الخميس ٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
ملامح الطفولة في ديوان
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

«أعط العصفورة سنبلة الحب وواصل»

الشاعر في كل زمان ومكان هو مشعل حرية ومصباح تنوير؛ لما أتاه الله من بصيرة مستنيرة، وقدرة على إدراك حقائق الأمور، وكشف أغوار الواقع وسبرها، وموهبة قادرة على الإبداع والخلق.

والشاعر كإنسان ذو إحساس رقيق، تفيض نفسه إنسانية، وتفيض روحه أحاسيس مرهفة مشعة، إنه يسعى – دوما- نحو عالم مثالي تتحقق فيه قيم الخير والحب والحق والحرية.

والشاعر خضر أبو جحجوح صوت متميز في المشهد الشعري الفلسطيني، لشعره مذاق خاص، ونغمة متفردة ، لا يمكن أن تخطئها الأذان العاشقة للشعر العربي، فشعره صورة من شخصيته، وواقعه المعيش، يصدر فيه عن تجربة فائقة التفرد، شديدة الخصوصية.

يشعر المتلقي أنه أمام شاعر صاحب رسالة، يحمل على عاتقه هموم شعبه وتطلعاته، بكل صدق وأمانة، يسعى جاهداً إلى تصوير نضال أمته، ومقاومتها للعدو المحتل بغية نيل الحرية والاستقلال. إنه يفضح جرائم الاحتلال، ويدين ممارساته الوحشية، إنه ينافح عن القيم الإنسانية المثالية، والمعاني النبيلة في زمن ضعفت فيه القيم، واختلت الموازين، وغدا الجلاد هو الضحية، والضحية هي الجلاد.

وديوان " أعط العصفورة سنبلة الحب وواصل" صدرت طبعته الأولى سنة 2007م عن مكتبة اليازجي بغزة، وهو يقع في ثلاث وتسعين صفحة من القطع المتوسط ، ويحتوي على خمس وأربعين قصيدة، تتراوح بين القصائد العمودية وقصائد التفعيلة والتوقيعات الفنية.

والجدير ذكره أن هذه المجموعة الشعرية هي الثالثة للشاعر الفلسطيني بعد مجموعة "صهيل الروح" الصادرة عام 1997م، عن مركز العلم والثقافة، ومجموعة "عرس النار" الصادرة عن مكتبة مدبولي بالقاهرة عام 2000م.

ومن بتتبع التأريخ الذي يعتمده الشاعر للقصائد يجد أن قصائد المجموعة كتبت بين عامي 2000 م و 2001 م قبيل انتفاضة الأقصى وأثناءها، لذلك جاءت مصورة تصويراً مكثفاً لمشهد المأساة الفلسطينية، وواقع التحدي والصمود في ظل القمع الإسرائيلي.

وديوان"أعط العصفورة سنبلة الحب وواصل" يغري المتلقي بقراءته، ويدفعه دفعاً إلى التفاعل معه، والغوص في معانيه، ومشاركة الشاعر تجربته الوجدانية والفنية.

ولأنَّ القراءة النقدية لأي ديوان شعري تحتاج من الناقد إلى صفحات مطولة، ولمَّا كان المقام لا يتسع لتغطية جوانب الديوان المتعددة ، فإن القراءة ستركز على ملمح واحد فقط، هو ملمح الطفولة التي يراها القارئ تطل في كل صفحة من صفحات الديوان بداية من العنوان وحتى آخر كلمة فيه.

والشاعر أبو جحجوح من الشعراء الذين شغلت الطفولة حيزاً واسعاً من تفكيره ووجدانه، انجذب إليها ، وتعلق بها ، فانبجست في حناياه، وفرضت نفسها عليه، وتجلت ملامحها من خلال عدد من دواوينه وقصائده.

والشاعر هنا لا يكتب للأطفال أغاني وأناشيد، وإنما يكتب عن الأطفال، إنه يعالج صورة الطفولة التي تعرضت لأبشع جرائم العدو، وممارساته الوحشية، إنه يعرض للطفولة من خلال رؤيته، وهي رؤية الإنسان العربي بكل ما تحمله هذه العبارة من دلالة واقعية وحضارية.

فالطفولة مرحلة من أهم مراحل حياة الإنسان، وهي فئة مهمة من فئات المجتمع ، اتخذت صفة القداسة والبراءة في النفوس ، وقد شغل الطفل الفلسطيني عند كثير من الشعراء الفلسطينيين مجالاً فسيحاً، تناولوا في قصائدهم عالم الطفل الذي تحول من إنسان بريء يبحث عن الراحة والطمأنينة والعلم إلى مناضل ومقاوم صغير السن، كبير العزم والهمة .تحول الطفل إلى ضحية بريئة، يواجه الوحشية الصهيونية، ولكنه ما زال صامداً في وجه الوحش والشيطان.

إن الأدب الذي يمتاح مادته من الواقع، ويبني عوالمه من الأحداث والتفاصيل اليومية يستطيع أن يدخل كل بيت، ويرفع من همم المجاهدين وعزيمتهم.

والشاعر الأصيل هو الذي يقترب من هموم شعبه، ويصور مشاهد البطولة والشهادة، بقلم مرهف حساس وبعين سحرية، تجعله أكثر تواصلاً مع أبناء شعبه، فطالما كان الشعر مواكباً لتضحيات أبناء القضية، مخلداً ملامحهم، متغنيا ببطولاتهم، وكان منبراً لرفع الهمم، وتحفيز الدماء، راسماً الجرح الفلسطيني بنزفه على صفحات القلوب.

لقد لامس الشاعر الجرح اليومي لشعبه ، ودخل إلى تفاصيل الحزن والشهادة، وهل يعقل أن يكون الشعر بعيداً عن الواقع، ويمكن أن يحقق حضوره في المجتمع الفلسطيني؟!

ومن حق المتلقي أن يتساءل عن الدوافع التي حفزت الشاعر إلى الاهتمام بعالم الطفولة والأطفال، وفي مكنة الباحث الإجابة عن هذا التساؤل بالذهاب إلى أن الشاعر ربما طرق عوالم الطفولة لأسباب عدة لعل من أهمها سعة فضاء عالم الطفولة وسيطرتها الكلية على أحاسيسه ومكنوناته، فللطفولة صور براءة مؤثرة تتغلغل بحبها إلى أعماق النفس البشرية التي فطرها الله-عز وجل- عليها بكل ما يكتنف هذه المشاعر من حب ورحمة ورفق.

وستقارب هذه القراءة ملامح الطفولة من جانبين: أحدهما :جانب الحقل الدلالي، والآخر جانب صور الطفولة وملامحها.

أ – الحقول الدلالية.

ويقصد بالحقل الدلالي مجموع المفردات المتقاربة التي تتميز بوجود عناصر أو ملامح دلالية مشتركة، وتتقارب فيما بينها من حيث التقارب الدلالي ، يكثر تداولها في قصائد الديوان، وبذلك تكتسب الكلمات معناها من علاقاتها بالكلمات الأخرى؛ لأن الكلمة لا معنى لها بمفردها، وإنما معناها يتحدد معناها مع أقرب الكلمات إليها في سياقها ، وفي إطار مجموعة واحدة.

والناظر إلى الخطاب الشعري في الديوان يكتشف أنه غني بالمفردات والتراكيب المحملة بالدلالات المتعلقة بعالم الطفولة، لاسيما تلك التي تقع في دائرة الطفولة وتجلياتها المتعددة.

استخدم الشاعر في ديوانه حقولاً دلالية متنوعة، تجلت في مجموعة المفردات التي لها صلة وثيقة بعالم الطفولة، منها ما يتصل بحقل الطفولة مباشرة ومنها ما يتعلق بهذا العالم بشكل غير مباشر، وثمة حقول تتصل بأسماء الشهداء وأسماء قتلة الأطفال، ومنها ما يتصل بحقل الاحتلال وأسلحته في قتل الأطفال واغتيالهما، وما تعرضوا له من جرائم المحتل البشعة، وهي حقول مترابطة متعاضدة ، يأخذ بعضها برقاب بعض وتشكل في مجموعها رسالة النص.

أما فيما يخص الحقل الدلالي المتعلق بعالم الطفولة بصورة مباشرة، فقد احتشدت قصائد الديوان بمفردات وتراكيب تجسد عالم الطفولة من مثل:"الطفولة، البراءة، ألم(آلام)، الأمومة، الأبوة، الرضاعة، الثدي، الطهارة، الحب، الحنين، الحضن، الدموع، الأشلاء، تشظي، الدم(الدماء)، الموت، العظم ، أشلاء، النور، عويل، أرامل.

وفيما يتعلق بالمفردات التي تقع في إطار حقل عالم الطفولة بطريقة غير مباشرة، فهي كثيرة في فصائد الديوان, إذ ترددت ألفاظ من مثل: العصفورة(عصافير)، الزهرة(الأزهار)، الوردة، النوار، النرجس، الحساسين، العلقم، الوحش، الغول، العيون، يقول الشاعر في قصيدة بعنوان:"تنويعات على وتر الدم" يصور فيها مشهد استشهاد الطفل محمد الدرة:

لمحمدْ
للدرة يا شعبي الجبارْ
تبكي الأطيار مع الأحجار الأزهارْ
ويبكي النرجس والنَّوارْ
عشقا لبراءته المسفوحة ْ
بجوار جدار منهار ْ
في حضن أبيه المذعور الملتف بموت أسود ْ
فوق الإسفلت بنيران زرقاء ْ
لم ترحم صرخات اللهفة والحب ولن تتردد
يوماً ..
في قتل براءة أطفال يحييها
هذا اللهب الأزرق مهما امتدْ
والدم بحار لا تنفدْ.

يصور الشاعر في هذه القصيدة الجريمة البشعة التي ارتكبها العدو بقتل الطفل محمد الدرة بدم بارد، دون ذنب جناه ، سوى إنه طفل فلسطيني.

استخدم الشاعر في هذه القصيدة المفردات والكلمات الشائعة في عالم الطفولة من مثل:
محمد، شعبي الجبار، تبكي، الأطيار، الأحجار، الأزهار، النرجس، النوار، العشق، البراءة المسفوحة، حضن، المذعور، موت أسود، النيران الزرقاء، لم ترحم، صرخات اللهفة والحب، القتل، براءة أطفال، اللهب الأزرق، الدم. ومن المفردات ما يتعلق بالألوان مثل: البشعة ، أحمر، أسود، أبيض، أزرق.

وقد استخدم الشاعر لغة خاصة تمثلت في هذه الصور الموحية" تبكي الأطيار مع الأحجار الأزهار"، "يبكي النرجس والنوار".

استثمر الشاعر عناصر الطبيعة الحية النابضة بالحركة والحيوية، ووظفها توظيفاً رمزياً داخل تشكيله الفني؛ ليعبر من خلالها عن الحزن العارم على استشهاد الطفل البريء" براءته المسفوحة"،"الموت الأسود"، "صرخات اللهفة والحب" قتل براءة الأطفال"،"والدم بحار لا تنفد".

وفي العبارة الأخيرة" والدم بحار لا تنفد" امتصاص للخطاب القرآني في قوله تعالى:" قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا"(سورة الكهف الآية: 109 )، وهذا التداخل النصي مع النص القرآني يكسب المعنى صفة الجلال والتقديس، ويعمق المضمون ويثريه.

ولم يفت الشاعر أن يربط بين صور الطفولة وعاطفة الأبوة الحانية التي تجلت في محاولة الأب حماية ابنه محمد والدفاع عنه والذي انهالت على جسده الطري رصاصات الغدر الصهيوني، وذلك بأن جعل من جسمه ساتراً آخر يقي ابنه، ومشهد الأبوة هذا يعمق بلا شك جونب الصورة ويكمل جوانبها.

والمتأمل في المعجم اللغوي الذي استخدمه الشاعر يجد أن بعض الكلمات قد اكتسبت دلالات وإيحاءات رمزية ثرة، فكلمة "الأزهار" تحمل دلاله رمزية، إذ ترمز لبراءة الأطفال وطهارتهم، ومن الرموز المفردة كذلك قول الشاعر في قصيدة له بعنوان" الوعد":

إني همزتُك في المدى الممتدّ بين مغارتي واللحدِ
يا ولدي
فانسج تراتيل البراءة من دمائكَ واتقدْ
واصرخ بهذا الوحش إنَّا عاشقوها للأبدْ

يلحظ المتلقي أن كلمة"الوحش"، تحمل دلالة رمزية، تعني العدو الصهيوني المتعطش لدماء الأطفال.

أما الحقل الدلالي المتعلق بأسماء الشهداء وأسماء قتلة أولئك الشهداء فهي أيضاً كثيرة، وهي في مجملها أسماء حقيقية واقعية ومنها ما هو متخيل أورده الشاعر ليكون رمزاً لكل طفل شهيد، ومن تلك الأسماء الحقيقية: محمد الدرة، وفارس عودة، وإيمان حجو، وسامي، وغيرها، أما أسماء القتلة، فورد منها "باراك"، وزير الحرب الصهيوني، ومادي الأمريكية الشمطاء الصهيونية ،ففي قصيدة للشاعر يستخدم فيها اسم "باراك" ليكون رمزاً لقاتل الأطفال، إذ يقول:

والساحر" باراك" الملعونْ
طَرَِِباً يتغنّى يترنّمْ
يشوي لحم الأزهار العزلاء على النابلم.

فاسم" باراك" يحمل هنا دلالة رمزية، إذ يرمز للوجه القاتل القبيح للعدو الصهيوني، والمتمثل في "باراك" ومن شاكله من قادة العدو الذين استخدموا في إخماد الانتفاضة أساليب لا تقل وحشية وبشاعة عن صنيع النازيين باليهود أنفسهم، وتجلت فيها وحشيتهم وتعطشهم لسفك دماء الفلسطينيين لاسيما الأطفال منهم. .

ومن الرموز المفردة "الأزهار" التي تحمل هنا دلالة رمزية، إذ ترمز للأمل وجيل المستقبل الذي تربى على البذل والعطاء والتضحية . ولفظ" النابلم "يرمز لأدوات القتل التي يستخدمها العدو الصهيوني لقتل الأطفال، وهي من أشدها فتكاً وأكثرها ألماً.

إن المفردات التي تتألف منها الحقول الدلالية لها علاقة قوية بعالم الطفولة، وما تعرضت له من جرائم وحشية لا إنسانية على يد العدو المحتل، وتعبر هذه الحقول الدلالية أيضاً عن شعور الفلسطيني بالمرارة والألم؛ لما قام به العدو من اغتيال الأطفال بدم بارد، دون جريرة ارتكبوها، ويجسد أيضا المعاني المختلفة التي تتصل بمقاومة هؤلاء الأطفال وتحديهم للعدو.

إن البنية اللغوية في الشعر لا تتحدد بالمفردات، وإنما تتجلى في التراكيب اللغوية التي تمنح المفردات مواقعها في منظومة التركيب اللغوي، وبالتالي تمنحها وظيفتها الدلالية والإيقاعية.
فقد عُني الشاعر باستقصاء صوره، ذات العلاقة بملامح الطفولة ومشاهدها. فهو يقسم هذه الصور إلى: بصرية، وسمعية، وشمية، وذوقية، ولمسية؛ مما يثير في القصيدة أجواءً دلالية حسية، تغري الباحث باتباع التحليل السيميائي.

ومن سمات اللغة التي استعان بها الشاعر على تشكيل صورة الطفل الشهيد الاتكاء على اختيار أكثر الألفاظ والتراكيب إيحاء وأقواها تأثيراً في نفوس المتلقين. وقد تمثل ذلك في التعبير عن تجربته الإنسانية من خلال الصور الموحية التي استقى جزيئاتها من عالم الطفولة، يقول الشاعر في قصيدة له بعنوان" الهمة والطوفان":

ما زلتُ صبياً وطرياً
لم أخمش وجهَ الوحشِ السادسْ
ليوزع لحمي لكلاب الأرض،
ويشرب في جمجمتي نخبا دموياّ
وفي قصيدة أخرى بعنوان: "روح الخلود" يقول الشاعر:
وعظمُ براءتنا حائطُ مبْكَى
تُصلّي الشّظايا عليها
وتركض جذلي
تغني...
تعانقُ فينا انسياب الوجودْ
وتبكي كطفلٍ نزقْ
يُضيّع مصروفه في رمال الأرقْ
ونحن نغذ خطانا لروح الخلودْ.

فالصور الجزئية التشبيهية والاستعارية مثل: "عظم براءتها حائط مبكي، تصلى الشظايا عليها، وتركض جذلي، تغني، تعانق انسياب الوجود ."رمال الأرق" ، "روح الخلود" مستقاة من عوالم الطفولة.

عول الشاعر في التعبير عن موقفه الذاتي ورؤيته الإنسانية من خلال استخدم لغة حية موحية متجددة مليئة بالدلالات والإيحاءات والرموز .ويتجلى ذلك في انتقاء الألفاظ الموحية والجنوح لاختيار الصور الفنية المعبرة بعيدا عن اللجوء إلى النبرة الخطابية والمباشرة والتقريرية، ويلحظ القارئ أن في لغة الشاعر ألفاظا وتراكيب مستمدة من الواقع المحسوس الذي يعرفه عامة الناس.

ويدرك المتلقي أيضاً أن تعمد الشاعر ذكر أسماء الشهداء وأسماء القتلة أو الإشارة إليهم يشكل جزءاً مهماً من مظاهر استخدام الشعراء للغة؛ الأمر الذي أدى إلى مزيد من الصدق، وتحديد المفاهيم والقضايا بدون شبهة الاتهام بالاختراع والاختلاق، إن ذكر أسماء الشهداء وقتلتهم ليس تسجيلاً فقط، وإنما هو تسجيل فني جميل وصادق في آن معا.

يستمد الشاعر الحدث أو الشخصية من الواقع المحسوس، بيد أنه يرويها بأسلوب فني مختلف تماماً قائم على التصوير الفني بالطاقات الإيحائية الغنية.

المتأمل في الخطاب الشعري الذي وظفه الشاعر للتعبير عن تجربته الإنسانية، يكتشف أن هذا الخطاب يستخدم ألفاظاً وتراكيب وصوراً شعرية مشرقة بسيطة، بها ألفاظ مأنوسة موحية تنسجم وبساطة عالم الطفولة ورحابته، بما فيه من براءة وطهارة ونقاء، وهي لغة قادرة على تصوير هذا العالم وتجسيده من خلال الاستعانة بالأدوات الفنية التي تجعل هذا العالم يموج بالحياة والحيوية والصفاء والنقاء الطفولي.

وصفوة القول، فإن اللغة تكتسب في الأداء الشعري قدرة على التصوير؛ الأمر الذي يضع المتلقي أمام أفق جمالي للغة ينحرف به عن خشونة الواقع المباشر، ويضعه في سياق من توالد المعاني والرموز التي تفتح طرقا إلى التأويل

ب – ملامح صور الطفل الشهيد:

توزعت صورة الطفل الشهيد ما بين صورة الطفل الضحية البريئة، وصورة الطفل الطالب، وصورة الطفل الشهيد المقاوم.

1 - صورة الطفل الضحية البريئة:

تجلت صورة الطفل الضحية البريئة في ما رسمه الشاعر من لوحات شعرية للأطفال الشهداء في عدد من القصائد منها صورة الشهيدة "إيمان حجو"، التي لم يتجاوز عمرها سنة واحدة، يقول الشاعر في قصيدة بعنوان"إيمان":

كانت إيمانُ تكركر في اللفّة
وتناغي أسرابَ حساسينْ
مرت في الْحُلْم تلاعبها
لما اخترقَ الصاروخُ طفولتَها
وتشظّى موتاً وخراباً وعذاباً ودموعا
ونثارَ دمارٍ ونجيعا
كي تبتديء الزَّفة ْ

استمد الشاعر صورة الشهيدة الطفلة "إيمان" من الواقع المر الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، مستخدماً مقدرة لغوية، وخيالاً خصباً بدون إغراب أو غموض.

فقد مال إلى انتقاء الألفاظ التي تدل على عالم الطفولة الفسيح من مثل: تُكَرْكِر، تناغي، اللفة، الطفولة، الحلم، تلاعب، أسراب حساسين.أما عن بشاعة القتل، فتردد مفردات: الصاروخ، تشظي، موت، خراب، عذاب، دموع، نثار دماء، نجيع .

اعتمد الشاعر في تشكيله الفني على البنية السردية وأسلوب الحكي والسرد بخاصة الفعل" كان" الذي يعد عصب عملية السرد ومركزها، واستعار أيضاً في وصفه لمشهد اغتيال الطفلة "إيمان" صور الماضي وما وقع فيه من مجازر بشعة .

إنه يصور استشهاد طفلة من أطفال فلسطين المغتالة، والتي سقطت برصاص المحتلين، مركزاً على وحشية جنود العدو الذين اغتالوا الطفلة بطريقة لا يستخدمها عاقل، وقد قدم الشاعر هذه الصورة بسهولة ويسر وبوضوح جميل وعميق يتناسب مع طفولة الضحية وبراءتها .

ويكتشف المتلقي فكرة في النبضة الشعورية السابقة ارتباط الشهادة" بالعرس" في الأعمال الشعرية لدى كثير من شعراء فلسطين، وقد جسد الشاعر ذلك استلهاماً من أرض الواقع، وهو أن يوم استشهاد الشهيد هو يوم زفافه، وفي ذلك إلماحة إلى مواصلة الكفاح لنيل الحرية والاستقلال وإشارة خفية للمكانة الرفيعة التي يتمتع بها الشهيد عند مولاه في جنان الخلد.

2- صورة الطالب الشهيد:

يعمد الشاعر إلى رسم مشهد شعري مؤثر لاستشهاد طالب صبي وهو عائد من مدرسته، يقول في قصيدة له بعنوان:"تنويعات على وتر الدم":

لم يحمل سامي غيرَ حقيبتهِ
وطهارتِهِ
وبراءة عصفورٍ عاشق ْ
والقدسُ فراشات تتهادى بين جوانحِهِ
وتقبل أزهار الحب ْ
( آهٍ يا أمي ما أغلى... )
واخترق رصاص الحقد الأسودِ
جمجمتهِ
وفضاء محبتهِ
فتشظّى في الآفاق بنادقْ.

يهدف الشاعر في هذه الحكاية القصيرة إلى فضح حجج المعتدين ومسوغاتهم في قتل الأطفال الفلسطينيين، فسامي طفل بريء لم يكن في الأطفال الذين يرمون الجنود الإسرائيليين بالحجارة، حتى يقال: قُتل عقاباً على ما فعل، ولكنه – كما تصور الكلمات - كان يطلب العلم والمعرفة، إنه لا يحمل صاروخا ولا مدفعاً رشاشاً، وإنما يحمل حقيبة مدرسية، ولذا مارس العدو جريمته البشعة ضده، وقتله بدم بارد دون ذنب أو جريرة، وقتل طفل طالب بريء يعد من أبشع الجرائم في وجود الإنسانية.

حاول الشاعر الاستعانة ببعض الأدوات والوسائل الفنية ؛ للتعبير عن رؤيته الإنسانية لملامح الطفولة؛ لتكون بمثابة خلفية لمشهد استشهاد الطفلة إيمان ، واستكمال ملامح المشهد وأبعاده المختلفة مثل: توظيف الفضاء المكاني، واستدعاء التراث الشعبي، وتقنية الفراغ، وإيحاءات الألوان.

فقد جاء استثماره للفضاء المكاني المتمثل في استدعاء مدينة "القدس"؛ ليغني المعنى ويعمقه، فالقدس" درة فلسطين" وعروس عروبة الأمة العربية ارتبطت دلالتها بمفهوم الوطن لما لها من قدسية، وارتباط بالعقيدة الإسلامية، ومكانة تاريخية، إن مجرد ذكر هذه المدينة يستدعي إلى الذاكرة دلالات تراثية رحبة، فيترسخ بذلك اسمها في أذهان الأطفال، ويأخذ في حثهم على العمل على تحريرها وتخليصها من ربقة الأسر، وافتدائها بالنفس والروح.
عمد الشاعر أيضاً إلى توظيف التراث الشعبي المتمثل في استدعاء أغنية شعبية هي: " آه يا أمي ما أغلى ..." وهذا الاستدعاء ينفتح على أهزوجة شعبية ملحنة ومغناة يرددها أبناء الشعب الفلسطيني تعبيراً عن حبهم لوطنهم فلسطين وهي: "يا فلسطين يا أغلى أم "، وهو بهذا التداخل النصي يتغيّا ترسيخ الهُوية الفلسطينية، وتجسيد حب الوطن والاعتزاز به ، أما ذكر دال "الأم" فيرمز للأرض وفلسطين، وهو رمز موحٍ يحمل دلالات ثرة، إلى جانب استخدام تقنية الحذف متكئا في ذلك على المخزون الثقافي للمتلقي؛ ليكمل النص الحاضر من ذاكرته، وبذلك تتحقق مشاركة المتلقي الوجدانية والفكرية لتجربة الشاعر الإنسانية.

واتكأ الشاعر كذلك على توظيف دلالات الألوان لاسيما اللون الأسود في قوله " الحقد الأسود؛"؛ ليرمز إلى بشاعة هذا الحقد وتعمقه في نفوس المحتلين.

وفي مشهد آخر يصور الشاعر استشهاد طفلة طالبة من أطفال الانتفاضة مبرزاً وحشية جنود الاحتلال وقسوتهم في اغتيال مثل هذه الزهور الطرية.يقول في قصيدة له بعنوان:" دم زهرة بريئة":

التفاحُ بشفتيها
واللوز بعينيها
وبخديها كرز ْ
والقلب حمامه ْ
رفّت لعبور الشارعِ بسلامه ْ
وشريط ضفيرتها الأبيض يرقص قي ليل
الشّعْر
وأخوها يحتضن يديها
كالروح تعانقها الروح ْ
في حب ووئام ْ
وحقيبتها فوق الكتفين تسابيح ْ
تزهر فيها الأحلامُ
تتهادى كالأنسامْ
تتحرق شوقاً لعناق الأمِ
لترى كراستها المزدانة
بالحبر الأحمر مع فلِّ ونجوم
وتحية شكرٍ
وزهور تتشابك في دفترها بسلامْ
لمّا انطلق الصاروخُ
ليكتبَ في الأفق شهادتها بالدمْ.

إن مشهد الطفلة التي قدم فيه الشاعر صورة استشهادها وصورة دمائها بحزن وألم، قد قرن بتقديم صورة تشبيهيه دقيقة تماهت أطرافها واندغمت فيها رقة الطفولة وعذوبتها: فالشفاه تفاح ، والعينان لوز ، والخدان كرز ، والقلب حمامة . وهي صور تراثية متتابعة اشتقت جزيئاتها وعناصرها من طبيعة فلسطين؛ لتجسد التصاقها بالأرض وتشبثها بها .

لقد ارتقت روح الطفلة البريئة إلى العلا، والتحقت بركب الشهداء بعد أن روت بدمائها الزكية ثرى الوطن، ليكون دمها نوراً يضيء درب المجاهدين ووقودا للثورة المتأججة، ورمزاً للنضال لنيل الحرية والاستقلال.

استثمر الشاعر فاعليه التشكيل اللوني في رسم الأبعاد الدلالية والجمالية لصورة الطفلة، فرسم لوحة فنية كلية رائعة قوامها الألوان المتعددة الدلالة: كاللون الأبيض، والأسود، والأحمر، وما توحي به من طاقات إيحائية رحبة.

اعتمد الشاعر في تقديم لوحته الكلية على البناء السردي الذي تتبدى ملامحه جلية في اللوحة وقد أدى هذا البناء دوره في التشكيل الجمالي للقصيدة بعيداً عن سطحية المباشرة ، والإيغال في الغموض والإبهام، إنه يبعث الحيوية والتشويه في بنية القصيدة.

وتدل الأفعال المضارعة على الحركة والحيوية التي تتناسب مع حركة الطفل وحيويته وتشي بالتجدد والاستمرار، فالطفل في ديمومة وحركة لا تنقطع.

استند الشاعر في تشكيل حركة قصيدته على البناء الدرامي، فجعل لها بداية ونهاية، وأقام هذا البناء على المفارقة التصويرية، فقد جاءت بداية الحكاية الشعرية القصيرة؛ لتجسد الطفولة البريئة بما فيها من فرح وسرور وتفتح على الحياة، أما خاتمة القصيدة، فجاءت مختصرة مكثفة، إذ اختصر فيها لحظة استشهاد الطفلة في عبارة واحدة دون أية تفاصيل وشرح، ولا تشبيهات تدعم الصورة، إنها نهاية مفاجئة لحدث غير متوقع،إذ خالفت توقعات المتلقي، ذلك أن من حق الطفلة التي تتمتع بمثل هذا الجمال وتلك الحيوية والحياة أن تظل حية متدفقة تمنح الحياة، لا أن تذبل وتموت على يد أعداء الإنسانية والحياة، إن هذا الحدث يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن القتل كان بقصدية وعمديه، إنه قتل للطفولة بدم بارد، يبرز بشاعة الجريمة، ويضفي على المنظر لمسة إنسانية شفافة . هذا الانتقال المفاجئ من براءة الطفولة وطهارتها إلى الدم والموت يضع المتلقي أمام الصورة الفنية التي جمعت بين الثنائيات الضدية؛ لتنمي جوهر المفارقة التصويرية وتعمق رؤية الكاتب وموقفه من استشهاد هذه الطفلة البريئة التي رفعها إلى مراتب الشهداء في عليين.

لقد أدى العنوان بوصفه إحدى العتبات النصية دوراً مهماً في الإيحاء بتجربة الشاعر ومكنوناته الوجدانية، ذلك أن العنوان يشكل المفتاح الذهبي والإشارة التي يرسلها الشاعر إلى المتلقي للولوج إلى عالم القصيدة ومضمونها مثل عنوان :"دم زهرة بريئة"، فقد أدى وظيفته كَمُوَجِّهِ قراءةٍ يغوي القارئ، ويلفت انتباهه، ويدعوه لارتياد عوالم النص.

3 – صورة الطفل المقاوم:

لم يعمد الشاعر في رسمه لصورة الطفل الشهيد على ما اعتاد الشعراء أن يرسموا للأطفال الشهداء من مشاهد نمطية مؤسسة على إبراز مشاعر الحزن والألم وقائمة على الندب والبكاء، وإنما لجأ إلى نمط مغاير بحيث تنهض صورة الطفل عنده على عنصر الإرادة والصمود، وتعكس بعمق رؤيته القائمة على رفض الاحتلال وتجسيد دلالات التحدي والإقدام والأمل والتفاؤل، يقول في قصيدة بعنوان:" فارس":

تقدمي
ففي يدي كبريائي
وفي دمي
مراجلُ الإباءِ
وهامتي صواعق الرعود ْ
وخافقي دبابة تترست بعشقها الفريد ْ
تقدمي.

عوّل الشاعر في بناء صورة الطفل على البنية السردية، فأقام حواراً درامياً من جانب واحد بين الطفل والدبابةـ في قوله " تقدمي " ويختمها بالعبارة نفسها" تقدمي "، وهي عبارة تثير التساؤل ، فالشاعر لم يحدد للمتلقي المقصود بضمير المخاطب في الفعل "تقدمي"، فهو مخاطب مجهول، لم يصرح الشاعر به، وبذلك يتحقق عنصر الدهشة والتشويق، الأمر الذي أغنى الدلالة، وعمقها في وجدان المتلقي.

ويجيء تعدد استخدم شبه الجملة بتقديم الجار والمجرور على الاسم لتحقيق غرض الاختصاص والتركيز مثل: ففي يدي كبريائي، وفي دمي مراجلُ الإباءِ، فضلا عن تركيز الشاعر على استخدام الأسماء مثل: الكبرياء الدم، مراجل الإباء، الهامة ، الصواعق، الرعود، الخافق، العشق، الفريد،

ويتبين للمتلقي أيضاً أن الموضوع الذي قاربه الشاعر أوجب عليه أن ينتقي من الألفاظ ما يتناسب معه مثل: تقدمي، الإباء ، الخلود، وكلها دوال ترسخ دلالات القوة والصمود والتحدي.
لقد سطّر أطفال فلسطين في الانتفاضة أروع ملاحم التحدي والمواجهة والفداء، وقد تجلت هذه الملاحم في الطفل" فارس عودة" الذي تصدى بمفرده للدبابة دون خوف أو وجل؛ لينال الشهادة من أجل دينه وأرضه ووطنه، ويلقن العدو درساً في التحدي والصمود.

وفي إطار الحديث عن ملامح الطفولة عند الشاعر يلتقي القارئ صوراً ومشاهد تتعلق بتلك الملامح مثل رسم صور الأمومة، لقرب تلك العلاقة بعالم الطفولة في كثير من أبعادها وملامحها: كالعواطف والمشاعر والدلالات، ومن ذلك قول الشاعر في الحكاية الشعرية القصيرة التي اتكأ فيها على البناء السردي، يقول في قصيدة له بعنوان" تشظي" يسرد فيها قصة طفل بريء قتل على يد المعتدين المحتلين:

أفلتً من يد أمّه
عند الحاجز ْ
وتسامى ببراءة عصفورْ
فتلقفه صاروخ أفلت من حضن الدبابهْ
فتشظى في النور ْ.

يبرز الشاعر في هذه الخفقة الشعورية مشاعر الأمومة الحانية على طفلها الحريصة على سلامته، فهي تمسك بقوة بيد ابنها عند الحاجز حرصاً عليه من بطش المحتلين، وبالرغم من هذا الحرص الشديد الذي أبدته تلك الأم الرءوم، فإن ابنها قد أفلت من يدها، فكانت نهايته أن قتل بقذيفة صاروخية أطلقها أعداؤه عليه خوفاً منه، فتسامى نوراً يهدي المجاهدين إلى طريق الحرية والاستقلال.

إن عذوبة الطفولة وبراءتها وما يتصل بها من مواقف وتجارب إنسانية قد جعلت الشاعر يميل في خطابه الشعري إلى استخدام لغة وصور شعرية تتسم في مجملها بطابع السهولة والبساطة والسلاسة والعذوبة بعيداً عن التبسيط والتقريرية الذي تفقد فيه اللغة الشعرية قدرتها على الإيحاء والإمتاع الفني، فدال"أفلتَ" يشي بالحركة والحيوية الدائبة التي يتمتع بها الأطفال في عمر الطفولة، والصورة الشعرية في قوله براءة عصفور" توحي بعالم رحب من البراءة والخفة والنشاط، أما لفظ "النور" في نهاية الحكاية، فهو دال يحمل طاقات إيحائية ثرة، لما بين الطفولة والنور من علاقة وثيقة، فالأطفال هم مشاعل الحياة، وارتقاء أرواحهم إلى العلا يزيدهم براءة ونورا وهداية؛ لأن دماءهم تظل نوراً يهدي السائرين في دروب الحرية والاستقلال، وجنوح الشاعر أيضاً في بناء قصيدته إلى شكل التوقيعات الفنية القصيرة، التي تتكئ على المشاهد الحية لنابضة بالحياة والحركة، يوحي ببساطة المعمار الفني وتماهيه مع عالم الطفولة وأجوائه الرحبة.

إن استثمار الشاعر القيم الموسيقية المنبعثة من إيقاعات وزن المتدارك وما يتمتع به من تدفق في وحداته النغمية؛ ليتماهي مع تفلت الصبي البريء من يد أمه ليمارس براءة الأطفال العصافير، وأدت القافية الحرة المنطلقة وظيفة حيوية في تجسيد معنى انطلاق الطفل بحثاً عن حريته من جهة، وانطلاق قذيفة الصاروخ لتلتصق بجسد الطفل من جهة أخرى، ولعبت القيم الصوتية المتولدة من الأصوات الصائتة (أصوات المد) التي توزعت ما بين الألف والياء والواو والتي سجلت حضوراً لافتاً في النص الشعري دوراً في خلق موسيقى خاصة تلاءمت مع المعنى الذي أراده الشاعر، حيث إن الصوت كما يرى بوب يجب" أن يبدو صدى للمعنى".

لم تكن صورة الأمومة عند الشاعر دائماً عامرة بالحب والحنان والعطف واللمسات الإنسانية الدافئة، وإنما ثمة صور عمد فيها الشاعر إلى رسم ملامح جلية للأمومة القاسية العاقة، المجردة من العواطف الإنسانية، إنها أمومة تنتمي إلى الحقد والتنكيل والموت، أمومة تأكل أبناءها، وتجعل منهم فريسة لحقدها وكراهيتها، وقد تمثلت هذه المقاصد عند الشاعر في قصيدته" الأم ريكا":

شمطاء تدلي ثديين صناعيين
ينزان عيونا ودماءْ
وبحاراً من لفح الشهوة والماء
وجبالاً من أوراق خضراء
كي ترضع أزلام الأرض اللقطاء
ويخرون بكياً للأذقان بقيض الصحراء
خوفاً ...ورجاء... وولاءْ.

اتخذ الشاعر من الرمز أداة فنية للتعبير عن رؤيته الشعورية، وتجربته الإنسانية، فأمريكا هي رمز للاستعمار الغربي الظالم الطاغي وهي رمز للغطرسة والكبرياء التي تدعي زوراً الأمومة، وهي تنكر على الشعوب حقها في الحرية والاستقلال، وتعترف للطغاة المعتدين بحقوق ليست لهم، كما تفعل مع الصهاينة، وقد صورها الشاعر في صورة تثير التقزز والاشمئزاز إذ جاءت في صورة أم شمطاء تنز حقداً ودماً.

وحرص الشاعر على إبراز رسالته الإنسانية في فضح بعض شرائح من المجتمع العربي، وتعرية مواقفهم أمام شعوبهم من خلال تقديم صور فنية موحية بما يريد أن ينقله إلى المتلقي بعيداً عن استعمال النبرة الخطابية وأسلوب المباشرة، فلجأ إلى استخدام الرمز للتعبير عن هذه الرؤية والموقف، فجاء دال" الأزلام"؛ ليرمز إلى خنوع بعض الحكام والزعماء العرب لإرادة أمريكا في سبيل الحفاظ على مصالحهم واستمرار حكمهم.

ويلحظ المتلقي أن في الدفقة الشعورية السابقة تناصاً مع الخطاب القرآني في قول الشاعر: "ويخرون بكياً للأذقان بقيض الصحراء / خوفاً ...ورجاء... وولاءْ"، إذ ينفتح النص الحاضر على تناص مع الخطاب القرآني في قوله تعالى:"... إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا "( سورة النور: الآيات 107 – 109 ).

وقد اتخذ هذا التناص تقنية المخالفة معتمداً في ذلك على تحويل الدلالة القرآنية، فالمعنى القرآني يتحدث عن مشهد المؤمنين العالمين الطائعين الذين يبدون التذلل والخضوع لخالقهم، الخاضعين لرب العزة والقوة والجبروت، أما في النص الراهن، فقد جعل الشاعر تلك الصفات ملتصقة بالخاضعين المستسلمين لإرادة أمريكا عدوة الشعوب وقاتلة الأطفال؛ وبذلك أضفى التناص على النص دلالات فنية أسهمت في إثرائه وزيادته عمقاً وتأثيراً.

لقد عالج الشاعر في خطابه الشعري مأساة الطفل الشهيد المقاوم وانطلق منها إلى الحديث عن مأساة الشعب الفلسطيني، ونكبة الأمة العربية والإسلامية، وضياع القيم الإنسانية في عالم الأنياب والأظافر، وهو بذلك يتجاوز العاطفة الفردية الذاتية التي حملها لهذا الطفل إلى العاطفة الجمعية العامة، فأصبح الخاص عاماً، والفردي جمعاً.

لقد تمكن الشاعر بما يمتلك من قدرات فنية أن يدرك ما تتميز به الطفولة من ملامح إنسانية متعددة، ترمز لقيم إنسانية مثالية، تمنح الإنسان الشعور بالبراءة، وتروي قلوباً ظامئة ، وتحيي الأمل في نفوس يائسة.

إن ملامح الطفولة عند الشاعر في أغلبها ملامح منتزعة من الواقع، رصد فيها مشاهد حقيقية لاغتيال هذه الطفولة، بيد أنه أضفى على تلك الملامح والأبعاد من رؤيته وفنه ما انحرف بتصويره إلى أفق فني رحيب، وبذلك دخل الواقع المباشر في واقع آخر له أبعاده الفنية والجمالية؛ الأمر الذي هيأ للصورة والمشهد إطاراً فنياً جدياً بعيداً عن التطابق الحرفي للواقع.
شاعر فلسطيني معاصر، انظر: ترجمته كاملة في موقع "ديوان العرب".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى