفيزيقية والميتافيزيقية. فالشجرة ثابتة في جوهرها، ولكن أعراضها تتغير مع الفصول، ففي الربيع تكون مورقة، وتصفر في الصيف بأوراقها وثمارها، وتتساقط أوراقها الذابلة في الخريف، وتتعرى في فصل الشتاء. لكن ما يبقى هو جوهر الشجرة. ومن ثم، فالحواس والأعراض هي مؤشرات سيميائية تدل على الجواهر، وهي بمثابة معقولات منطقية ومجردة وثابتة نتوصل إليها عن طريق الحس. وبعد ذلك، ننتقل إلى عمليات التجريد والتعميم ، واستخدام الأقيسة الذهنية استقراء واستنباطا ، وإثباتا ونفيا#.

3- الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته:

يرى ديكارت أن الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته. أي: إن الله خلق الإنسان، وهو مزود بمجموعة من البداهات العقلية والمنطقية اليقينة، التي لا يمكن أن يعتريها الشك أو الظن أو الخطأ، مادام هناك ما يسمى بالضمان الإلهي، كما عند الفيلسوف الهولندي سبينوزاSpinoza (1632-1677م. ويعني هذا أن الله لا يمكن أن يكذب على الإنسان، وهذا محال في حقه تعالى. لذا، فما زود به الإنسان عبارة عن حقائق صادقة يقينية ومطلقة، مثل: الكل أكبر من الجزء، والمربع له أربعة أضلاع، وواحد زائد واحد يساوي اثنين...ومن هنا، فالحقائق البديهية اليقينية قد تكون حقائق رياضية أو منطقية تعتمد على مجموعة من المبادئ ،مثل: مبدإ الهوية كما في هذه الصيغة: محمد هو محمد، ومبدإ عدم التناقض ، فلا يعقل أن نقول: محمد حاضر وغائب، ومبدإ الثالث المرفوع ، كأن نقول: المعتزلة عقلانية ونصية. فهنا، أطراف ثلاثة: المعتزلة عقلانية، والمعتزلة نصية، والمعتزلة تجمع بين العقلانية والنصية، فالمنطق يرفض هذا التثليث القولي، فإما أن نقول: المعتزلة عقلانية وإما أن نقول إنها نصية. ونذكر أيضا مبدأ السببية، فلكل مسبب سبب. ومن هنا، فالعقل بهذه الحقائق الرياضية والمنطقية يصل إلى اليقين المطلق، في حين يعجز الحس أو التجربة عن الوصول إلى الحقيقة لخداع الحواس للإنسان كما في مثالي: السراب، والتقاء خطي السكة الحديدية...

ومن ثم، فالعقل هو أعدل قسمة متساوية بين البشر ، كما أنه المصدر الوحيد حسب ديكارت وليبنـز وسبينوزا للوصول إلى الحقيقة اليقينية الصادقة، بينما التجربة عاجزة عن ذلك؛ بسبب اعتمادها على الحواس الخادعة ، وارتكازها على بادئ الظن ليس إلا.

4- الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع:

يذهب الفلاسفة التجريبيون الإنجليز كدافيد هيوم Hume (1711-1776م)، وجون لوك Locke(1632-1704م)، وجون استيوات ميل Mill(1806-1873م)إلى أن الإنسان يولد صفحة بيضاء، وأن عقل الإنسان يكون فارغا من الحقائق التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر التجربة، وتشغيل الحواس لإدراك المعارف والحقائق الصادقة. وتتم التجربة طبعا عن طريق استعمال الملاحظة المنظمة، وتجريب الفرضيات، وإعادة التجربة مرات عدة، واستنتاج النظريات أو القوانين. ولو كان العقل أعدل قسمة متساوية بين البشر كما يقول ديكارت، لما وجدنا عقول البشر مختلفة، ولما وجدنا في الفصل الدراسي الأذكياء والأغبياء على حد سواء. ومن هنا، فمصدر الحقيقة المطلقة واليقينية حسب التجربيين هو التجربة أو الواقع الحسي الخارجي. أي: إن الحقيقة ماهي إلا مطابقة الفكر للواقع المرجعي#.

5- الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته وللواقع معا:

يرى الفيلسوف الألماني كانط أن الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته ومطابقة الفكر للواقع. ويعني هذا أن كانط يوفق بين العقلانيين والتجربيين، وأن الحقيقة لا تكون بالعقل فقط، ولا بالتجربة فقط، بل بهما معا. فالحدوس الحسية بدون مقولات عقلية عمياء والمقولات العقلية بدون حدوس حسية جوفاء. وللتوضيح أكثر، فالتجربة بدون العقل تبقى خامة غير مفهومة. أي: عبارة عن أحاسيس وحدوس حسية غير منظمة أو مرتبة، حتى يتدخل العقل بمقولاته المنطقية ليحول التجربة إلى تصور عقلاني مفهوم . فإذا وجدنا قطنا يحترق وبقربه النار، فهذه عبارة عن انطباعات حسية مبهمة، فلابد أن يتدخل العقل عن طريق الفهم بمقولاته المنطقية كالزمان والمكان والسببية، لكي نقول: إن النار هي سبب احتراق القطن. ومن ثم، يمكن القول : إن القطن والنار عبارة عن مدركات حسية، لكن السببية مفهوم عقلاني مجرد له علاقة بالعقل الخالص ، وهو عبارة عن مبادئ منطيقة ومعرفية مجردة وكلية ، بها يدرك العقل المعطيات الخارجية ، وينظمها بشكل منظم ومرتب.

ومن هنا، فمصدر الحقيقة المعرفية والعلمية عند كانط هو العقل والتجربة معا (الحقيقة المادية والحقيقة الصورية). لكن هناك حقائق لا يمكن الوصول إليها عن طريق العقل والتجربة ، وهي الحقائق الميتافيزيقية أو الماورائية، أو كما يسميها كانط بحقائق النومين التي لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق العقل العملي والأخلاقي(الإيمان الداخلي). أما الحقائق الفيزيقية (الفينومين) ، فيمكن إدراكها عبر العقل والتجربة معا. ويعني هذا أن العقل محدود في طاقته الإدراكية، لا يمكن أن يتجاوز نطاقه المرسوم له، وخاصة في استكناه الماورائيات، كمعرفة الله ، وخلق العالم، وإدراك حقائق النفس والعالم الآخر ... وفي هذا السياق، يقول كانط:" إن عقلنا لا يشبه، نحوا من الشبه، سهلا ممتدا لا محدودا، لا تعرف حدوده سوى بكيفية عامة، بل ينبغي أن يشبه بالأحرى بكرة يمكن قياس أبعادها...محتوياتها وحدودها قابلة للتعيين بدقة.
خارج هذه الكرة لا يعود ثمة للعقل أي موضوع قابل للمعرفة، بل إن المسائل المتعلقة بهذه الموضوعات المزعومة (خلود النفس، وجود الله، بداية العالم) لا تتعلق سوى بمبادئ ذاتية تشكل أساسا لتحديد كوني شمولي للعلاقات التي يمكن أن تقوم، ضمن حدود هذه الدائرة، بين تصورات (مفاهيم) الفهم"#.

وعلى أي، فكانط ، في منظوره الفلسفي حول الحقيقة ، قد حاول جادا التوفيق بين التيار العقلاني الذي كان يمجد العقل، ويقدسه إلى درجة التأليه، والتيار التجريبي الذي كان ينافح عن التجربة باعتبارها مناط البحث العلمي، وبكونها أيضا دليلا حقيقيا للوصول إلى اليقين الصحيح.

6- الحقيقة هي مطابقة الواقع للفكر:

يرى الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر Martin Heidegger (1889-1976م) أن الحقيقة ليست هي مطابقة الفكر للواقع، بل هي مطابقة الواقع للفكر، حيث:" يفسح هذا الطابع المزدوج للتوافق أو التطابق المجال لبروز التعريف التقليدي لماهية الحقيقة:" الحقيقة هي مطابقة الشيء للمعرفة. ولكن هذا يمكن أن يفهم أيضا بالمعنى التالي: إن الحقيقة هي مطابقة المعرفة للشيء.إلا أن الحقيقة مأخوذة بهذا المعنى، بوصفها حقيقة الحكم، لا تكون ممكنة إلا إذا تأسست على حقيقة الشيء. فهذان التصوران للحقيقة يظل مقصدهما هو المطابقة، وإذا، فهما يتناولان الحقيقة بوصفها مطابقة..."#

ويتجاوز هيدجر مفهوم المطابقة باعتبارها مفهوما تقليديا في تحديد علاقة المنطوق بالشيء المرصود منطقيا. في حين، تتجسد الحقيقة على أنها حرية وكشف للكائن وعملية تأويل ، واستعداد للانفتاح على الكائن والممكن استكشافا واستشرافا وقراءة وتقبلا. فيظهر الكل على حقيقته بدون تمويه أو تزييف أو خداع أو مكر أو قناع.

7- الحقيقة هي مطابقة نسبية واحتمالية:

يرى ألبرت إنشتاين A.Einstein (1879-1955م) ، وذلك باعتباره عالما فيزيائيا ومفكرا في مجال العلوم، أن الحقيقة العلمية في مجال المعارف العلمية ، ولاسيما في ميدان الفيزياء الذرية الميكروسكوبية قائمة على ماهو نسبي واحتمالي، وليست هناك حقائق مطلقة ويقينية كما كان يقول نيوتن؛ لأن العالم الذي نتعامل معه هو عالم الجزيئيات الدقيقة ، تلك الجزيئات التي تتطلب منهجا أكسيموماتيكيا قائما على الاحتمال والافتراض، وصياغة مجموعة من القواعد النظرية العقلانية في غياب التجربة والواقع الخارجي. لأن فضاء العلم اليوم هو بمثابة إنشاءات افتراضية نسبية واحتمالية، يتم البرهنة عليها عقلانيا واستدلاليا بشكل نظري في غير حاجة إلى التجارب والاختبارات المعملية والميدانية#. ومن ثم، فالحقيقة عند إنشتاين مجرد حقيقة نسبية مبنية على منطق الافتراض والاحتمال، وليس هناك بشكل قطعي ما يسمى باليقين الرياضي أو المنطقي أو الفلسفي أو الفيزيائي. فكل شيء في هذا العالم نسبي واحتمالي وممكن.#

وانطلاقا مما سبق، فالحقيقة – في اعتقادنا الشخصي- هي مطابقة الفكر لذاته، ومطابقة الفكر للواقع، ومطابقة ذلك الواقع للنص (النص الديني أو النقلي )، وقد تكون تلك الحقيقة مبنية على عدم المطابقة ، وخاصة في الخطابات الفلسفية القائمة على التفكيك، والتشريح، والاختلاف، وتدمير المعنى.

 أنــــواع الحقيقــــة:

يمكن الحديث عن أنواع عدة من الحقيقة، فهناك الحقيقة الصورية المنطقية الشكلية التي تقوم على ربط القضايا المنطقية ببنائها الداخلي، وذلك بغية بناء تماسكها العقلي على مستوى البرهنة والاستدلال، والحقيقة المادية التجريبية التي تربط الحقيقة بالعالم الواقعي والخارجي والتجريبي لمعرفة صدقها ويقينها. كما تتنوع الحقيقة أيضا وتتلون بتعدد الخطابات ، وتعدد مرسليها ، وتختلف حسب طبيعة الخطاب وسياقه وشكله. إذ يمكن الحديث عن الحقيقة العلمية في الخطاب العلمي، والحقيقة الفلسفية في الخطاب الفلسفي، والحقيقة الدينية في الخطاب الديني، والحقيقة السياسية في الخطاب السياسي، والحقيقة الاقتصادية في الخطاب الاقتصادي، والحقيقة اللغوية في الخطاب اللساني...

1- الحقيقة سلطة ومصدرها السلطة:

يثبت ميشيل فوكو M.Foucault (1926-1984م) في كتاباته الفلسفية أن الحقيقة تمارس سلطتها على المجتمع ؛ وذلك بسبب طابعها الإكراهي وقوتها الحجاجية والمؤسساتية. والمقصود من هذا أن الحقيقة سلطة ومصدرها السلطة. وبالتالي، فالحقيقة لا توجد خارج السلطة، ولا تخلو من السلطة. ومن ثم، فالحقيقة في المجتمعات المعاصرة تتميز بخمس صفات أساسية، وهي:

1- إن الحقيقة مقصورة على شكل الخطاب العلمي، ومحصورة في المؤسسات التي تنتج هذا الخطاب العلمي؛

2- إن الحقيقة خاضعة لنوع من التحريض الاقتصادي والسياسي الدائم؛

3- إن الحقيقة هي موضوع نشر واستهلاك عبر أجهزة التربية أو الإعلام؛

4- إن الحقيقة يتم إنتاجها ونقلها تحت مراقبة بعض الأجهزة السياسية أو الاقتصادية الكبرى، مثل: الجيش، والجامعة، والكتابة، ووسائل الاتصال الجماهيري؛

5- إن الحقيقة هي مدار كل نقاش سياسي وصراع اجتماعي#.

ومن ثم ، فالحقيقة عند مشيل فوكو هي :" مجموع الأشياء التي يتعين اكتشافها أو حمل الآخرين على قبولها، بل مجموع القواعد التي يمكن بمقتضاها فرز ماهو حقيقي مما هو خاطئ، وإضفاء سلطة ذات تأثيرات خاصة على ماهو حقيقي، هذا علما بأن الأمر لا يتعلق هنا أيضا بكفاح لصالح الحقيقة، بل من أجل تحديد مكانة الحقيقة وقيمتها ودورها الاقتصادي السياسي...

لايتعلق الأمر بتخليص الحقيقة من كل منظومة من منظومات السلطة، إذاك وهم، لأن الحقيقة هي ذاتها سلطة، وإنما يتعلق الأمر بإبعاد سلطة الحقيقة عن أشكال الهيمنة (الاجتماعية والاقتصادية والثقافية) التي تشتغل داخلها لحد الآن"#

ويعني كل هذا أن المجتمع الغربي لا يؤمن إلا بالحقيقة العلمية، تلك الحقيقة التي لها سلطة كبرى على المستوى العلمي والمؤسساتي والثقافي والاجتماعي والسياسي. ومن ثم، فالعلم هو مصدر الحقيقة في المجتمعات الغربية المتقدمة. في حين، نجد أن الحقيقة الدينية هي التي لها سلطة كبرى وحقيقية في المجتمع الإسلامي، وهي كذلك مصدر الحقيقة في جميع مناحي الحياة، ومصدر التشريع، والاجتهاد، والاستشهاد، والترجيح بين الدلائل المختلفة والأحكام المتعارضة.

2- الحقيقة اليقينية هي التي تقوم على البرهان:

يؤكد أرسطو أن الحقيقة المتعالية على الشك والظن والاحتمال هي الحقيقة البرهانية القائمة على العقل والمنطق واليقين الرياضي سواء على مستوى الاستقراء أم على مستوى الاستنباط؛ " لأن الحكم الذي يقرر نفسه على أنه صادق، يقرر نفسه أيضا على أنه قد أقيم البرهان عليه. والبرهان هو، على وجه التحديد، ما يسمح له بأن يؤكد نفسه، هو القوة التي تدعمه من الداخل، وتثبت صحته وصدقه. والواقع أن امتلاء الوعي بحقيقة من الحقائق، إنما هو إدراك هذه الحقيقة في ينابيعها وأسسها الشرعية، وإذا أخذنا بهذا المعنى للبرهان... فلا يمكن لقضية أن تقرر نفسها بلا برهان. وعندما تحمل برهانها في نفسها نسميها بديهة#."
ويتبين لنا من هذا النص أن السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة- حسب أرسطو- ليس هو الشك أو السفسطة أو الخطابة المغالطية ، بل المسلك الوحيد لليقين هو البرهان العقلي والمعالجة المنطقية الصحيحة.

وتأسيسا على ماسبق، فالحقيقة واحدة (الحقيقة الربانية)، بيد أن الطرق المؤدية إليها متنوعة، قد يكون الطريق نصا أو برهانا أو بيانا أو عرفانا...أما الحقيقة العلمية – في منظورنا الشخصي- فهي حقيقة فرعية في خدمة الحقيقة الأصل، وهي الحقيقة الربانية، وهذه الحقيقة الثانوية قد نصل إليها عبر العقل أوعبر التجربة أو عبرهما معا.

3- الحقيقة العلمية قوامها الخطأ الإيجابي:

يرى جاستون باشلار G.Bachelard (1884-1962م)أن الحقيقة في المجال العلمي تعترضها مجموعة من العوائق الإبستمولوجية (المعرفية) كالظن وبادئ الرأي؛ لأن هذا الأخير غير نقدي، ووثوقي، ثم لا يفكر. لذا، ينبغي التحرر من هذه الأخطاء والعوائق لبناء حقيقة علمية يقينية وصادقة. وبالتالي، فالحقيقة العلمية هي بمثابة خطإ تم تصحيحه علميا. وكل الحقائق العلمية في وجودنا الكوني والمعرفي هي عبارة عن أخطاء بالمفهوم الإيجابي للخطإ لا بالمفهوم السلبي . فكل عالم يأتي ليصحح أخطاء سابقيه من الوجهة العلمية نظرية وتطبيقا، والتاريخ العلمي في الحقيقة هو تصحيح للأخطاء . كما أن العلم يتطور ويتقدم بتصحيح النظريات والتجارب العلمية السابقة كما يقول أيضا كارل بوبر. ومن ثم، فالحقيقة عند باشلار هي القائمة على الخطإ العلمي المصحح، حيث :" يتم التوصل إلى الحقيقة العلمية عبر العودة إلى الأخطاء الماضية، أي عبر عملية ندم ومراجعة فكريين. وفي الواقع، فالمعرفة العلمية هي معرفة تتم دوما ضد معرفة سابقة، وذلك بتقويض المعارف غير المصاغة صياغة جيدة، وبتخطي ما شكل، في النفس المفكرة، عائقا أمام عملية التعقل المعرفي.

إن العلم، من حيث حاجته إلى الاكتمال كما في مبدئه نفسه، يتعارض تعارضا مطلقا مع الرأي. وإذا حصل أن أعطى العلم الشرعية للرأي، فذلك لأسباب أخرى غير الأسباب التي يقوم عليها الرأي: لدرجة تسمح بالقول بأن الرأي، من الناحية المبدئية، هو دوما خاطئ.

الرأي يفكر تفكيرا ناقصا، بل لا يفكر: إنه يعبر عن حاجات معرفية. إن الرأي وهو يتناول الموضوعات من زاوية نفعها وفائدتها، يحرم على نفسه معرفتها. لذا لا يمكن أن نؤسس أي شيء على الرأي بل يجب أولا أن نقضي عليه.إنه العائق الأول الذي يتعين تجاوزه في مجال المعرفة العلمية."#

وهكذا، يشتغل باشلار على الحقيقة والخطإ ، وذلك ضمن حقل المعرفة العلمية أوما يسمى بالإبستمولوجيا. وبالتالي، يؤكد باشلار بأن الحقائق العلمية مبنية على تاريخ الأخطاء، وأن هذه الأخطاء تتقدم عن طريق صراع النظريات، وتصحيح بعضها البعض.

4- لا وجود للحقيقة مادامت هي مجرد أوهام:

يذهب نيتشه F.Neitzshe (1844-1900م) إلى أن الحقيقة غير موجودة أصلا في هذا الوجود الذي يسيطر فيه القوي، وتنتعش فيه الإرادة والسيطرة، مادامت هذه الحقيقة مرتبطة بالوهم والزيف والضلال. ويعني هذا أن الفكر البشري خاضع لمبدأين أساسين، وهما سببان كافيان لوقوعه في هذا الوهم:

أولا: ميل الإنسان إلى السلم والمسالمة، وذلك خوفا من إثارة الحرب، وإشعال الفتن، والتي ستدمر كل بني البشر بدون استثناء. وبالتالي، فالإنسان يحافظ على نفسه، ويحب البقاء. لذا، يلتجئ إلى الكذب والنفاق، واختلاق المبررات، ومنافقة الآخرين خوفا من العقاب والموت ، وحفاظا على ذاته ووجوده.

وثانيا: مادام الإنسان يستخدم اللغة القائمة على بلاغة التشبيه والاستعارة، فإنه لايخلق بهذه البلاغة القائمة على التهويل والتضخيم والمبالغة سوى الأوهام والظنون الكاذبة البعيدة عن الصدق واليقين. ويعني هذا أن الكائن البشري كائن مجازي بامتياز لايخلق سوى المبالغات الزائفة في إصداره للأحكام القيمية والمعرفية. وبالتالي، يعلن الفيلسوف الألماني نيتشه أن الحقيقة منعدمة ، وهي مجرد وهم مطلسم.ومن هنا، يقول نيتشه:" بقدر ما يعمل الفرد على حفظ بقائه تجاه الآخرين، بقدر ما يغلب أن لا يستخدم العقل، في الأحوال العادية، إلا من أجل الخفاء والكتمان. غير أن رغبة الإنسان تحت تأثير الضرورة والضجر معا، في أن يحيا حياة مجتمعية وقطيعية، تجعله في حاجة إلى إبرام السلم مع الآخرين، والسعي، وفقا لذلك، إلى إلغاء حالة الحرب الشاملة والدائمة(حروب الكل ضد الكل)، ومحوها من عالمه.وإن إبرام السلم هذا ليجلب معه ما يشبه خطوة أولى نحو اكتساب غريزة الحقيقة الغامضة كاللغز. أي استتباب السلم يتم معه تثبيت وإقرار ما ينبغي أن يكون حقيقة....

ماهي الحقيقة إذا؟ إنها حشد متحرك من الاستعارات والكنايات، والتشبيهات بالإنسان، إنها، باختصار، جملة من العلاقات البشرية، أعلي من شأنها ونقلت من مجالها، وزينت بالصور الشعرية والبلاغية، وصارت بعد طول استعمال، مثل شعب من الشعوب صلبة، شرعية قاسرة: الحقائق نسينا أنها أوهام، واستعارات فقدت، من فرط الاستعمال والتداول، جمالها الحسي الخلاب، وقطع نقدية تلاشت آثار الصورة أو الرسم المطبوع عليها، فصارت تتداول، بعدئذ، ليس بوصفها قطعا نقدية، بل بوصفها قطعا معدنية فقط."#

ومن هنا، فنيتشه ينكر وجود أي حقيقة ما، مادامت ترتكز هذه الحقيقة على المبالغة اللغوية، والتهويل المجازي، والخوف من الموت. وهنا،إشارة واضحة إلى سخط نيتسه على واقعه المنحط، وتبرمه من القوانين والمعارف والقيم السائدة في مجتمعه الموبوء كينونة ووجودا وكونا.
وعليه، فلايمكن إطلاقا القول مع نيتشه بأن الحقيقة منعدمة، وإلا أصبح هذا العالم عبثا وسخرية وعدما وتيها. وثمة حقيقتان أساسيتان: فمن جهة، هناك الحقيقة الربانية المطلقة (الحقيقة العليا) التي يتم إدراكها بالنص أولا، فالعقل ثانيا، ثم الإيمان والتسليم ثالثا. وهناك ، من جهة أخرى، الحقيقة الدنيوية النسبية (الحقيقة السفلى) التي يتم إدراكها بالعقل والتجربة معا.

 الحقيقة في الفكــــر الإسلامـــي:

تناول علماء الكلام ، وذلك بعد نشوب الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وظهور مجموعة من الفرق الكلامية كالمرجئة، والشيعة، والخوارج، والمعتزلة، والماتريدية، والأشاعرة، مجموعة من القضايا المتعلقة بحقائق أصول الدين والعقيدة، كالتوحيد (رؤية الله- كلام الله- صفات الله)، والعدل(نظرية الصلاح والأصلح- نظرية الحسن والقبيح...)، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولقد اختار علماء الكلام منهج الجدل والمناظرة من أجل الدفاع عن هذه الحقائق الدينية، وإبداء وجهة النظر في المسائل الدينية والسياسية العويصة التي فرضها الواقع السياسي ، وذلك في علاقة بفقه النص وفقه الواقع. ومن المعروف أن الجدل والمناظرة يخضعان نظريا لمجموعة من الثوابت المنهجية، مثل: وجود المدعي والمدعى عليه، ووجود دعوى الاعتراض، والارتكان إلى الدليل (البينة، والشاهد، والبرهان، والوثيقة، والحجة...)، واستعمال العقل والمنطق في التناظر، والابتعاد عن التعصب والعنف والتجريح والقذف ، واستعمال الحوار البناء القائم على الموعظة والحكمة الحسنة، واستقصاد الحقيقة الهادفة، وعدم الوقوع في التناقض، والانطلاق من المسلمات والبدهيات بغية الحجاج والتأثير والإقناع....

ويلاحظ أن أهم الفرق الكلامية التي كان لها باع كبير في عملية الحجاج، نذكر منها: المعتزلة والأشاعرة، فالفرقة الأولى كانت عقلانية تعطي الأولوية للعقل قبل ورود النص، فترى العقل هو المعيار الوحيد لمعرفة الصواب من الخطإ، والتمييز بين الخير والشر، والتفريق بين الحسن والقبيح. وقد دافعت عن حرية الإنسان في خلق أفعاله ، وذلك على غرار القدرية (معبد بن خالد الجهني ، وغيلان الدمشقي)، ضد الجبرية (جهم بن صفوان ت.128هـ)، التي كانت تقول بأن الإنسان مجبر على أداء أفعاله خيرا وشرا، وقد قالت المعتزلة كذلك بنظرية الصلاح والأصلح. في حين، كان الأشاعرة (نسبة إلى أبي الحسن الاشعري ت.324هـ)نصيين، يعطون الأولوية للنص على حساب العقل، وقد قالوا بنظرية الكسب على مستوى أفعال الإنسان. ويعني هذا أن الإنسان ليس حرا حرية مطلقة، وليس مجبرا جبرية مطلقة . بمعنى أن الإنسان يكسب ما يشاء من أفعال الخير والشر التي خلقها الله، فيستعملها بإرادته ومشيئته كما يريد ثوابا وعقابا. بمعنى أن الله الذي خلق الإنسان، يخلق فيه نوعا من القدرة والاستطاعة يحسه الإنسان أثناء الفعل ومعه. هذا النوع من القدرة والاستطاعة يسميه أبو الحسن الاشعري كسبا. أي: إن الإنسان يكسب القدرة على الفعل حين القيام به، ولكن لايستطيع الكسب إلا بقدرة من الله.

وإذا كان علماء الكلام يستعملون العقل والمنطق والبرهان في الدفاع عن الحقائق الدينية والسياسية، ويستعملون التأويل في قلب الظاهر، واستكشاف الباطن، و تحويل الحقيقة إلى المجاز، وذلك، درءا لكل تشبيه وتجسيد وتشخيص، وإبعاد لقياس الغائب على الشاهد، فإن ثمة انتقادات توجه إلى علم الكلام فيما يخص المنهج والتأويل، فابن رشد – مثلا- يرى أن منهج علماء الكلام منهج افتراضي قائم على الجدل والاحتمال، ينطلق من مقدمات افتراضية، ويصل إلى نتائج افتراضية. ويشبه هذا المنهج منهج الشكاك من السفسطائيين الذين كانوا ينطلقون من نتائج خاطئة، فيصلون إلى نتائج خاطئة. في حين، أن منهج الفلاسفة منهج برهاني ينطلق من نتائج يقينية ليصل إلى نتائج يقينية، أما منهج الفقهاء والجمهور من عامة الناس، فمنهجهم ظاهري وخطابي. وفي هذا النطاق، يقول ابن رشد:" وقد يعرض للنظار في الشريعة تأويلات من قبل تفاضل الطرق المشتركة بعضها على بعض في التصديق، أعني إذا كان دليل التأويل أتم إقناعا من دليل الظاهر، وأمثال هذه التأويلات هي جمهورية، ويمكن أن تكون فرض من بلغت قواهم النظرية إلى القوة الجدلية، وفي هذا الجنس يدخل بعض تأويلات الأشعرية، والمعتزلة، وإن كانت المعتزلة ، في الأكثر، أوثق أقوالا.

وأما الجمهور ، الذين لايقدرون على أكثر من الأقاويل الخطابية، ففرضهم إمرارها على ظاهرها، ولايجوز أن يعلموا ذلك التأويل أصلا.

فإذاً، الناس في الشريعة على ثلاث أصناف:

صنف ليس هو من أهل التأويل أصلا، وهم الخطابيون، الذين هم الجمهور الغالب، وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يعرى من هذا النوع من التصديق.

وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون، بالطبع فقط، أو بالطبع والعادة.
وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون، بالطبع والصناعة، أعني صناعة الحكمة."#

هذا، وقد عاب ابن رشد على الفرق الكلامية تصريحها بتأويلاتها الجدلية ، فكانت وراء اندلاع فتن كثيرة، وماكان عليها أن تصرح بذلك إلا لأصحاب التأويل وأهل العلم والنظر والعارفين بالله، وماكان عليها أن تخرج بذلك على أهل الظاهر وعامة الناس، كما فعل الحلاج المتصوف الذي خرج على الناس قائلا: أنا الله. فماكان من الفقهاء و عامة الناس إلا أن صلبوه عقابا له على كفره وزندقته. وفي هذا السياق، يقول ابن رشد: " ومن قبل التأويلات، والظن بأنها يجب أن يصرح بها في الشرع للجميع، نشأت فرق الإسلام، حتى كفر بعضهم بعضا، وبدع بعضهم بعضا، وبخاصة الفاسدة منها.

فأولت المعتزلة آيات كثيرة، وأحاديث كثيرة، وصرحوا بتأويلهم للجمهور، وكذلك فعلت الأشعرية، وإن كانت أقل تأويلا. فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع، وفرقوا الناس كل التفريق.

وزائدا إلى هذا كله أن طرقهم التي سلكوها في إثبات تأويلاتهم ليسوا فيها لا مع الجمهور ولا مع الخواص، أما مع الجمهور فلكونها أغمض من الطرق المشتركة للأكثر، وأما مع الخواص فلكونها إذا تؤملت وجدت ناقصة عن شرائط البرهان.وذلك يقف عليه، بأدنى تأمل، من عرف شرائط البرهان.

بل كثير من الأصول التي بنت عليها الأشعرية معارفها هي سوفسطائية، فإنها تجحد كثيرا من الضروريات، مثل: ثبوت الأعراض، وتأثير الأشياء بعضها في بعض، ووجود الأسباب الضرورية للمسببات، والصور الجوهرية، والوسائط، ولقد بلغ تعدي نظارهم، في هذا المعنى، على المسلمين، أن فرقة من الأشعرية كفرت من ليس يعرف وجود الباري سبحانه بالطرق التي وضعوها لمعرفته في كتبهم، وهم الكافرون والضالون بالحقيقة.

ومن هنا، اختلفوا، فقال قوم: أول الواجبات النظر. وقال قوم: الإيمان، أعني من قبل أنهم لم يعرفوا أي الطرق هي الطرق المشتركة للجميع، التي دعا الشرع من أبوابها جميع الناس، وظنوا أن ذلك طريق واحد، فأخطأوا مقصد الشارع، وضلوا وأضلوا."#

وعليه، فقد تسلح علماء الكلام بالجدل والمناظرة من أجل الدفاع عن الحقيقة الربانية، وتنزيه الذات الإلهية من كل نقص أو عجز أو تجسيد بشري. و لو أخذ المسلمون بالمنهج الاعتزالي في إدراك الحقائق، بدلا من اتباع المنهج الأشعري، فاستخدموا العقل والبرهان ، ثم دافعوا عن حرية الإنسان في الخلق والتصرف والاستكشاف والابتكار، لكانوا في مكانة أحسن من مكانتهم الاتكالية التي أصبحوا عليها الآن!

ومن جهة أخرى، يذهب الفلاسفة المسلمون بما فيهم: الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن طفيل، وابن باجة، وابن رشد... إلى أن الحقيقة هي الهدف الأسمى الذي يسعى إليه الإنسان الفيلسوف، وهي أس الكمال والسعادة والفضيلة. وبالتالي، لا تتحقق هذه الحقيقة إلا عن طريق استخدام العقل والبرهان والنظر المنطقي. لكن هؤلاء الفلاسفة كانوا يعترفون بأن ثمة حقيقتين: الحقيقة الفلسفية والحقيقة الشرعية. ومن ثم، تحيل هاتان الحقيقتان على مستوى التفسير الانعكاسي على الصراع الجدلي الذي احتدم في الواقع العربي الإسلامي بين الفقهاء والفلاسفة، وخاصة في العصر العباسي. إذ يحاول الفلاسفة الدفاع عن الفلسفة بصفة عامة، والفلسفة اليونانية بصفة خاصة، باحثين عن الشرعية النصية والقانونية والفقهية والواقعية التي تسمح لهم بممارسة فعل التفلسف، والاشتغال بفعل التمنطق. لكن هؤلاء الفلاسفة وجدوا معارضة كبيرة من قبل الفقهاء الذين كانوا ينطلقون من الظاهر النصي، فيحاربون الفلسفة جملة وتفصيلا ، ثم يربطونها بالكفر والزندقة، قائلين: من تمنطق تزندق. والدليل على ذلك ما فعلوه مع ابن رشد في الأندلس، حينما أحرقوا كتبه الفلسفية والمنطقية إبان الدولة الموحدية. لذلك، اضطر الفلاسفة الملسمون إلى عملية التوفيق بين الفلسفة والشريعة، وذلك من أجل إثبات حقيقة أساسية، ألا وهي: أن الحق لايضاد الحق. وهذا ما نجده واضحا جليا عند الفيلسوف المسلم الأول الكندي(803-873م).

أما إذا انتقلنا إلى أبي نصر الفارابي (259-339هـ)، فقد اعتمد على نظرية الفيض للتوفيق بين الدين والفلسفة، لكنه سقط في عملية التلفيق، وذلك حينما جمع بين أفلوطين وأفلاطون المثاليين، معتقدا أنه كان يوفق بين أفلاطون المثالي وأرسطو المادي. ومن ثم، يرى الفارابي أن الحقيقة لايتم إدراكها إلا عن طريق العقل والحكمة، وأن الحقيقة الأولية والأزلية هي حقيقة الله أو حقيقة الوحدة التي صدرت عنها كثرة الموجودات والخلائق. وفي هذا الصدد يقول الفارابي:" العلم بالحقيقة ماكان صادقا ويقينا في الزمان كله لا في بعض دون بعض وماكان موجودا في وقت وأمكن أن يصير غير موجود فيما بعد. فإنا إذا عرفنا موجودا الآن فإنه إذا مضى عليه زمان ما، أمكن أن يكون قد بطل، فلاندري هل هو موجود أم لا، فيعود يقيننا شكا وكذبا، وما أمكن أن يكذب فليس بعلم ويقين. فلذلك، لم يجعل القدماء إدراك ما يمكن أن يتغير من حال إلى حال علما، مثلما علمنا بجلوس هذا الإنسان الآن، فإنه يمكن أن يتغير فيصير قائما بعد أن كان جالسا، بل جعلوا العلم هو اليقين بوجود الشيء الذي لايمكن أن يتغير، مثل: أن الثلاثة عدد فرد؛ فإن فردية الثلاثة لا تتغير ، وذلك أن الثلاثة لا تصير زوجا في حال من الأحوال ولا الأربعة فردا...

الحكمة علم الأسباب البعيدة التي بها وجود سائر الموجودات كلها ووجود الأسباب القريبة للأشياء ذوات الأسباب، وذلك أن نتيقن بوجودها ونعلم ما هي وكيف هي وأنها- وإن كانت كثيرة – فإنها ترتقي على ترتيب إلى موجود واحد هو السبب في وجود تلك الأسباب البعيدة ومادونها من الأشياء القريبة، وأن ذلك الواحد هو الأول بالحقيقة...، وأنه لايمكن أن يكون إلا واحدا فقط، وأنه هو الواحد في الحقيقة، وهو الذي أفاد سائر الموجودات الوحدة التي بها صرنا نقول: لكل موجود إنه واحد، وأنه الموجود الواحد هو الحق الأول الذي يفيد غيره الحقيقة، ويكتفي بحقيقته عن أن يستفيد الحقيقة عن غيره...ولا وجود أتم من وجوده، ولا حقيقة أكبر من حقيقته، ولا وحدة أتم من وحدته، ونعلم مع ذلك كيف استفاد منه سائر الموجودات الوجود والحقيقة والوحدة، وما قسط كل واحد منها من الوجود والحقيقة والوحدة."#

وتحيلنا هذه القولة على نظرية الفيض التي تبحث في كيفية صدور الكثرة عن الوحدة الإلهية ، وذلك في شكل انبثاق هرمي للموجودات عن الواحد الكل. ومن ثم، فالحقيقة الجوهرية هي حقيقة الذات الربانية التي خلقت العالم من العدم. وبالتالي، فالحقيقة هي التي تقترن بالثبات واليقين والوحدة.

هذا، ويتسم التوجه الفلسفي عند الفارابي في بحثه عن الحقيقة بالطابع التوفيقي والتمجيدي للبرهان الفلسفي ، كما يتضح ذلك بجلاء في كتابه:"الحروف" الذي يعتبر فيه الفارابي كل من حاد عن المنهج البرهاني ، فقد اعتمد على مجرد انطباعات حسية وآراء شائعة مشتركة بين عوام الناس. أما من تمثل سبيل البرهان، فهو من فئة الخواص. وبالتالي، فقد عرف الطريق الصحيح الموصل إلى الحقيقة الصادقة . وبالتالي، فقد سلك مسلك تحصيل اليقين الحقيقي:"ولا يزالون يجتهدون ويختبرون الأوثق إلى أن يتفقوا على الطرق الجدلية بعد زمان، وتتميز لهم الطرق الجدلية عن الطرق السوفسطائية...فلا تستعمل إلى أن تكمل المخاطبات الجدلية، فتبين بالطرق الجدلية أنها ليست هي كافية بعد في أن يحصل اليقين... فالتعليم الخاص هو بالطرق البرهانية فقط، والمشترك الذي هو العام فهو بالطرق الجدلية أو بالخطابية أو بالشعرية".#

ويظهر لنا أن الفارابي والكندي ومن سار مسارهما مجرد تابعين من توابع الفلسفة الأرسطية المشائية، تلك الفلسفة التي تجعل من الفلسفة والبرهان آليتين من آليات المعرفة الحقيقية الصادقة. ويعني هذا أن العقل والمنطق- كما يتشخصان في الفلسفة اليونانية- من أهم الوسائل الناجعة للوصول إلى الحقيقة اليقينية سواء أكانت حقيقة أنطولوجية تتعلق بالوجود، أم كانت حقيقة إبستمولوجية تتعلق بالمعرفة، أم كانت حقيقة أكسيولوجية تتعلق بالقيم والأخلاق.

وإذا كان الفارابي فيلسوف العقل، فإن ابن سينا (370-428هـ) فيلسوف النفس، ويعني هذا أنه قد اشتغل كثيرا بحقائق النفس الإنسانية روحا وتصوفا، ولاسيما في كتابه" الإشارات والتنبيهات"#. وقد حاول ابن سينا، وذلك اعتمادا على نظرية الفيض الأفلوطينية، التوفيق بين الدين القائل بحدوث العالم والفلسفة القائلة بقدم العالم ، مستوحيا في ذلك أفكار وتصورات أستاذه الفارابي. وهكذا، فقد أثبت وحدة الحقيقة الربانية التي تصدر عنها الموجودات المتعددة فيضا وانبثاقا هرميا، كما أثبت أن السعادة الحقيقية تنتج عن طريق تنقية الروح ، وتطهير النفس ، ولم يعط الجسد أو البدن أي اهتمام في ذلك؛ لأن الإنسان يبعث روحا، ولايبعث جسدا .

وإذا كان المؤلفون القدامى والباحثون المعاصرون يتفقون في القول:" إن الشيخ الرئيس أبا علي ابن سينا لايختلف، في آرائه الفلسفية، عن الفارابي إلا في بعض التفاصيل والجزئيات.بل إن منهم من يذهب إلى القول بأن ابن سينا لم يعمل في الحقيقة إلا على توضيح وتبسيط الأقاويل التي قررها الفارابي من قبل: فما أعطاه الفارابي موجزا مجملا، قدمه ابن سينا مبسطا مفصلا."#، فإن الدكتور محمد عابد الجابري يرى أنه مهما كان هناك من اتفاق على المستوى النظري، فهناك اختلاف كذلك على المستوى المرجعي والإيديولوجي :" إن ابن سينا حينما تبنى المنظومة الميتافيزيقية الفارابية، تبناها كمنظومة معرفية وليس كحلم إيديولوجي. ولم يكن هذا راجعا إلى قراره واختياره، بل كان ذلك هو قرار التاريخ."#

ويدل هذا على أن الفارابي كان يحلم بدولة قوية موحدة السلطة، مركزها العقل والإخاء الفلسفي، في حين أن ابن سينا كان يعبر عن دولة بدأت تتفكك إلى إمارات متعددة، تنعدم فيها وحدة السلطة واستمرارية الدولة . ويعني هذا أن هناك انتقالا من حلم المدينة الفاضلة القائمة على وحدة السلطة والعقل كما هو الحال عند الفارابي، إلى حلم ضائع مبني على مدينة مفككة في عهد ابن سينا. إذاً، هذا هو الاختلاف الإيديولوجي الذي كان يميز بين الفيلسوفين ، وذلك على الرغم من وحدة التصور الفلسفي والتأمل النظري#.

وإذا انتقلنا إلى فيلسوف آخر ألا وهو الغزالي (1057-1111م)، فإنه يرى الشك هو السبيل الوحيد إلى الوصول إلى الحقيقة اليقينية، وقد سبق في ذلك الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596-1650م )الذي اعتمد معيار الشك للتأكد من حقيقة وجوده ، ووجود الله والعالم الخارجي على حد سواء(نظرية الكوجيطو). وقد ارتأى الغزالي أن الحس بمفرده غير كاف للوصول إلى الحقيقة، حتى العقل بمفرده غير قادر على استكشاف الحقيقة، فلابد من ممارسة الشك من أجل تحقيق الهدف الأسمى الذي يتمثل في الوصول إلى الحقيقة. وبتحصيل الحقيقة، تتحقق السعادة والفضيلة والكمال. وهكذا، يرى الغزالي أن الحقيقة تنبني على الشك اليقيني سواء أكان ذلك الشك قائما على الحس أم العقل أم القلب الصوفي:"ثم فتشت علومي فوجدت نفسي عاطلا من علم موصوف بهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات. فقلت: الآن بعد حصول اليأس، لامطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات، وهي الحسيات والضروريات. فلابد من إحكامها أولا لأتيقن أن ثقتي بالمحسوسات، وأماني من لغط في الضروريات، من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليديات، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات، أم هو أمان محقق لاغدر فيه ولاغائلة له؟ فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؛ فانتهى بي طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا، وأخذت تتسع للشك فيها...فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات ، وقد كنت واثقا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى ، كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه... ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لابحكم النطق والمقال، حتى شفي الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف.فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة، فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة."#

هذا، ويرى أبو حامد الغزالي في كتابه:" إحياء العلوم" أن الحقيقة المطلقة يتم تحصيلها عن طريق القلب والإلهام عند الصوفية والأولياء والأصفياء، ويتم تحصيلها عن طريق الوحي عند الأنبياء، وتكتسب عن طريق الاستدلال والاعتبار والاستبصار عند العلماء:" اعلم أن العلوم التي ليست ضرورية- وإنما تحصل في القلب في بعض الأحوال- تختلف الحال في حصولها، فتارة تهجم على القلب كأنه ألقى فيه من حيث لايدري، وتارة تكتسب بطريقة الاستدلال والتعلم. فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاما، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارا واستبصارا. ثم الواقع في القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد ينقسم إلى مالايدري العبد أنه كيف حصل له ومن أين حصل؟ وإلى مايطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم، وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب. والأول: يسمى إلهاما ونفثا في الروع، والثاني: يسمى وحيا وتختص به الأنبياء. والأول يختص به الأولياء والأصفياء. والذي قبله- وهو المكتسب بطريقة الاستدلال- يختص به العلماء. وحقيقة القول فيه أن القلب مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، وإنما حيل بينه وبينها بالأسباب الخمسة- التي سبق ذكرها- فهي كالحجاب المسدل الحائل بين مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله به إلى يوم القيامة. وتجلى حقائق العلوم من مرآة اللوح في مرآة القلب يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها."#

وقد انتقد الغزالي الفلاسفة المسلمين في كتابه:" تهافت الفلاسفة"#، وذلك في عشرين مسألة، معتمدا في ذلك على الدين والمنطق، حيث بدعهم في سبع عشرة مسألة، وكفرهم في ثلاث مسائل أو حقائق فلسفية، ويمكن حصرهذه الحقائق الثلاث في القضايا التالية:

1- مسألة قدم العالم وأزليته، حيث قال الفلاسفة باستحالة صدور حادث عن قديم أصلا.

2- قضية العلم الإلهي، حيث يذهب الفلاسفة إلى أن الله يعلم الكليات دون الجزئيات.

3- حشر النفوس دون الأجساد، حيث يرى الفلاسفة المسلمون أن الله سيبعث النفوس دون الأجساد.

وهكذا، فالغزالي يخالفهم في ذلك ، إذ يثبت أن الله يعلم الكليات والجزئيات على حد سواء، وأن الله أيضا سيبعث النفوس والأجساد معا، ويؤكد كذلك بإمكان صدور الحادث عن القديم أصلا. ومن ثم، فقد وضع الغزالي حدا نهائيا للميتافيزيقا الإسلامية، واختار منهجا آخر في المعرفة ، ألا وهو المنهج الصوفي ؛ حيث اعتبر الخلوة مصدرا للمعرفة ، وطريقا مؤديا إلى الحقيقة الربانية السرمدية.

أما إذا انتقلنا إلى الفلسفة بالغرب الإسلامي، فقد كانت الحقيقة الربانية حاضرة ، إلى جانب حقائق أخرى كحقيقة الوجود، وحقيقة المعرفة، وحقيقة القيم بما فيها: الخير، والسعادة ، والعدل ، والجمال... بيد أن أهم ماتميزت به الفلسفة المغربية هي الانشغال بترجمة كتب أرسطو، والاهتمام بالميتافيزيقا والمنطق، والتوفيق بين الدين والفلسفة على أن الشرع منفصل عن الحكمة، لكن هدفهما واحد ألا وهو استخدام العقل من أجل إدراك الحقيقة ، حقيقة الصانع وحقيقة المصنوعات والموجودات التي خلقها هذا الصانع الماهر. ومن أهم الفلاسفة الذين انشغلوا بعملية التوفيق بين الدين والفلسفة، نستحضر: ابن باجة، وابن طفيل، وابن حزم، وابن رشد، وموسى بن ميمون...#

فإذا بدأنا بالفيلسوف الأندلسي ابن باجة (ت.532هـ) في كتابه:" تدبير المتوحد"، فقد رفض هذا الفيلسوف العقلاني المنهج الصوفي في إدراك الحقيقة كما عند ابن سينا، واعتبر العقل أو البرهان هو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى امتلاك الحقيقة اليقينية (حقيقة معرفة الله)، وقد تأثر في ذلك بالفارابي كل تأثير. ويقول الدكتور محمد علي أبو ريان عن ابن باجة:" ومما تجدر الإشارة إليه أنه كما كان ابن مسرة يمثل في المغرب اتجاها يميل إلى التصوف وإلى الإدراك الذوقي لحقائق الوحي والألوهية وتحقيق السعادة واللذة عن طريق المشاهدة الصوفية ( وقد سار ابن عربي فيما بعد على هذا الدرب) ، نجد أن ابن باجة يرفض هذا الاتجاه ، وينتقد موقف الغزالي في المشرق الذي قال بأن العالم العقلي لاينكشف للانسان إلا بالخلوة، فيرى الأنوار الإلهية ، ويلتذ بها لذة كبيرة، ويقول ابن باجة: إن الغزالي حسب الأمر هينا حينا ظن أن السعادة إنما تحصل للمرء عن طريق امتلاكه للحقيقة بنور يقذفه الله في القلب. بل الحق أن النظر العقلي الخالص الذي لاتشوبه لذة حسية هو وحده الموصول إلى مشاهدة الله، أما المعرفة الصوفية بما تنطوي عليه من صور حسية فإنها تكون عائقا عن الوصول إلى معرفة الله إذ هي تحجب وجه الحقيقة.

فالمعرفة العقلية هي وحدها التي تقود الإنسان إلى معرفة نفسه بنفسه ومعرفة العقل الفعال، وقد تأثر ابن رشد بموقفه هذا.

وكتاب" تدبير المتوحد" لابن باجة يبين معالم الطريق الموصول إلى العقل الفعال.
وتقال لفظة التدبير على ترتيب أفعال نحو غاية مقصودة، وليست هذه الغاية سوى الاتحاد بالعقل الفعال، ولهذا فإن الطريق الذي يرسمه الكتاب هو المنهج الذي يسير عليه الإنسان حتى يبلغ هذه الغاية المنشودة.

ولكن هذا المنهج ليس منهجا صوفيا يستخدم فيه المريد أسلوب المجاهدة والتطهير، بل هو تدبير الأعمال بالعقل، واستخدام الرؤية، ولايقدر على هذا غير الإنسان."#

وقد سبق لابن طفيل أن حاول التوفيق بين الدين والفلسفة ، وذلك في كتابه " حي بن يقظان"، حيث يمثل آبسال الحقيقة الدينية التي توصل إليها عن طريق النص والشرع والوحي. في حين، يمثل حي الحقيقة العقلية التي توصل إليها عن طريق البرهان والاستبصار والتأمل المنطقي. وحينما التقيا على أرض الجزيرة، وجدا أن حقيقة الدين النصية والحقيقة الفلسفية العقلية لاتتعارضان إطلاقا مع حقيقة الفلسفة العقلانية والبرهانية.

وإذا كانت الفلسفة المشرقية - كما هي عند الفارابي وابن سينا- قائمة على فلسفة الاتصال بين النص والعقل، والخلط بين أفلاطون المثالي وأرسطو المادي ، وذلك من خلال استحضار أفلوطين المثالي الهرمسي أثناء عملية التوفيق، والوقوع في التلفيق أثناء المؤالفة بين الحكمة والشريعة، فإن فلاسفة المغرب قد انطلقوا منذ البداية بأن الفلسفة ليست هي الشريعة، ولكن هدفهما واحد، مادام الشرع يدعو إلى استخدام العقل والنظر البرهاني، فكذلك الحكمة أو الفلسفة فهي تنادي إلى استخدام العقل في معرفة المصنوعات ومعرفة الصانع. ومن هنا، فالدين ليس هو الفلسفة، ولكن يتفقان من حيث الهدف ألا وهو استخدام العقل. وبما أن هدفهما واحد، فلابأس من الاستعانة بعلوم الأوائل، ودراسة الفلسفة والمنطق كما لدى اليونان، وهذا ما يذهب إليه ابن رشد كذلك.

وبناء على ماسبق، يقول محمد عابد الجابري معقبا على فلسفة ابن طفيل:" ومما هو جدير بالملاحظة أن الفيلسوف الأندلسي يترك الطريقين متوازيين في النهاية كما وضعهما في البداية.لقد فشل حي بن يقظان في إقناع سلامان وجمهوره بأن معتقداتهم الدينية هي مجرد مثالات ورموز للحقيقة المباشرة التي اكتشفها بالعقل، فشل حي في ذلك وعاد إلى جزيرته الشيء الذي يعني فشل المدرسة الفلسفية في المشرق التي بلغت أوجها مع ابن سينا في محاولتها الرامية إلى دمج الدين في الفلسفة . أما البديل الذي يطرحه ابن طفيل، بل المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس، بكامل أعضائها، فهو الفصل بين الدين والفلسفة."#

ويعني هذا أن فلاسفة الغرب الإسلامي – حسب محمد عابد الجابري- بعمليتهم التوفيقية هاته ، والقائمة على الفصل بين الشرع والفلسفة، قد أسسوا بشكل من الأشكال مدرسة فلسفية مغربية مستقلة، تتميز كثيرا عن المدرسة الفلسفية المشرقية التي سقطت في التلفيق والخلط المنهجي ، وتوظيف المؤثرات الدينية الهرمسية والغنوصية والأفلوطينية... وقد اتضحت هذه المدرسة الفلسفية المغربية مع ابن رشد على سبيل الخصوص. وفي هذا النطاق، يقول الجابري:" ننظر إلى المدرسة الفلسفية التي عرفها المغرب الإسلامي على عهد الدولة الموحدين، كمدرسة مستقلة تماما عن المدرسة- أو المدارس- الفلسفية في المشرق، فلقد كان لكل واحدة منهما منهجها الخاص، ومفاهيمها الخاصة، وإشكاليتها الخاصة كذلك.لقد كانت المدرسة الفلسفية في المشرق، مدرسة الفارابي وابن سينا بكيفية أخص، تستوحي آراء الفلسفة الدينية التي سادت في بعض المدارس السريانية القديمة، خاصة مدرسة حران، والمتأثرة إلى حد بعيد بالأفلاطونية المحدثة. أما المدرسة الفلسفية في المغرب، مدرسة ابن رشد خاصة، فقد كانت متأثرة إلى حد كبير بالحركة الإصلاحية، بل بالثورة الثقافية، التي قادها ابن تومرت، مؤسس دولة الموحدين، التي اتخذت شعارا لها:" ترك التقليد والعودة إلى الأصول". ومن هنا، انصرفت المدرسة الفلسفية في المغرب إلى البحث عن الأصالة من خلال قراءة جديدة للأصول... ولفلسفة أرسطو بالذات.

إن الانفصال الظاهري بين المدرستين بوصفهما تنتميان إلى مااصطلح على تسميته بـ" الفلسفة الإسلامية " أو " الفلسفة في الإسلام"، لاينبغي أن يخفي عنا " انفصالا" أعمق بينهما.لقد عالج فلاسفة الإسلام، بالفعل، نفس الموصوعات، وتناولوا نفس المشاكل، ولكن ما يميز فكرا فلسفيا معينا- كما يقول برييه- ليس الموضوع الذي يتناوله، ولا النظريات التي يدافع عنها، " إن الأهم من ذلك هو النظر إلى الروح التي يصدر عنها والنظام الفكري الذي ينتمي إليه". ونحن نعتقد أنه كان هناك روحان ونظامان فكريان في المشرق والفكر النظري في المغرب، وأنه داخل الاتصال الظاهري بينهما كان هناك انفصال نرفعه إلى درجة القطيعة الإبستمولوجية بين الاثنين، قطيعة تمس في آن واحد: المنهج والمفاهيم والإشكالية."#
ويعني هذا أن هناك قطيعة إبستمولوجية بين المدرستين المغربية والمشرقية في مجال الفلسفة ، وذلك على مستوى الطرح النظري، وعلى مستوى المنهج والمعالجة، وعلى مستوى البعد المرجعي والإيديولوجي.

وبناء على ماسبق، نستحضر ابن رشد (520-595هــ)، وذلك باعتباره من أهم فلاسفة المدرسة المغربية ، فقد تميز بالعقلانية التي كانت أساس النهضة الأوربية، وقد تجلت هذه العقلانية الرشدية في ترجمة كتب أرسطو وشرحها، ولاسيما كتبه المنطقية والميتافيزيقية، كما توفق في التوفيق بين الدين والفلسفة داخل أرضية شرعية .

هذا، ويذهب ابن رشد في كتابه " فصل المقال" #إلى أن هناك حقائق عدة توصل الإنسان إلى حقيقة يقينية واحدة، وهي الحقيقة الربانية القائمة على التوحيد، ونبذ التعددية والشرك الوثني. وهكذا، نجد أن هناك من يعتمد على الخطابة للوصول إلى الحقيقة كالفقهاء، وهناك من يختار الجدل كعلماء الكلام (المعتزلة والأشاعرة والماتريدية...)، وهناك من يعتمد على العرفان كالمتصوفة، وهناك من يفضل البرهان كالفلاسفة للوصول إلى الحقيقة الصادقة. لكن ابن رشد يرى أن الحقيقة اليقينية لايمكن الوصول إليها إلا عن طريق البرهان العقلي، ذلك البرهان الذي لايتعارض مع الشرع الرباني مادام الحق لايضاد الحق، بل يوافقه ويلائمه هدفا ووظيفة ومقصدا. ويتمثل ذلك في معرفة الحق، والتأكد من وجود الله عز وجل صانع هذا الكون الأرحب والمعجز. وبهذا، يعمد ابن رشد إلى التوفيق بين الفلسفة والشريعة على غرار الفلسفة المغربية كما عند ابن طفيل وابن باجة مثلا، مع الاستفادة بشكل من الاشكال من الفلسفة المشرقية كما هي عند الكندي، والفارابي، وابن سينا، و الغزالي...

ويقول ابن رشد في كتابه" فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ":"وإذا كنا نعتقد، معشر المسلمين، أن شريعتنا، هذه الإلهية، حق، وأنها التي نبهت على هذه السعادة. ودعت إليها التي هي المعرفة بالله عز وجل، وبمخلوقاته، فإن ذلك متقرر عند كل مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلته وطبيعته من التصديق، وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق، فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية.

وإذا كانت الشريعة حقا، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع، أنه لايؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ماورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له."#

وهكذا، يتبين لنا بأن المشروع الرشدي ينطلق من مبدإ عام هو:" إن الحقيقة واحدة وإدراك الناس لها يختلف بالدرجة فقط، وليس بالنوع"، وفي ضوء هذا الفهم للحقيقة، وأهلية الناس على إدراكها، يناقش ابن رشد إشكالية العقل والانغلاق المذهبي، ويحاول أن يعيد رسم حدود العلاقة بين الدين والفلسفة أو العقل والوحي، بما يحفظ لكل منهما حضوره ووظيفته ونشاطه على مستوى القول المعرفي والبناء الاجتماعي."#

ويعني هذا أن ابن رشد قد تناول وحدة الحقيقة على مستوى الهدف والمقصد(وحدة الحقيقة الربانية). وتحدث، في الوقت نفسه، عن تنوع المنهج في الوصول إلى الحقيقة (المنهج البياني ، والمنهج البرهاني، والمنهج العرفاني). وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على انفتاح ابن رشد على الخطابات الفكرية والفلسفية الأخرى، وتجنب الانغلاق والتعصب في مجال الفكر والتأمل، مع الأخذ بفلسفة التسامح والتفاهم والتعايش في التعامل مع أطروحات الآخرين ، بما فيهم الفلاسفة اليونانيون.

ومن هنا، فقد رد ابن رشد على الغزالي الذي كفر الفلاسفة في كتابه:" تهافت الفلاسفة"#، فصنف كتابا تحت عنوان:" تهافت التهافت" ، وذلك للرد على الغزالي في ثلاث مسائل أو حقائق كبرى كفر فيها فلاسفة الإسلام، معتمدا في ذلك على المنطق أولا، والدين ثانيا. وهذه الحقائق الفلسفية هي: قدم العالم، وعلم الله الكليات دون الجزئيات، وحشر النفوس دون الأبدان أو الأجساد.

وإذا كان الفقهاء يعتمدون على ظاهر النص في الوصول إلى الحقيقة الربانية، وعلماء الكلام يستندون إلى الجدل الافتراضي، والفلاسفة يعتمدون على العقل والمنطق أو البرهان الاستدلالي، فإن المتصوفة يعتمدون على الذوق والحدس والوجدان والقلب في إدراك هذه الحقيقة السرمدية. أي: إن لغتهم لغة باطنية تنفي الوساطة، وترفض الحسية، وتتجاوز نطاق الحس والعقل إلى ماهو غيبي وجداني وذوقي . ومن ثم، فاللغة قاصرة في ترجمة التجربة الصوفية اللدنية الجوانية. لذلك، يلتجئ المتصوفة إلى مصطلحات رمزية لها سياقات خاصة، وهذه المصطلحات كثيرة يصعب حصرها، استقيت من مجالات عدة . ومن هنا، يمكن الحديث عن اللفظ المشترك داخل الحقل الصوفي . ومن هذه العلوم التي نهلت منها الكتابة أو الممارسة الصوفية، نذكر: : علوم الشريعة،وعلوم العقيدة، والآداب، وعلوم اللغة، والفلسفة، وعلوم الآلة، فضلا عن القرآن والسنة وعلم الحروف والكيمياء...

ومن مشاكل الاصطلاح الصوفي التعدد في الألفاظ، والتعدد في المعاني، والاختلاف بين الصوفية في معنى مفهوم ما، وهذا راجع لاختلاف التجربة الصوفية من تجربة إلى أخرى. #
وعليه، فهناك مجموعة من القضايا والإشكاليات التي يجب الوقوف إليها عند المتصوفة، وهي: قضية العرفان ، وثنائية الظاهر والباطن، وإشكالية التأويل؛ لأنها هي التي ستميز الخطاب الصوفي عن الخطاب الفلسفي، والخطاب الفقهي، والخطاب الكلامي. فهذا أبو نصر السراج الطوسي ، وهو من أوائل المؤلفين في تاريخ التصوف في الإسلام، يعتبر المتصوفة من علماء الباطن. وبالتالي، فالتصوف هو علم الباطن، بينما الفقه هو علم الظاهر. وفي هذا يقول في كتابه" اللمع":"إن العلم ظاهر وباطن. وهو علم الشريعة الذي يدل ويدعو إلى الأعمال الظاهرة والباطنة. والأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح وهي العبادات والأحكام... وأما الأعمال الباطنة فكأنما القلوب وهي المقامات والأحوال... ولكل عمل من هذه الأعمال الظاهرة والباطنة علم وفقه وبيان وفهم وحقيقة ووجد... فإذا قلنا: علم الباطن أردنا بذلك علم أعمال الباطن التي هي الجارحة الباطنة وهي القلب، وأما إذا قلنا: علم الظاهر أشرنا إلى علم الأعمال الظاهرة التي هو الجوارح الظاهرة وهي الأعضاء، وقد قال تعالى:" وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة"( لقمان20). فالنعمة الظاهرة ما أنعم الله تعالى بها على الجوارح الظاهرة من فعل الطاعات، والنعمة الباطنة ما أنعم الله تعالى بها على القلب من هذه الحالات. ولا يستغني الظاهر عن الباطن ولا الباطن عن الظاهر، وقد قال الله عز وجل" ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم"( النساء83)، فالعلم المستنبط هو العلم الباطن وهو علم أهل التصوف لأن لهم مستنبطات من القرآن والحديث وغير ذلك... فالعلم ظاهر وباطن والقرآن ظاهر وباطن، وحديث رسول ( صلعم) ظاهر وباطن والإسلام ظاهر وباطن".#

ومن هنا، فإن المتصوفة يتجاوزون الحس والظاهر إلى استكناه القلب ، واستنطاق مقاماته وأحواله لتأسيس تجربة روحانية، وتأصيل حضرة ربانية قوامها: العشق، والمحبة، والزهادة، وتأويلها عرفانيا ولدنيا، بينما يكتفي الفقهاء وعموم الناس بظاهر النصوص، والالتزام بسياقاتها السطحية، وذلك مخافة من التأويل، وإثارة الفتنة في المجتمع.

هذا، ويمكن الحديث عن نوعين من المصادر التي كانت وراء نشوء التصوف الإسلامي: أولا، المصادر الداخلية التي تتمثل في القرآن الكريم، والسنة النبوية، والظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تمر منها الأمة الإسلامية.

ثانيا، المصادر الخارجية التي تتمثل في الفكر الغنوصي، والهرمسية، والأفلاطونية المحدثة، والتشيع، والفكر الباطني، ناهيك عن التيارات الهندية والفارسية والمسيحية واليهودية.
وإذا كان الزهد والتصوف الإسلامي السني لهما جذور داخلية بدون شك ، فإن التصوف الفلسفي كما عند الحلاج، وأبي يزيد البسطامي، وابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، والسهروردي، على الرغم من طابعه السني والشرعي في الكثير من النصوص و المواقف، فإن له جذورا خارجية؛ نظرا لتأثره بالفكر الهرمسي، كما يقول الدكتور عابد الجابري في كتابه:"بنية العقل العربي":"وإنما ذكرنا الإسماعيلية هنا لأنه عنهم كان ابن العربي يأخذ مواد عرفانيته، ومن نفس النبع الذي غرفوا منه كان يستسقي الهرمسية.".#

ويذهب ابن خلدون في كتابه "المقدمة" إلى أن المتصوفة المتأخرين قد تأثروا بالشيعة الغلاة والفكر الباطني المنحرف. ويقول ابن خلدون في هذا الصدد:" إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف، وفيما وراء الحس، توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة، وملأوا الصحف منه ، مثل: الهروي في كتابه "المقامات" وله غيره، وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم، وتشابهت عقائدهم".#

وتحيل نظرية الحلول ومحبة الله ولبس الصوف على العقيدة المسيحية ، بينما تحيل فكرة الفناء على النرڤانا البوذية، وتشير أفكار ذي النون المصري إلى تصورات أفلوطين، وتختلط أفكار ابن عربي بأفكار الشيعة الباطنية والهرمسية الشرقية.

وقد دفعت الشطحات التي كان ينطق بها المتصوفة كثيرا من المستشرقين ليربطوا التصوف الإسلامي بمؤثرات خارجية هندوسية وبوذية وزرادشتية، مثل: شطحات أبي يزيد البسطامي الذي قال:" رفعني- الله- مرة فأقامني بين يديه، وقال لي يا أبا يزيد:إن خلقي يحبون أن يروك. فقلت: زيني بوحدانيتك، والبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك ، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك". ومن ذلك أيضا قوله:" أول ما صرت إلى وحدانيته فصرت إلى وحدانيته فصرت طيرا جسمه من الأحدية وجناحاه من الديمومة، فلم أزل أطير في هواء الكيفية عشر سنين حتى صرت إلى هواء مثل ذلك مائة ألف مرة. فلم أزل أطير إلى أن صرت في ميدان الأزلية فرأيت فيها شجرة أحدية، ثم وصفت أرضها وأصلها وفرعها وأعضاءها وثمارها...فنظرت فعلمت أن هذا كله خدعة".#

فهذه الشطحات كثيرة في متون العرفانيين، أمثال: جلال الدين الرومي، والسهروردي، وابن عربي، وأبي يزيد البسطامي، والحلاج، وابن الفارض، وابن سبعين...

وهكذا، فقد ارتبطت الحقيقة عند المتصوفة في التاريخ الإسلامي بالقلب العرفاني تحلية وتخلية ووصالا، واقترنت بالروح الوجدانية حضرة وسلوكا ومقاما، واختلطت بالهذيان اللاشعوري تأويلا وإفصاحا وتعبيرا، وارتكزت على السحر الأسطوري فهما وتفسيرا، واستندت إلى الكرامات الخرافية الغيبية سردا وتخييلا وتخطيبا، واعتمدت على التصورات العجائبية الخارقة . كما ارتبطت الحقيقة الصوفية عند الفرق الطرقية بالتدجين، والاستلاب، واستغلال الناس، وخدمة السلطة الحاكمة الجائرة، وذلك على حساب الحقيقة الصادقة واليقينية.

هذا، وقد نشب خلاف كبير حول قيمة التصوف في المجتمع العربي الإسلامي، فهناك من يدافع عنه، ويعتبره فعلا إيجابيا . وهناك من ينظر إليه نظرة سلبية. ومن هؤلاء: الدكتور محمد عابد الجابري الذي اعتبر الفكر الصوفي العرفاني فكرا خرافيا أسطوريا، وسلوكا تواكليا، فالحقيقة عند الصوفية" ليست الحقيقة الدينية ولا الحقيقة الفلسفية ولا الحقيقة العلمية، بل الحقيقة عندهم هي الرؤية السحرية للعالم التي تكرسها الأسطورة".#

ولكن هناك من يشيد بالفكر الصوفي، ويعتبره مسلكا للنجاة والخروج من أزمات الحياة المعاصرة، لأن مشكلاتنا مشكلات أخلاقية، وأزمات روحية. كما أن الكثير من الطرق الصوفية قامت بدور هام في ميدان الجهاد، وطرد المستعمر، وحماية ثغور الوطن، وساهمت في خدمة المجتمع ، وذلك عن طريق الكرم والإنفاق والإحسان. زد على ذلك، أن التصوف أصبح اليوم علاجا سيكولوجيا؛ لأنه يحرر الإنسان من شرنقة أمراضه العضوية والنفسية، ويخرجه من عزلته الاجتماعية، ويداويه من القلق والكآبة والوحدة والاغتراب الذاتي والمكاني.

وما أشد حاجتنا اليوم إلى تصوف معاصر يساير الحداثة، ويواكب التقدم العلمي والتقني والفني! تصوف ينخرط في المجتمع انخراطا حقيقيا، وذلك عن طريق تقديم مقاربات أخلاقية ونفسية وروحية ، تعالج كل المشاكل التي يعاني منها العالم الإسلامي المعاصر، ولاسيما أن أزمتنا المعاصرة هي أزمة ضمير وأخلاق، وتردي القيم الأصيلة ، وانحطاط الإنسان كينونة ووجودا وقيمة.

وهكذا، فقد ناقش الفكر الإسلامي مجموعة من الحقائق الكبرى ، لكن تبقى الحقيقة الربانية (التوحيد) أهم هذه الحقائق وأسماها، فقد وجدناها مطروحة عند علماء الكلام والفلاسفة والمتصوفة. بيد أن ثمة حقائق أخرى قد تم مناقضتها في حقل الفكر الإسلامي كمسألة العقل والنقل، ومسألة الظاهر والباطن، ومسألة التأويل بين الحرفي والمجازي، ومسأالة التوفيق بين الشرع والحكمة، ناهيك عن مناقشة الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية والميتافيزيقية التي طرحتها الفلسفة اليونانية من جهة، والواقع العربي الإسلامي من جهة أخرى.

ونخلص من كل هذا أن الفلاسفة والعلماء المسلمين قد انشغلوا بحقيقتين مترابطتين أو متلازمتين: الحقيقة الميتافيزيقية التوقيفية التي نوقشت في ضوء الدين والمنطق الافتراضي الصوري، والحقيقة العلمية التوفيقية التي نوقشت في ضوء مناهج الاستقراء والاستنباط والتجريب. وهناك حقيقة ثالثة وسيطية اهتم بها الفقهاء وعلماء اللغة والأدب، ونسميها الحقيقة البيانية التي نوقشت في ضوء الرواية والتقعيد والاستنباط والاجتهاد.

 قيمــــة الحقيقـــــــة:

من المعلوم، أنه يمكن الحديث عن حقيقة تراد لذاتها كخطاب معرفي واستدلالي وبرهاني، وذلك بعيدا عن أي معيار خارجي أو منفعة مباشرة وغير مباشرة. ويمكن الحديث أيضا عن حقيقة ذات بعد أخلاقي وقيمي مرتبطة بالواجب، وقول الحق. ويمكن الإشارة كذلك إلى حقيقة ذات قيمة براجماتية يراد بها المنفعة والمصلحة، وحقيقة ذات قيمة وجودية مرتبطة بالكائن والممكن.

1- الحقيقـــة قيمــة معرفيــة :

اعتبر الفلاسفة العقلانيون كأفلاطون وأرسطو وابن رشد وديكارت وغيرهم أن القيمة الوحيدة للحقيقة هي القيمة المعرفية، والتي يمكن التوصل إليها عن طريق البرهان والاستدلال والقياس والاستقراء العقلاني. ويعني هذا أن الحقيقة المعرفية هي غاية لذاتها بعيدا عن المنافع والمصالح. وتتسلح هذه المعرفة بكل الآليات الذهنية والفطرية البديهية عند ديكارت، وتعتمد على البرهان والمنطق وآلياته الصورية والشكلية لفهم القضايا والمحمولات التصورية كما عند أرسطو، وترتكز أيضا عند ابن رشد على المقدمات اليقينية للوصول إلى النتائج اليقينية ، وذلك مع مراعاة أهداف الشرع الإسلامي ومقاصده الكبرى.

ومن هنا، فالحقيقة قيمة فكرية وعلمية ومعرفية. لذا، نجد أفلاطون يورد في "محاورة جورجياس" على لسان سقراط أن الحقيقة اليقينية هي التي نعتمد فيها على الحوار العقلاني البناء والجدل المنطقي والمناظرة الحجاجية الهادفة ، بدون اللجوء إلى استخدام الأكاذيب ، وبلاغة المغالطة ، وسفسطة الشك والمراوغة #. ويعني هذا أن الحقيقة يجب أن تكون موضوعية ، تقال لذاتها، وتتسم بالحرية والنـزاهة والحياد والاستقلالية أثناء إبداء المواقف والآراء والمعتقدات، وذلك دون إكراه أو ضغط أو جبر.

2- الحقيقـــة قيمـــة أخلاقيــة :

تعتبر الحقيقة خاصية أخلاقية وسلوكية، وذلك حينما تنبني على النـزاهة ، وقول الحق ، والتشبث بالصدق والحرية والحياد ، وتمثل الواجب الأخلاقي في التصريح بالحقيقة ،وذلك مهما كانت الظروف والضغوطات وقسوة الواقع. فالضمير الأخلاقي والواجب الديني يفرضان معا على الإنسان القول بالحقيقة الصادقة اليقينية ، وذلك من أجل إزالة الزيف والخداع والقناع الواهم عن كل الأفكار والحقائق التي يتفوه بها الإنسان نظريا وعمليا:" إن من يكذب، مهما كانت نيته ومقاصده، يتعين أن يتحمل ويتقبل نتائج وتبعات كذبه...، وأن يؤدي ثمن موقفه، كيفما كانت النتائج والتبعات غير المتوقعة. وذلك، لأن قول الحقيقة واجب يتعين اعتباره بمثابة أساس وقاعدة لكل الواجبات التي يتعين تأسيسها وإقامتها على عقد قانوني، ولأن القانون، إذ ما تسامحنا فيه ولو بأقل استثناء ممكن، فإنه سيصبح قانونا متذبذبا ومبتذلا."

فلابد إذا للحقيقة أن تستند إلى البرهان والحجاج المنطقي والقياس العقلاني، مع التطبيق الأخلاقي والسلوكي. وذلك، لأن الكذب يضر بالأفراد والمجتمعات، ويساهم في انتشار الظلم والجور، والإساءة إلى الإنسانية جمعاء. ومن ثم، فالكذب:" مضر للغير، إذ الكذب مضر للغير دائما، حتى إن لم يضر إنسانا بعينه، فهو يضر الإنسانية قاطبة، مادام يجرد منبع الحق من الصفة الشرعية...

فمن مقتضيات العقل المقدسة والضرورية إذا أنه ينبغي على الإنسان أن يكون صادقا في تصريحاته وأقواله...ذلك لأننا حين نعطي لأنفسنا الحق في إلزام الغير بالكذب لمصلحتنا ومنفعتنا، فإننا نكشف بذلك عن ادعاء مناقض لكل شرعية قانونية. والواقع أن كل إنسان ليس من حقه فحسب، بل من أوجب واجباته أن يتحلى بالصدق في تصريحاته وأقواله التي لامناص له من الإدلاء بها، حتى وإن أضر صدقه به هو أو بغيره."#

وبهذا، يكون كانط من الفلاسفة الذين ربطوا الحقيقة بالعقل العملي أو بالسلوكي الأخلاقي، وقيده أيضا بالواجب القائم على الحرية والضمير القيمي.

3- الحقيقـــة قيمــة عمليــة :

يرى البراجماتيون كوليام جيمس W. James 1842-1910l) م)، وجون ديوي (1859-؟) بأن الحقيقة تكمن في طابعها المنفعي والمصلحي. ويعني هذا أن الحقيقة الصادقة واليقينية هي التي تحقق المنفعة والمصلحة للإنسان، وتحقق المشاريع المستقبلية الهادفة، وتساهم في تنمية الأفراد والرقي بالمجتمعات ، وذلك عن طريق تحقيق المردودية والإنتاجية، والارتباط بالحياة العملية والواقعية المفيدة. وبالتالي، فكل الأفكار والحقائق التي لا تحقق مصلحة أو منفعة للإنسان، ولا تفيد المرء في حياته اليومية والعملية فهي حقائق زائفة وغير نافعة ولا مجدية إطلاقا. فالحقيقي هو المفيد والنافع والصالح. ولكن قد تختلف المنافع والمصالح من فرد إلى آخر ومن جماعة إلى جماعة، وقد تسبب هذه المصالح صراعات شرسة بين الناس. وعلى الرغم من هذا الطابع السلبي للحقائق البراجماتية العملية، فإن المصلحة أو الحقيقة البراجماتية هي حقيقة مستقبلية ، تدفع الإنسان إلى العمل والاجتهاد والإنتاج والرفع من المردودية ، وتحصيل الكفاءات الحقيقية من أجل تحقيق ما يصبو إليه الإنسان من مكانة رفيعة في المجتمع. ومن هنا، فالمجتمع الأمريكي والإنجليزي يأخذان بهذا النوع من الحقيقة المقترنة بالمنفعة والمصلحة المادية أو المعنوية. ويقوم الصحيح عند وليام جيمس بكل بساطة على ماهو مفيد لفكرنا، وينبني الصائب أيضا على ماهو مفيد لسلوكنا."#

ومن هنا، فالبراجماتيون يرون أن الأفكار الحقيقية هي:" تلك التي نستطيع أن نستوعبها، ونستطيع أن نصادق على صحتها، ونستطيع أن نعززها بفعل انخراطنا فيها، وأخيرا أن نتحقق منها...

هذه هي الأطروحة التي أدافع عنها- يقول وليام جيمس- حقيقة فكرة ما ليست خاصية متضمنة فيها، وتبقى غير فاعلة.الحقيقة هي حدث يتم إنتاجه من أجل فكرة ما، وتصير هذه الأخيرة حقيقة بفضل بعض الوقائع. إنها تكتسب حقيقتها من خلال العمل الذي تنجزه، أي العمل الذي يقتضي أن تتحقق من نفسها بنفسها، ويكون هدفها ونتيجتها التحقق الذاتي؛ كما أنها تكتسب صلاحيتها بإنجازها لعمل يهدف إلى نتيجة تتمثل في إثبات مصداقيتها."#
فالبراجماتيون، إذا، لا يرون في الحقيقة إلا طابعها المادي، ومنحاها المنفعي والمصلحي لتحقيق التنمية والتقدم. بينما الحقيقة يجب أن تكون في جوهرها معرفية وعملية وأخلاقية.

4- الحقيقة قيمة وجودية:

يرى مارتن هايدجر(1889-1976م) في كتابه:( ماهية الحقيقة) بأنه من الصعب بمكان الفصل بين الحقيقة واللاحقيقة، فالحقيقة تتحدد من خلال مقابلها اللاحقيقة. وبالتالي، فالحقيقة بمفهوم الصدق غير موجودة أصلا، مادامت هذه الحقيقة قائمة على التيه والغلط والوهم. وإذا كان التيه هو بنية داخلية للكينونة، وهو مجال مفتوح لكل ماهو مضاد للحقيقة، وخاصة عالم الخطإ، فإن التيه بهذا المعنىن يكون جزءا من حقيقة الإنسان وعلامة على غبداعه وغناه. إن الحقيقة مع هايجر هي غقامة علاقة وطيدة مع مايحيط بنا ، والاقتراب أكثر من لغة الوجود. ومن ثم، فماهية الحقيقة هي الحرية والتأويل والانكشاف والتيه.وهنا، تأثر واضح بفكر الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه.

وفي هذا الصدد، يقول مارتن هايدجر:"يكون الإنسان في انغلاقه منصرفا إلى ماهو أكثر رواجا في الكائن، ولكن حيث إنه متخارج سلفا، فهو لاينغلق إلا بأن يتخذ الكائن بما هو كذلك مقياسا، إلا أن البشرية في اتخاذها للمقياس تكون منصرفة عن السر ذلك الانصراف المنغلق إلى ماهو رائج، وهذا الانصراف المتخارج عن السر متلازمان.إنهما الشيء ذاته ونفسه، إلا أن ذلك الانصراف- إلى وعن- يستجيب لتقلب خاص في الكينونة بين هذا وذاك، حيث إن الابتعاد المضطرب للإنسان عن السر نحو ماهو رائج، واندفاعه من أمر رائج إلى الآخر دون الالتفات إلى السر، هو التيهان.

الإنسان يتيه، إن الإنسان لايسير إلى التيه، بل إنه يسير دائما فقط في التيه، لأنه، في وجوده المتخارج، منغلق وبذلك يقوم سلفا في التيه، إن التيه الذي يسير الإنسان عبره ليس شيئا يمتد فقط إن جاز التعبير بمحاذاة الإنسان مثل حفرة يقع فيها أحيانا، بل إن التيه ينتمي إلى البنية الداخلية للكينونة التي يلجها الإنسان التاريخي، إن التيه هو ميدان ذلك التقلب الذي ينسى فيه الوجود المتخارج المنغلق ذاته، ويخطىء في تقديرها دائما من جديد بمرونة، في كشف هذا الكائن المفرد أو ذاك يسود اختفاء الكائن المختفي في كليته، بذلك يصبح هذا الكشف باعتباره نسيانا للاختفاء تيها.

التيه هو الماهية المضادة الأساسية للماهية البدئية للحقيقة. وينفتح التيه بصفته المجال المفتوح لكل ماهو مضاد للحقيقة الأساسية، والتيه هو الميدان المفتوح للغلط وأساسه، وليس الغلط غلطة مفردة، بل مملكة (سيادة) تاريخ تلك التشابكات المتداخلة لكل كيفيات التيهان."#

ويعني هذا أن الحقيقة هي حرية ، وانكشاف، ووجود منفتح ومتخارج.. بمعنى أن نترك الحرية عرضة للموجود، فننقل سلوكنا من المجال المغلق إلى المجال المنفتح، أن نترك الموجود يستعرض ذاته خارجيا أمام الموجود انكشافا ووجودا وتحررا. كما أن الحقيقة عند هايدجر كشف أو انكشاف وسلب للخفاء. وأن الإنسان ليس كائنا منغلقا منطويا على الكائن، فهو كائن منفتح ومتخارج منفتح على الكون . ومن ثم، فاللاحقيقة هي الماهية المضادة للماهية الاصلية للحقيقة.فاللاحقيقة لاتقوم خارج الحقيقة، بل تنتمي غليها، بحيث لايمكن تحديد الحقيقة تحديدا دقيقا إلا إذا قابلنها باللاحقيقة والتيه.

وللتبسيط أكثر، يذهب هيدجر إلى أن الحقيقة نوعا من التيه، وذلك بسبب عجز الإنسان عن التحكم في مقاييسها وضوابطها. والسبب في ذلك كونه يصر على الكائن المغلق، وينسى الكون المحيط به. وعلى الرغم من كونه يصر على الكائن (السر)ن إلا أنه ينفتح على الكون (الرائج). وبذلكن يبدأ التيه عند الإنسان بالانتقال من أمر رائج إلى آخر. ولا يعني التيه هنا هو ذلك الهدف الذي ينتهي إليه الإنسان المتخارج، بل هو في بداية تحوله من كائن مغلق إلى كائن منفتح متخارج.بمعنى أن التيه لايكون موازيا أو محاذيا للإنسان، بل إنه من صميم بنيته الداخلية لكينونته المبنية على نسيان الوجود المتخارج المنغلق على ذاته، وعدم القدرة على تقديرها تقديرا صحيحا. ومن هنا، ينشأ التيه الذي يعتبر ماهية مضادة للحقيقة، ومجالا مفتوحا للغلط .

ويرى إريك فايل (Eric Weil) (1904-1972م) في كتابه: (منطق الفلسفة) بأن مقابل الحقيقة ليس هو الخطإ، وإنما هو العنف الذي يغيب المعنى، ويفكك الاتساق المنطقي والحجاجي لكل خطاب، ويؤثر سلبا على النظام والانسجام. بمعنى أن الحقيقة قيمة وجودية، وهي ضد العنف والتطرف والجوع. وبالتالي، فالحقيقة ليست هي مطابقة الفكر للواقع، بل مطابقة الإنسان للفكر. أي: التطابق مع الخطاب العقلاني المتماسك الذي يلغي العنف لصالح المعنى والتعايش والتفاهم والتسامح. وفي هذا الصدد يقول إريك فايل في كتابه:" منطق الفلسفة":" ليست الحقيقة هي مشكلة الفلسفة، بل وليست حتى مشكلة أمام الفلسفة: فما سميناه بالوعي الصحيح إنما يعني بالضبط أن كل سؤال، يخص إمكانية الفلسفة، وأن كل تأمل منهجي، بخصوص الخطاب في شموليته، هما، في آن معا، سطحيان ولا معنى لهما على وجه الدقة. إن آخر الحقيقة ليس هو الخطأ، وإنما هو العنف، ورفض الحقيقة والمعنى والتماسك، ومن ثم اختيار الفعل السالب أو اللغة المفككة والخطاب التقني الذي يقدم الخدمة دون طرح السؤال لخدمة ماذا، ولزوم الصمت، وهو تعبير عن الشعور الشخصي الذي يريد أن يكون شخصيا...

إن الذات التي يصدر عنها الخطاب أو فاعل الخطاب هو الخطاب نفسه، وليس موضوعه شيئا آخر سوى ذاته كذلك، أما مشكل الحقيقة ، إذا لم يفهم بالمعنى العلمي ولكن بالمعنى الفلسفي، فهو ليس تطابق الفكر مع الواقع، وإنما تطابق الإنسان مع الفكر، أي مع الخطاب المتماسك. سيبدو هذا التعبير فارغا ومتناقضا- فقط- طالما بقينا ضمن الخطاب التقليدي، الخطاب الذي يزعم التفوق على الآخر في الخطاب، أي على الوجود، وينسى أن هذا الوجود لاينكشف إلا في الخطاب، وأن الخطاب لايخرج أبدا عن ذاته...

صحيح أن الفلسفة كلام صادر عن فرد مشخص، لكنه فرد مشخص قرر ـأن يفهم، في وضعية ملموسة، لافقط وضعيته الخاصة ولكن أن يفهم كذلك فهمه لتلك الوضعية.فأنا الذي أعرف أني لست حرا في هذا العلم، وأنه عالم العنف والشقاء والجوع والتنكيل والموت العنيف، لكني أنا كذلك من يريد أن يفكر في هذا العالم تبعا للمعنى الذي يمتلكه، ومن ثم أريد تحقيق معنى العالم بواسطة الخطاب والعقل والعمل المعقول."#

ويعني هذا أن الحقيقة عند إريك فايل تتقابل مع العنف، والتفكك، وغياب المعنى، وتشغيل لغة مفككة ، واستخدام خطاب تقني بعيدا عن أي شعور إنساني وشخصي. ومن ثم، فالحقيقة هي التي تنبني على المعنى ، وتماسك الخطاب، ومقاومة العنف والشقاء والجهل والتنكيل والموت. وبالتالي، لايتحقق معنى العالم إلا بوجود الحرية، والتسامح ، ووجود خطاب منسجم عقلا وعملا.

وعليه، فالحقيقة في منظورنا الشخصي متعددة القيم، فلها قيمة معرفية حينما نستعمل النص والعقل لكشف الحقيقة الصادقة واليقينية، ولها قيمة أخلاقية حينما ترتبط بالنزاهة والمصداقية والحق والعدالة والضمير الداخلي والفضيلة ، ولها قيمة وجودية حينما تكون في خدمة الإنسان وإسعاده ذهنيا ووجدانيا وحركيا، ولها قيمة ذرائعية حينما ترتبط بالعمل والمنفعة والإنتاج والابتكار وتنمية المجتمع ماديا ومعنويا.

خلاصات واستنتاج:

ونستنتج ، بناء على ما سبق ذكره، أن الحقيقة هي الثابت واليقين والصادق والواقعي، كما أنها مطابقة الفكر لذاته أو للواقع أو لهما معا. وإذا كان هناك من يعتبر أن الحقائق يقينية مطلقة مع العقلانيين والتجريبيين، فإنها نسبية واحتمالية مع إنشتاين. وإذا كان هناك من الفلاسفة من استبعد الرأي الشخصي في بناء المعرفة العلمية، وتشييد صرح الحقيقة، فإن هناك من الفلاسفة من دافع عن هذا الرأي، وذلك ليكون بدوره سندا للعقل في الحصول على اليقين والحقيقة الصادقة.

ورأينا أيضا أن العقلانيين يعتبرون أن الحقيقة لها قيمة معرفية حوارية وبرهانية، بينما كانط يرى أن للحقيقة قيمة أخلاقية، في حين نجد البراجماتيين يقرنونها بالمنفعة والمصلحة.
وفي رأينا أن الحقيقة ليست حقيقة واحدة، بل هي حقائق متنوعة، بيد أن هذه الحقائق ليست يقينية مطلقة، بل هي حقائق نسبية واحتمالية تتغير مع تغير العلم، وتطور التكنولوجيا. كما أن الرأي الشخصي يمكن الاعتماد عليه كثيرا في العلوم الإنسانية النظرية مثلا، بيد أن العلوم التطبيقية والحقة تستلزم الحقائق الرياضية والمنطقية والبرهانية. أما عن قيمة الحقيقة فهي قيمة معرفية وأخلاقية وعملية على حد سواء، ولكن بشرط أن تنفع هذه الحقيقة ، وذلك في مختلف تجلياتها وتمظهراتها النوعية، الكائن البشري، فتحقق له الفضيلة والسعادة الكبرى دنيويا وأخرويا.

1- المصادر والمراجع العربية:

1- ابن منظور: لسان العرب، الجزء الثالث، دار صبح بيروت، لبنان، وأديسوفت، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2006م.

2- أبو الحسن الجرجاني: التعريفات، الدار التونسية للنشر، تونس، طبعة 1971م.

3- أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ترجمة: حنا خباز، دار القلم، بيروت، لبنان، بدون توثيق للطبعة وبدون تحديد لتاريخها.

4- أفلاطون: الجمهورية، ترجمة: فؤاد زكريا، دار الكتاب العربي، مصر، طبعة 1968م.

5- باسكال: خواطر، تقديم: مارسيل غرسان، النادي الفرنسي للكتاب، طبعة 1963م.

6- ديكارت: مبادئ الفلسفة، ترجمة: عثمان أمين، مكتبة النهضة المصرية، طبعة 1960م.

7- د.عبد المنعم الحفني: الموسوعة الفلسفية، دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة، تونس، الطبعة الأولى سنة 1992م.

8 - د.عابد الجابري: بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1986م.

9- الفارابي: كتاب الحروف، تحقيق: محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، لبنان، طبعة 1970م.

10- محمد بديع الكسم: البرهان في الفلسفة، ترجمة جورج صدقني، منشورات وزارة الثقافة، سوريا، دمشق، طبعة 1991م.

11- د.يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية،مطابع الدجوي، القاهرة، مصر، الطبعة السادسة، 1976م.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى