الاثنين ٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
من الأدب المقاوم:
بقلم حسين سرمك حسن

قصيدة «يا صاحب الزمان» ليحيى السماوي

تصوّر لافتة هائلة الحجم تُعلّق في مدخل شارع المتنبي في بغداد تحمل العبارة التالية:
(الحزب الشيوعي العراقي يعزّي صاحب العصر والزمان الإمام المهدي الغائب عجّل الله فرجه باستشهاد الإمام الحسين "ع")

كم ألف علامة استفهام تثير الدهشة والمرارة ستضعها في نهاية هذه العبارة؟ لقد كان واحدا من أخطر الإفرازات السمّية للإحتلال الأميركي القذر لبلادنا يتمثل في إسقاط العقل العراقي في مستنقع مفاهيم وتسميات مقلوبة وممسوخة.. فالإحتلال صار تحريرا.. والخيانة موقفا وطنيا يكافأ عليه الخائن بأرفع المناصب بدلا من أن يُعدم حسب القانون.. والخونة يستعجلون ظهور صاحب الزمان المنتظر رغم أن "ظهورهم" بوقاحة هو من العلامات التي تؤذن بظهوره حسب الموروث.. والحزب الشيوعي يعزّيه باستشهاد جدّه هو – أي الحزب - حامل الأيديولوجية الماركسية اللينينية التي تقوم على أسس المادية التاريخية التي تفسر التاريخ داخل إطار المادية الفلسفية، والحتمية التي تعتبر التاريخ كالطبيعة يخضع لقواعد أطلق عليها ماركس اسم "قوانين الطبيعة" وتعتبر الاقتصاد القوى المحركة الأولى.. إلخ.. ومن عجائب الزمان أن يقوم ناقد أدبي بتذكير القيادة الشيوعية بمحتوى المادية التاريخية.. فلا منتظر ولا فرج أسطوري حسب ماركس، برغم أن تحوّل الماركسية إلى "دين" كما حصل في المعسكر الشيوعي السابق يجعل لها "منتظرها" الخاص.. وعالم الفردوس الذي سيأتي به. ولا تتصوروا أن السياسيين والمحللين النظريين والمؤرخين هم الذين سيعيدون لتلك المفاهيم والمصطلحات والتسميات المختلة المشوهة مضامينها الصحيحة ودلالاتها الدقيقة.. كل من هؤلاء لديه "مصالحه" الخاصة، النظرية والعملية.. ولديه ولاءاته التي تفرض عليه مواقف معينة.. المبدعون – الشعراء خصوصا الذين يتبعهم الغاوون – الأصلاء الجسورون المؤمنون بكرامة الإنسان والأوطان هم الذين يحافظون على المعاني الأصيلة والمقدسة للمفاهيم والمسميات والثوابت الوطنية. لقد اختلف السياسيون والمنظّرون في تقييم ما قام به المجرم جورج بوش الأب في حربه على العراق عام 1991، حتى وهم يرون مئات الأطفال العراقيين يشوون احياء في ملجأ العامرية.. لكن الجواهري العظيم حسم الأمر وقال كلمته واصفا هذا السفاح بـ "قاتل الأطفال" في قصيدته الشهيرة عن تلك الحرب. هذه القصيدة وهذا الوصف هو الذي سيبقى خالدا معلقا في عنق الزمان السرمدي.. في حين ستطوى كل تلك التحليلات وتذهب أدراج رياح التاريخ التي لا ترحم.

إن مفهوم وتسمية "صاحب الزمان" غائرة في الوجدان العراقي والعربي المسلم وغير المسلم، فهي ظاهرة إنسانية اجتماعية ونفسية وأسطورية من مكونات اللاشعور الجمعي. وحين أقول غير المسلم فلأن موضوعة المنتظر هي موضوعة بشرية كونية تعبّر عن حاجة متأصلة. يعبّر عن ذلك الباحث الأستاذ (فراس السوّاح) خير تعبير في كتابه (لغز عشتار) حيث يقول:

( إنّ السيّد المسيح هـو آخـر إلــه إبن في سلسلة الآلهة المتناسلة من الإبن ــ القمح يقـدّم في ميتـته أنبل مثـال عن الموت الإختياري مـن أجل خلاص البشـر. وبعـد المسيحيّـة تسللـت مراثي الألــه الميت الى الأسلام فــي طقـوس عاشوراء ذكرى مقتـل سيدنا الحسين بن علي (ع). وتبدو طقـوس كربلاء لناظرهــا اليوم مشهـداً لـم تغيـر منـه ألـوف السنين شيئاً. وبينما يقوم المحتــفلون بلطم خدودهم وشدّ شعورهم وضـرب أنفسهم بسلاســـل الحديـد حزنـاً على الحسـين الشهيد تـلتــقي صرخة التـفجع التي يطلقونهـا في عنـان السمـاء: (يا فتى يا حسين) بصرخـة عشتار النائحة المحفوظـة في طبقـات الأثيـر العليا، وصرخة العذراء الثـكلى . ونكاد نستمـع الى مرثاة واحدة تمثـل وحدة العاطفة الأنسانية عن تاريخ البشريّة:

آيلينوس.. مانيروس
ويلي عليك يابني.. ويلي عليك يا دامو
ويحي يا ولدي.. ويحي يا نور العالم.. كيف تراك مقلتي
معلّقاً على الصليب..
كل الأشياء تبكي معي.. يا فتى يا حسين.. )

لكن هذا المفهوم أشبع مسخا وتزييفا واستغلالا. وقد علق أحد الكتاب ذات مرة على ما ترفعه الحركات الدينية السياسية والمرجعيات الدينية من شعارات تدعو صاحب الزمان إلى الظهور بأنها تحمل مفارقة وتناقضا، لأن من علامات الظهور أن يكون المؤمنون الحقيقيون قلة مستضعفة ومقموعة، في حين أنهم يتسلمون السلطة الآن ويعضون عليها بالنواجذ والأنياب، ويرفضون التخلي عنها، تلحق بهم الجموع الهائجة الهادرة!!.

لكن المعادلة الصحيحة لاشتراطات عملية "الظهور" التاريخية المنتظرة هذه، يرسمها الشاعر المبدع "يحيى السماوي" في قصيدته الأخيرة "يا صاحب الزمان".. فقد عم الفساد أرض المقدسات.. واكتسحت المجاعة والهزال والجفاف بلاد الرافدين.. وخيمت عليها أشباح الرعب والخوف والموت.. وهذه علامات ساعة عراقية.. أن يصبح اليوم ليلا فقط وبلا نهار.. ظلمة متطاولة لا رجاء في انكشافها، وكأننا في حالة نهائية من غياب الشمس أو كسوفها وهي من علامات الظهور الحتمية.. وأن توكل حراسة الظباء بالذئاب:

الـصـبـحُ لـيـلٌ فـي الـفـراتـيـنِ
فـنـحـن يـومُـنـا لـيـلانْ !
الـجـوعُ فـي الـمـاعـون ِ..
والـصّـديـدُ فـي أنـهـارنـا..
والـرّعـبُ فـي الـقـلـوب ِ..
والـهُـزالُ فـي الأبـدانْ ..
إلآ الـطّـواويـسُ الـتـي تـكـرّشـت
فـي غـابـة ٍ
ظِـبـاؤهـا تـحـرسُـهـا الـذئـبـانْ!

هنا يعيد السماوي الإعتبار لمفهوم ودور صاحب الزمان حيث يكون ظهوره علامة خلاص وشارة فرج للناس المسحوقين المذلين المهانين وليس لذوي العمائم المزيفين المتمسكين بالسلطة... هناك ضرورات " عراقية " لظهور المخلّص يقدمها الشاعر وهو ينادي على منقذه بصيغة الجماعة.. فهؤلاء المتسيّدون باسم الدين الذين اعتصروا الحياة حدّ الموت فجعلوها شاحبة هزيلة واجفة.. والذين شوهوا الدين.. ومسخوا تعاليم القرآن والإنجيل.. وفوق ذلك.. وكعلامة من أخطر علامات الظهور هو أنهم سلّموا البلاد للتتر.. للمحتل. يقول علي بن الحسين: (إذا ملكت بغداد التتر، فتوقعوا ظهور القائم المنتظر):

يـا " صـاحِـبَ الـزّمـان ِ "
يـا مُـنـقـذنـا..
يـا " صـاحِـبَ الـزَّمـانْ ":
القادةُ الـزُّورُ..
اللصوصُ..
الغـربـاءُ..
الـسّـاسـةُ الـتـجّـارُ..
والـحـاشـيـةُ الـغـلـمـانْ
قـد أفـرغـوا:
الـحـقـلَ مـن الـبـيـدر ِ..
والـنـخـلَ مـن الأعـذاق ِ..
والـصّـحـنَ مـن الـرّغـيـف ِ..
والـدارَ مـن الأمـانْ
وشـوّهـوا الـمـحـرابَ..
والـمـئـذنـة َ..
الإنـجـيـلَ..
والـقـرآنْ.
وارتـهـنـوا غـدَ الـفـراتـيـن
لـدى الـمُـحـتـلِّ..
والـعـشـبَ لـدى الـنـيـرانْ !

وسنستخدم " لغة " خطاب هؤلاء الأدعياء الذين شوّهوا الدين القويم الداعي إلى التسامح ونبذ الفرقة والترفع عن ملذات الدنيا، فنقول إن الإمام الصادق " ع " يقول: (يزجر الناس قبل قيام القائم عليه السلام، عن معاصيهم بنار تظهر في السماء وحمرة تجلل السماء، وخسف ببغداد، وخسف ببلدة البصرة ودماء تسفك بها، وخراب دورها، وفناء يقع في اهلها، وشمول أهل العراق خوف لا يكون لهم معه قرار).

إن من يهددون بقرب ظهور صاحب الزمان لاجتثاث شأفة الظلم والقهر، صاروا هم سبب الظلم والقهر. لقد سبّبوا خسفا مهولا في بغداد، وخسفا آخر مرعبا في البصرة، وحل الفزع الأكبر في العراق حتى صار الأخ يفرّ من أخيه والرجل من صاحبته وبنيه.. وأذهلت كل مرضعة عن مرضعها.. وصار الولدان شيبا. إن السماوي يقلب العلامات بجسارة وروح اقتحامية.. فلن يتلاعب بعقولنا هؤلاء بعد الآن.. إذا ظهر صاحب الزمان فسيظهر ليأخذ على أيديهم هم المتلاعبين بالدين وتعاليمه القويمة الذين عاثوا في الأرض فسادا:

لـذا
فـنـحـن الانْ
مُـهـاجـرون دون أنـصـار ٍ..
حـيـارى..
لا " إمـامُ " الـقـصـر أفـتـى بـجـهـادِ الـجـوع ِ والـقـهـر ِ..
ولا جـلالـة ُ " الـسـلـطـانْ "
وفّـى بـمـا عـاهـدَ فـي سـقـيـفـةِ الـبـيـعـةِ !!
زاد جُـرحُـنـا قـيـحـا ً..
وزِدْنا هـلـعـا ً..
وأصْـحَـرَ الـبـسـتـانْ !!

إنهم ينطقون زورا باسم صاحب الزمان.. هم المسيح الدجّال الذي يخرج قبيل الظهور فيملأ الأرض فسادا.. وتُقسم علامات الظهور عادة إلى علائم حتمية وعلائم غير حتمية، والعلامة الحتمية الأولى هي خروج الدجّال حيث تمتلئ الدنيا بالفتن وإراقة الدماء بسبب وجوده النحس، ويظهر من الأخبار كأنّ عينيه امتلأتا دماً، ضخم الهامة، له هيئة غريبة عجيبة، وهو ماهر في السحر، وإلى جنبه جبل أسود يُخيل للناس انّه جبل من خبز، وخلفه جبل أبيض يخيل للناس من سحره انّه ماء جارٍ، ويصيح: «أوليائي أنا ربكم الأعلى». ويجتمع حوله الشياطين وأتباعهم من الظالمين والمنافقين والسحرة والكهنة والكفرة وأولاد الزنا، فيأخذ الشياطين بأطرافه:

يـا " صـاحـبَ الـزّمـان ِ "
يـا مـنـقِـذنـا..
يـا " صـاحـبَ الـزّمـانْ "
الـنـاطـقـون الـزّورُ بـاسـمِـكَ اسـتـجـارتْ مـنـهم:
الـمـروءةُ..
الـرَّعِــيـة ُ..
الـكـرامـة ُ ..
الميزانْ..

وإذا كانت من علائم الظهور الكبرى هو قتل نفس زكية، فإنهم يقتلون العراق الآن.. يقتلونه حدّ رغبته في الفرار ذعرا وخوفا.. وطن يهرب من وطنه.. وطن يطلب لجوءا في وطن آخر.. والجدّ الشهيد الحسين الذي يعزون صاحب الزمان باستشهاده صار دمه حبرا للشعارات التي يتاجرون بها:

يا صاحبَ الزمان ِ:
لـو يـمـلـكُ أن يـهربَ مـن سـاسـتِـهِ عـراقُـنـا
أو يـطـلـبَ الـلـجـوءَ فـي الأوطـانْ
لـفـرَّ مـن سـاسـتِـهِ..
يـا " صـاحـبَ الـزّمـانْ "
دمُ الحسـيـن ِ باتَ حِـبـرا ً
لـلـشـعـارات ِ الـتـي
تـخـجـلُ مـن ريـائِـهـا الـجـدرانْ

وإذا كانت "الصيحة" الكونية التي يسمعها أهل السماء والأرض هي علامة ظهور حتمية أيضا.. فإنها تأتي هنا معكوسة مليئة حنقا وقهرا ويأسا.. يطلقها الشاعر / ضمير شعبه ولسانه.. محذّرا من أن الإنسان – وبفعل تأخر الخلاص وخواء آماله من الإنقاذ الذي جعل عينيه تبيضّان على دروب الإنتظار – سوف يكفر من ذلّه يا صاحب الزمان:
ياصاحبَ الزمان ِ:

أخـرجْ
فـقـد أوشـكَ أنْ يـكـفـرَ فـي عـراقِـنـا
مـن ذلّـهِ
الإنـسـانْ!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى