الألم في شعر دياب ربيع
لم يستطع الشاعر منذ نشأته حتى الآن، أن ينفصل عن ذاته ويعيش في أبراج عاجية، ينظم من خلالها كلمات تتناسب وحقيقة الفن الشعري،الذي يذهب بمدلولاته الأولى، إلى أحاسيس مرهفة ومعان حساسة، تعكس حقيقة الشخصية الشاعرة، تلك الشخصية التي يشكلها الشعور المفعم بالحس، والمتناغم مع الطبيعة الشاعرية وحساسيتها.
وهكذا فإن الشعر على امتداد زمانه، لم يخل من لواعج الألم والحسرة، التي تعتصر ذات الشاعر، وتولد فيه أحاسيس تقودنا إلى عالمه الداخلي، ليجلو لنا ما فيه من صراعات وعذابات، قولبها بقالب أضفى عليها من الجمال والروعة،ما عمق معناها وضخم وقعها على الآذان.
وهذا هو الحال بالنسبة لشاعرنا دياب، الذي كان من الشعراء الذين تشكلت حياتهم، نتيجة لواقع فرضته عليهم الحياة السياسية، فلم يستطيعوا الانفصال عن هذا الواقع، ولا التجرد من آلامه وأحزانه. فعلى الرغم من الهالة العاجية التي أحاطت بحياته الاجتماعية والاقتصادية، إلا أنه لم يستطع الانشطار عن ذاته الحقيقة، الممتزجة بآلام القضية، والمفعمة بحس النقمة والأسى لما آلت إليه . وهذا ليس بغريب على شاعر عايش القضية منذ نعومة أظفاره، بسبب الحياة الاجتماعية التي فرضت عليه، وجعلت من علية والده مقرا للثوار والمجاهدين، ولعل هذا هو العامل الأهم الذي تشكل من خلاله الحس الشعري الخاص عند هذا الشاعر، الذي طبع بالأساس بطابع الأحداث التي مرت بها هذه القضية، فأصبحت هي الملهم الأول له، والباعث الأقوى لنبرة الحزن والألم التي تسيطر على قصائده على امتداد ديوانه،وفيما يلي قراءة ذاتية لثنايا هذا الديوان، سنتأمل من خلالها عصرات الألم التي وشح بها الشاعر أبيات قصائده وحروف كلماته. التي كان مصدرها تاريخ قضية مفعم بالتخاذل والهوان، مما أثر في نفس هذا الشاعر الملهم، فلم يترك لنا شاردة ولا واردة تتعلق بهذا التاريخ إلا وعبر عنها بحسه المرهف المليء بمشاعر الحسرة والألم، وفيما يلي توضيح لذلك.
لعلنا نستطيع القول، بأن هذا الديوان وإن قسم إلى عناوين وموضوعات عدة،إلا أن همها الأول والأوحد هو التعبير عن هذه القضية ومسؤولية الأمة العربية التي آلت بها إلى هذا المآل، وأن موضوعاته تندرج تحت موضوع واحد تقولب في قوالب لغوية وبلاغية متنوعة بتنوع حدة الألم في جسده، حتى أننا لو دققنا النظر أيضا في غزلياته، التي من المفترض أن تعكس ولو القليل من الصفاء والرخاء الذهني والعاطفي، لرأينا أنه لم يستطع التجرد من أحزانه والانفراد بذاته المحبة العاطفية ، فقد فرضت صبغة الألم نفسها بطريقة لاشعورية،استمدت موضوعاتها وكلماتها وخيالاتها من الواقع الذي عاشته هذه القضية،فمن ناحية هي قصائد قليلة من حيث العدد، إذ لم يستطع الشاعر أن يشدو بانثيال، ولم يتمكن الحب من امتلاك نفس الشاعر، فالهم الوطني لا يغيب عن باله، وفشله في امتلاك المكان سبب في فشله في امتلاك الإنسان الحبيب إذ يقول:
بذور الحب كم شمخت وطالتوقصفها عن الوطن ارتحاليوكم ذبلت رياحيني وجفتبساتيني وذرتني اللياليرجعت إلى الديار ديار أهليفمل الشوق عن أهلي اعتزالي
ومن ناحية أخرى فهي قصيرة من حيث المضمون، الذي سيطرت عليه الذكريات الملآى بالخوف والألم والفراق والشوق والحنين وانعدام الوصال، وإن كان هناك وصل فيرافقه خوف من الغياب. ولو دققنا النظر ثانية في هذه الموضوعات لرأينا أنها نفس الموضوعات التي تحدث بها عن ضياع الوطن، وهذا ما يشجعنا للالتفاف على هذه القصائد ودمجها للقصائد الوطنية والوجدانية والتأملية، لنصل في النهاية إلى نتيجة مؤداها إلى أن هذا الديوان لا يحوي إلا موضوعا واحدا، فمهما تعددت موضوعاته وتنوعت، إلا أنها تصب في نهرها الممتزج بالآلام،والمغلف بالأحزان التي صنعها الاحتلال ومن اءتمر بأمرهم من أهل هذه القضية، وما يشجعنا على هذا الرأي قوله في فقدانه لمحبوبته:
هل أتى الروضة بعدي سارقوجنى كل زهوري واستطاعا
وبناء على ما تقدم فإن بواعث الألم واضحة عنده تتمثل في الآتي:
أولا: ضياع الوطن وما لحقه من فساد وتمزق عربي وتهاون في الدفاع عن البلاد:
ولعل هذا الموضوع كما أسلفنا هو المتربع على قصائد هذا الديوان التي انبثقت منه جميع هموم وآلام الشاعر، إذ حددت من خلاله ملامح حياته، ومن خلاله أيضا عمق معرفته للإنسان والمكان، إذ لا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من الحديث عن جرائم الاحتلال وما قابلها من مواقف الخيانة والتمزق والتوارث في الحكم والفساد والتحكم بأبناء البلد، إضافة إلى قضايا السلام والاستسلام، وقد تعد قصيدة لا تسألوني التي وردت في الديوان من أكثر القصائد التي لخصت موقفه من القضية الفلسطينية وهموم الأمة العربية وواقعها المتردي إذ يقول:
لا تسألوني عن رجوعي بعدماأقسمت: لن آتي الديار مسلماوعلى ثراها غاصب مستعمرلم يعرف التاريخ قبلا مجرماأو يعرف التاريخ شعبا راكعايعطي المواطن للعدى مستسلماأو يعرف التاريخ قبلا أمةترضى بمن غدروا بها أن تحكما
وفي معرض آخر يقول:
فأين جيوشكم يا أهل أهليلتثأر للصلاح من الفسادوكيف يخافكم مسخ وأنتمدويلات تظل بلا اتحاد
والديوان مليء بهذه القضايا التي لا مجال لعرضها هنا.
ثانيا: زعماء الأمة العربية:
إن الإصرار على الخيانة العربية والتبعية الغربية كان قد خيم بشكل كبير على ديوان الشاعر، فلا تكاد تخلو قصيدة إلا وتحدث بها عن ضياع فلسطين وتفككك الأمة العربية التي سببه في الأساس خيانة الحكام وخوفهم على مناصبهم التي سيفقدونها إذا لم ينصاعوا للشروط الأجنبية فيقول:
يتآمرون على مبادئهابمكيدة ما مثلها كيدأثناهما في غدرهم أسدوكلاهما في شكلهم قردوهم الأفاعي في تزهدهموالذئب يفضح خبثه الزهد
فهو لم يثق بهم ومنبع خيانتهم هي التبعية إذ يقول:
إن الذين ترأسوافيها رعاة كالغنملم يحفظوا عهدا لهاأبدا ولم يرعوا الذممفملوكها وشيوخهاقزم... لأمريكا خدم
ثالثا: الاغتراب المكاني والروحي
يعد هذا الاغتراب من أهم دوافع ألمه وحزنه، وهو العامل المترتب على ضياع وطنه وبالتالي تشرده، فقد عمق الشاعر موقفه الوطني في رفضه للاحتلال، ووصل هذا الرفض ذروته حين قرر المكوث في الولايات المتحدة على الرضوخ لقوانين الاحتلال التي ستسري عليه عند عودته عبر ممر العبور إلى الوطن فيقول في ذلك:
وداعا أيها الوطن الحبيبفمالي فيك من عيش نصيبويبكيني ويحزنني لأننيبعيد عنك في الدنيا غريب
ومن الطبيعي أن يؤدي الاغتراب المكاني إلى اغتراب روحي، يزيل البسمة عن وجه الشاعر ويظلل حياته بظلال السواد، فهو غريب في مكانه القصري، وحيد لا أنيس له، فلا المكان مكان ولا الإنسان إنسان، ولا يستطيع الشاعر أن يعيش في أرض الغربة ولا يتعايش مع سكانها فالألم عنده ألم وجودي يقرر حقيقة اندماجه في هذه الدنيا إذ يقول:
واليوم ألقاني غريبا بينكموتلوح لي الأشياء كالعمىلا الأرض تعرفني ولا سكانهامني ولا منهم إليها المنتمى
ولكن على الرغم من حقد الشاعر على أمته التي باعت البلاد وأضاعتها،إلا أنه لا يستطيع إلا الانتماء إليها وإن عاش في بلاد الغرباء إلا أن روحه ملتصقة بهذه الأمة ومكانها. وقد نستطيع تلمس الحالة النفسية التي وصل إليها الشاعر في دنيا غربته من خلال كلماته وصوره التي تشكلت منها قصائد هذا الموضوع، ومن الملاحظ أن كلمتي " إيه " و " والهف" بما تحملانه من دلالات الحزن والحسرة قد ارتبطتا في معظم الأحيان في حديثه عن الأمة العربية وضياعها فنراه يقول:
إيه يا أمتي حملتك في قلبيسنينا ولم أزل بك مغرم
ويقول في معرض آخر:
سأظل في دنيا اغترابي حاملاأعباءكم وبكم أظل متيما
فأعباء الأمة ثقيلة وغربته أثقل وأثقل، إلا أنه لا يستطيع الانتماء لغيرهم وإن عاش في بلاد الغرباء تبقى روحه ملتصقة بهم وبمكانهم لأنه لا يستطيع الانفصال عن هذه الأمة التي شكلت أصله وروحه وحياته، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضياع هذه الذات وانشطارها بين الضائع من المكان واللامكان.
ثالثا: الحنين إلى الوطن:
من الطبيعي وكعادة شعراء المهجر أن يذرفوا الدموع على أوطانهم التي غابت ويعبروا عن أشواقهم وحنينهم إليها بكلمات تستمد عذوبتها وروعتها من ألم الفراق،هذا الفراق الذي عمق صورة الوطن بتضاريسه وذكرياته التي خيمت في ذهن الشاعر، وضاعت في روابيها سنونه وأيامه إذ يقول:
فانثر شبابك في الروابي أدمعاوأشرب هواك وذكرياتك علقمالا تسألوني عائدا من غربةمشدوهة طوت السنين على ظمى
كما يقول:
من حر أشواقي وطول مسيرتيأدركت لا وعدا قطعت متممالكنني بعد طول الهجر ما ملكتروحي إليك سوى شعري وأنفاسي
وهكذا فإن الشاعر في ديوانه هذا لم يترك للقارئ متنفسا يشتم عبره راحة الضمير وهدوء البال، فنفسه مغلفة بالهموم، وقصائده ملآى بكلمات لها باع طويل في ترسيخ هذا الهم والألم، وقد تربع البكاء بلفظته اللغوية ودلالته المعنوية على امتداد ديوانه، فبلل الدمع كلمات قصائده، وعلى الرغم من التكرار الملاحظ لكلمات التأوه والأنين التي سيطرت على هذه القصائد إلا أنها ليست الفاعل الأوحد الذي ساهم في تشكيل هذا الهم، إذ ساعدت صور الليل القاتمة التي كساها الظلام في ترسيخ السواد الذي غلف حياته، وغيب أحلامه. وقد نختم هذا الحديث بإيراد البيتين التاليين اللذين يمكن من خلالهما استيضاح الألم المكرس في هذا الديوان والذي في الأساس هو تكريس للألم في ذات الشاعر إذ يقول:
يا ذراع الليل كم وسدتنيوعلى كفيك أيقظت الكرىأين أحلامي وقد غيبتهاوطواها العمر في بطن الثرى
المصادر
دياب ربيع، ديوان شذرات الربيع، منشورات جمعية بيرزيت في الولايات المتحدة، ط1، 2010