الاثنين ٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم حميد طولست

فتاوى الفتنة لا تخلق رأياً عاماً في المجتمعات

في مثل هذا الشهر من كل عام، ترتفع قابلية الاستفتاء لدى المغاربة مثلهم في ذلك مثل باقي الشعوب الإسلامية والعربية الأخرى، وكأنها على موعد مميز مع جميع أشكال الفتاوى الدينية الغريبة المثيرة، والصاخبة المضحكة، التي يرغوي ويزبد بخرافاتها- في مثل هذه اللحظات الروحية الذهبية- مدمنوا الفتوى، ممن حفظوا ببغاويا، بعضا أو كثيرا من القرآن، وأطلقوا لحاهم لتغطية وجوههم البائسة، مستغلين كل مخترعات الغرب الكافر، وتقنياته في الاتصال والتواصل المتطورة، ليفتوا عبر الهواتف والفضائيات والنت، بما يجوز للعالم العربي والإسلامي وما لا يجوز له، وينشروا التخلف والاستحمار بين العوام المستضعفين البلهاء المستسلمين، ما نتج عنه، وفي جل المجتمعات المتخلفة، طبقة من المتعلمين تضاهي الجهلة والأغبياء في البلاهة والتخلف والجبن، والإسفاف والسطحية, ولا يملكون إلا بعض المؤهلات والمصطلحات الفقهية التي يوظفونها بأفق ضيق، وفكر محدود، وبلا فكر ولا نقاش، للتأسيس هوية جديدة للقمع والتخلف والتراجع، لتكبيل كل الأعمال الفنية وما يتصل بأساسات الرسم والنحت والتصوير والموسيقى والغناء، وفرض على كل أنواع الإبداع الفني عقوبات أخروية تتوعد الفنانين بأصناف من العذاب الجهنمي.

مناسبة هذه المقدمة، هو أني كنت قبل أسبوعين أتصفح الموقع الحديث "أون مغاربية" الذي أتمنى له ولكافة القائمين عليه وثبات وقفزات جبارة على طريق التحديث والتطوير، فوقعت عيناي على مقالة غريبة تحت عنوان "الكاميرا الخفية وحكمها في شريعة الإسلام" لصاحبها الأستاذ المحترم عدنان زهار، والتي يحرم فيها الكاميرا الخفية، ما دفع بي للرد والاعتراض- بلا أي غرض، أو خلفيات -على الفتوى "التراكوميدية" موضوع المقالة التي توصل فيها صاحبها الجليل -ومع كل احترامي وتقديري لرأيه الذي لا أدعو لمصادرته أبدا- إلى الخلاصة العظيمة والتي أجملها في قوله: "وأنا أرى أن هذا النوع من الأعمال التلفزية من أكبر المُحرمات وأقبح المنهيات، لما تتضمنه من مفاسد عظيمة في الدين والدنيا".

طبعاً ليست المُشكلَة في فتوَى الأستاذ الجليل أو في تحريم الكامرا الخفية، نفسها، لأنها فتوى من بين الملايين الفتاوى التي تطلع علينا مع شروق كل يوم وغروبه، والتي لا تخرج جلها عن نطاق باقي الفتاوى التي لا يمكن فلسفتها أو شرعنتها أبداً، لبعدها عن معالي الأمور وأشرافها واهتمامها بسفاسف الأمور، التي نهى عنها نبينا عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وصححه الألباني والذي قال فيه: "إن الله يُحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها "، أمثال فتوى محمّد الزغبي في جواز أكل لَحْم العفاريت، وفتوى للدكتور عزت عطية أستاذ بالزهر في رضاعة الكبير، وفتوى الأستاذ الزمزمي في ممارسة الجنس على الزوجة الميت، وفتوى جواز زواج القاصرات، وفتوى تفخيد الرضيعة، وفتوى مضاجعة الميتة، وفتوى تحريم الجلوس على الكراسي، وفتوى تحريم قيادة السيارات على المرأة، وفتوى تحريم مشاهدة التلفاز، والفتوى التي أصدرتها لجنة كبار علماء السعودية التي تحرم التظاهر والاحتجاج والخروج على الحاكم بأي صورة من الصور، وغيرها كثير جدا.
لكن المشكل اليوم في كون هذه الفتاوى المأزومة والمتقرحة التي اكتسحت الأمة وتوسعت فيها توسع النار في التبن، هي ضد كل معاني الحياة المدنية والدينية والأخلاقية، حيث أنها لا تساير في مجملها مع عصر كل شيء فيه منفتحا على كلياته وجزئياته، بإيجابياته وسلبياته وبصحائفه وسطوره، ولا تتفق مع مقاصد الذين الإسلامي وبحثه عن مصلحة الإنسان المسلم واحترام آدميته، وكونها صيغت لاستغلال المستضعفين الجهلة المغلوب على أمرهم، والواقعين تحت حكم تسلط المتطفلين على الحقل الديني، الذين يلغون العقل ويحتكرون التفاسير ليستمر الظلام ويتثقف الشارع المغربي والعربي والإسلامي، بثقافة القطيع ومزاجية الفتوى من كل التيارات الإسلامية بشقيها (السني والشيعي) إلى درجة أصبح معها الشارع العربي والإسلامي لا تحركه معاناة وعذابات الناس مع الغلاء الفاحش، والفقر المدقع، والجهل المقيث، والتهميش والإقصاء، ولا تؤرقه حماية الإنسان وتحسين أوضاعه، بقدر ما تحركه أوامر ومزاجيات شيوخ الفتوى الذين نصبوا أنفسهم قضاة شرعيين على الثقافة باسم الغلو والتطرف في الأخلاقيات المزيفة، وركبوا الموجة الغبية كأوصياء على الأدب والفن وكل موروثاتنا التاريخية، الذين يعتقد كل منهم أنه الوحيد المؤهل (شرعاً) لإدارة حياة المسلمين باسم الدين وذريعة الحفاظ عليه وعلى المذهب، وما عداه على ضلال.

إلى جانب أنها فتاوى تفتح علينا باب التندّر والضحك من قِبَل أعداء الإسلام، وتثير في الأسوياء الاشمئزاز، وتبعث في العقلاء الرغبة في القيء، لما تتضمنه من دجل وهراء يقطر جهلا وتخلفا بأسماء ويافطات مقدسة تذهب أحيانا كثيرة إلى تحقير الإنسان واتهامه بالغباء وتجريمه وتعليق مآسيه على مشجب الوهم، لغرض تمويه وتبرير أشكال السلطة المتوحشة وغسل قذارتها.

ولأنها هذه المرة فتوى -أكثر خطورة على المستوى القيمي والأخلاقي، وأكثر أثرا مما تحكم به "شريعة طالبان"-

لأنها –ومع كل أسف الدنيا- فتوى صادرة عن شخصية شابة ومتنورة– كما يبدو ذلك على ملامح صورته المنشورة مع المقالة ومنصبه المرموق، "رئاسة فرع الدار البيضاء لمؤسسة مولاي عبد الله الشريف للدراسات والأبحاث"، والذي كان من المفروض فيه، بل من أوجب واجباته الدينية والإنسانية والوطنية، أن ينشر العلم والمعرفة وينور ويرقي أذواق الناس ويهذبها بما حباه الله من علم ومعرفة، بدل إغراقهم في متاهات الفتاوى الوعظية التسويغية التخويفية والتحريضية التي تأثر في الجيل الجديد، وترهن مصائره.

صحيح أنه من الطبيعي أن يختلف الأشخاص في مقاربة بعض الأمور والأحداث، ومن الطبيعي أيضاً أن يتفق الأشخاص في مقاربة بعضها الآخر، وصحيح أيضا أن الاختلاف المطلق بين الناس مستحيل، كما أن الاتفاق المطلق هو الآخر مستحيل، لكن المنطق والعقل والحكمة، تحتم أن تكون هناك مساحة ونفوذا لبعض القواسم والضوابط المشتركة على الذوق والتفكير والسلوك البشري السليم، تجعلهم يتفقون على الحد الأدنى الذي لا يكفر به إلا الجهلة والأغبياء ومحدودي القدرات ومغيبي الأهداف والطموحات، أو لا يقبل به إلا المرتزقة والمتنطعين الطامعين في المغانم ومكاسب الريع، الذين يتعاطون للفتوى بهذه الطريقة غير العادية، بل والخطيرة جدا، لما لها من تأثير كبير على الناس، يأتي بنتائج وخيمة ربما كاسحة وعميقة على مختلف المستويات ولآماد غير منظورة. كالتأثير الخطير الذي كان لفتاوى وآراء فقهاء القرون السابقة على الناس في مختلف الأزمان، والتي ذكر بعضها المؤرخ المصري المقريزي في ( المواعظ والاعتبار) حين أورد قصة تأثر الشخص المعروف بالشيخ ((محمد صائم الدهر)) بفتوى أبو حامد الغزالي من أهل القرن الخامس، والتي حذر فيها من منكرات الحمامات( كتاب الأحياء) ودعا تلاميذه إلى تشويه كل ما تصل إليه أيديهم من وجوه التماثيل التي يكثر تزيين الحمامات بها، لأن (مشاهدتها منكرة، وغير جائزة). التأثير الذي جعل الشيخ محمد صائم الدهر، يعتبر تشويه وجوه التماثيل في مصر، شغله الشاغل حيث قال المقريزي: ((قام في نحو من سنة ثمانين وسبعمائة 780- لتغيير أشياء من المنكرات، وسار إلى الأهرام وشوّه وجه أبي الهول وشعثه، فهو على ذلك إلى اليوم))، ويذكر المقريزي في موضع آخر أنه شوّه صورة وجوه سباع الحجر التي على قناطر السباع خارج القاهرة كما فعل بوجه أبي الهول.

ربما يقول قائل أنه من حق أي إنسان أن يكون له رأيه الخاص في الأمور الحياتية المحيطة به، وبإمكان أي كان أن ينتقد البرامج التلفزية التي أصبحت جزء من عاداتنا تقنيا وفنيا حوارا إخراجا وديكورا. لكن الذي ليس من حق أي كان أن يجز بالدين في كل القضايا، ويلوي أعناق الآيات القرآنية الكريمة، ويبتز الأحاديث النبوية الشريفة، لتتماشى مع رغبته في تحريم ما لم يحرم الله، لأن الحلال بين والحرام بين.

ربما يقول قائل آخر، لا يهمك، فالكثير من الفتاوى أصبحت بلا أثر يذكر على الأرض، ولا يمكن لها أن تخلق رأياً عاماً في المجتمع. لكن العقلاء يرون أن في السماح بمثل تلك الفتاوى التي تم تلبيسها غطاء الدين خطورة كبيرة على المجتمع الذي تنتشر فيه، فهي وإن لم تستطع تكوين رأي عام، فسرعان ما تصبح كيانا مقدسا داخل الدين لا يتجرأ احد على انتقاده أبدا، وتبقى، مع الأسف، أداة للتشويش على الأفكار، وغلق الوعي بالخرافات التي تدفع للتندر داخلياً وخارجياً على الأمة التي قال عنها الشاعر:

أغاية الدين إن تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكة من جهلها الأمم.

خاصة حينما يفرض حماة الدين المظلـِّل على الأمة العربية والإسلامية نبذ كل ما يمت للعلم والحضارة والثقافة والتفتح بصلة، والرجوع إلى ثقافة ما قبل التاريخ المؤسسة على الدجل والخرافة، التي تقود المجتمعات إلى مرحلة ما بعد التخلف بعد أن عاشت مرحلة التخلف كاملة، في الوقت الذي يبحث فيه الآخرون عن مرحلة ما بعد الحداثة، بعد أن عاشوا مرحلة الحداثة كاملة.

سؤال يلح علي مند أمد، أود أن أطرحه هنا على رجالات "التابو" الذين يدخلون أنوفهم في كل موضوع ويوزعون الأحكام والفتاوى في كل الموضوعات بما فيها الثقافية والفكرية والفنية المعاصرة والقديمة بحجة"هذا يجور وهذا لا يجوز": هل غابت كل مشكلات واقعنا المرير بهول تناقضاته الحادة، وعقم أوضاعه المزرية، وبلادة أوزاره المفجعة، وغرابة أطواره القاتمة، وسماجة صوره ومضامينه وأشكاله المتعددة -(كلشي كملناه ما بقى لينا غير الحمام نسيقوه) كما يقول المثل الشعبي المغربي. بمعنى هل ضاق أفق التفكير عندنا إلى هذا الحد أو ذاك بحيث لم تبقى إلا "الكامرا الخفية"؟ وهل وصل بفقهاء مجتمعنا إلى درجة لم يجدوا شيئا لقتلوه إلا الإبداع الفني السنمائي والتلفزي.؟

إتقوا الله فينا يا أيها الدعاة الجدد، وكفانا من "الاستحماري" الذي تتخذوه منهجا "لتكليخ" الناس وتضليلهم، تحت لواء الإسلام وحماية الخلاق، بحبكة قدسية إلهية سماوية مرتبة ومنظمة بذكاء خبيث تسلطي إجرامي كالذي كان يفعله قساوسة وباباوات العصور الوسطى في أوروبا.

يكفينا من فضلكم، من دين الطوائف والأحزاب والكتل المذهبية، التي اخترقها الشيطان وزبانيته، وألبسها الأقنعة المقدسة، لتخترق البشر كذبا وخداعا ونفاقا, لقد حان الوقت لتسقط الأقنعة، ليسطع من جديد نور الدين الإسلامي الصافي الحنيف، دين اليسر والمحبة والسلام، كما جاء به سيدنا محمد عليه أفضل السلام وأزكى الصلوات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى