الخميس ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم ميمون حرش

رسالة لمسؤول كبير في مدينتي المنسية..

بعض القائمين على أمورنا في مدننا لا يفكون الحرف، (أنت منهم يا سيدي، عفوا على هذه الصراحة الوقحة) أنت منهم، ومع ذلك أفلحوا في أن يجلسوا على كراسٍ وثيرة بطرق ملتوية، وهذا ذكاء نسجله لهم، وهو بالمقابل غباء من حملهم على الأكتاف بعد أن صوتوا عليهم، لا لشيء سوى أنهم نفحوهم ببعض القروش، كانوا في حاجة إليها، فوقها ولائم عشاء أغلبها هاضت الآكل في الغد.

ومنهم من يفك الحرف، ولكنه يعادي الفرح (أنت منهم كذلك) لا لشيء سوى أن فيروسا داخليا اسمه «تضخم الأنا» يُنفخ كبالون داخلهم، حتى إذا وصل السقف انفجر لا عليهم إنما على مواطنين لا حول لهم ولا قوة، لا يبغون سوى قضاء حوائجهم.

أهل مدينتي أجوادٌ يا من لا يفهم الجود إلا مع صناديق الإقتراع، يقرون الضيف ويكرمونه، إنهم كرماء بالفطرة أبا عن جد.. (في تمسمان مثلا تُمنح الخبز ومعه الأمان، وأنت لست غريبا طبعا..) اليوم تغيرت بعض الذهنيات والسلوكيات، هذا صحيح ومفهوم أيضا بالنظر إلى صعوبة الحياة، وتعقد مناحيها، ولهذا صلة ربما بالتطور التكنولوجي الذي بات يشكل ذهنيات إنسان اليوم ،لقد تحول معها إلى ما يشبه الآلة، صار أجوف من الداخل، ومجردا من العاطفة والإحساس..ومع ذلك لا زالت بعض الأسر في الناظور تعتبر إكرام الضيف من المقدسات ، وهي ليست مستعدة لتحيد عن هذا الطبع قيد أنملة..

ورغم أني من قوم أجواد أبا عن جد لك أن تعذرني، أيها الرئيس، لأني لن أستضيفك في بيتي لا اليوم لا غدا، ليس بخلا مني وشرفك، إنما خوفا عليك من أن تُــــصدم حين تكتشف بأني أسكن في «باصو» أحد الأحياء المعروفة في المدينة.. بيتي هناك، عرشه فوق أرضية مزبلة، وسقفه ليس حديدا، بل خضرا وسمكا، أما جوانبه فشرعة لكل السكارى ليلا.. بيتي محاط بسوق للخضر والسمك ، ونحن-ساكني حي باصو- غارقون في وحل من القاذورات، فلم نعد نعرف هل نحن بشر أم بقايا بشر، أم مجرد ذباب، وما يمضنا أكثر، ويحول رؤوسنا إلى قباب حارقة هم أطفالنا الصغار،فأية تربة هذه التي يترعرعون فيها..(أطفالك أنت وأطفال أزلامك غير أطفالنا، الدماء التي تسري في العروق ليس واحدة)..

والطامة الكبرى أن هذه السوق مركونة وسط طريق رئيسية، ومزهوة بما تلفظه من نفايات وأزبال..حياتنا بسبب هذه السوق، وبسبب المسؤولين الذين تشرف عليهم في مدينتي غدت قطعة من العذاب.. والله،نتحمل الضجيج والعجيج ليل نهار، ونساكن ذبابا أزرق منذ ما يقرب عشرين سنة..(لك أن تتخيل هذه المدة.. تخيل فقط، ونحن لا نطلب المستحيل يا من ينام شبعان ريان وغيره ليس جائعا فقط إنما غارق في أزبالك)، نتعايش مع روائح كريهة تنخرنا من الداخل كما الأرضة مع الخشب.. ما أكثر المرات التي احتج فيها الأهالي والجيران، اتصلوا بك مرارا، لكن لا حياة لمن تنادي..

جيراني المهاجرون أضربوا عن العودة لوطنهم الصغير منذ زمان، بيتهم الجميل صار مرتعا لبيع السمك.. رب البيت تأبط أكثر من مرة ملفا ملأه بصور فيلمية حية بواسطة كاميرا رقمية عن فظائع هذه السوق، ثم أخذ يجوب به المقرات بدء من زيارة السيد العامل لصاحب الجلالة على الإقليم، انتهاء بديوان المظالم.. لكن دون جدوى، وحين تعب المسكين تأبط ملفه وعاد إلى فرنسا مخذولا، ومكسورا.. هو يعود أحيانا، لكن دون أولاده..

هذه السوق وصمة عار في جبين المجلس البلدي، وفي جبين كل المجالس التي تعاقبت على مدينتي..أنتم تقولون إنها سوق مؤقتة، ومثلها كثير في الناظور، لكن صدقني ،ياخائن الأمانة، أن سوق باصو قائمة وثابتة، وستطفئ شمعتها العشرين قريبا، وهي مزودة بالكهرباء ليلا، أما من أين لها بالكهرباء فتلك حكاية أخرى.. قل لي يا من ينظر إلينا من فوق : أي مدينة يقبع فيها سوق وسط طريق رئيسية ( والله رئيسية) كوحش طيـــبــة الذي كان يقطع الطريق على المارة كما في الأسطورة..؟..

تعرف ؟.. حبذا لو تُسجل هذه السوق في كتاب «غنيس» للأرقام القاسية، على الأقل نعوض«باصو» السنوات العجاف التي عانى منها أهله من جفاف قصور الرؤية لديكم و لدى كل المسؤولين في مدينتي.

في أوقات الذروة يصبح «باصو» يعوي ويعوي ككلب مسعور،عربات الخضر بحميرها تصد الطريق عن السيارات، والسائقون يطلقون العنان لصوت المنبه دون جدوى،أما صناديق السمك فتتموقع قبالة الطريق، يدير باعتها ظهورهم لما يقع كأن الأمر لا يعنيهم..وفلذات أكبادنا ، صحبة مرافقاتهم من مدارس الروض ،يتحسسون طريقهم وسط زحمة لا يقوون على تحملها، هم يقطعون مسافة مشيا على الأقدام من أجل الوصول للسيارة التي تركن هناك بعيدا عن منازلهم ،هناك تنتظرهم لتعذر مرورها في مجال تحركها.. الطريق اغتصبها الباعة، والمسئولون من أزلامكم إذا قيل لهم:" اُنظروا.. غيروا هذا المنكر" لووا رؤوسهم، ورأيناهم يربتون على أكتاف الباعة،وينظرون إلينا نحن ـ أصحاب الحق- شزرا وهم مستكبرون.

ابنتي أيها الرئيس،( بالمناسبة هل أنت أب ؟) بِت أخشى على مستقبلها بسبب هذه السوق الكارثة، تبدأ صباحات أيام الآحاد بتقليد أصوات الباعة في السوق، وهي بدلا من أن تسمعنا في البيت ما تعلمته في الروض من سور القرآن الكريم، أو من أناشيد، أو من جدول الضرب بدلا من ذلك نسمعها تردد : " ها باطاطا،.. ها الحوت جْديد.."، وا بوقر ونيس.."

سوق باصو نموذج واحد من نماذج الكوارث التي تعاني منها مدينة الناظور، وغيرها كثير كثير.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

"مدينتي!

أنت في عيوننا، فلا دَرَّ دَرُّ من يخذلك.

جراحك حتما ستندمل غدا،هي مثل "عود لقماري" لا يزيده الاحتراق إلا طيبا وعرفا،كذلك جراحك، ستتعرش في قلوب الأمناء ورودا ورياحين، وفي صدور الخونة سرطانات خبيثة حتى لا ينعموا بما نهبوا طويلا.

ستأتي أيام ، ويصبح أهلك رحماء بك، عشاقك كثر والله، أنت في عيونهم مشاعل، وفي صدورهم ضفاف جداول، وفي أيديهم قرنفلات ومعاول، القرنفل لكل من يهبك كنز الربيع ، والمعول لكل الرعاع من خفافيش الظلام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى