الجمعة ١٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم محمود سعيد

التجريب واللغة السردية

في عمل عمار أحمد. انطباعات عن اللغة السردية في مرواة عمار أحمد_ علي بالقوس إذا أيتها الجوائح

استهلّ كتابتي عن العمل السردي الذي أطلق عليه صاحبه (مرواة) لا قصة ولا رواية بذكر ما حدث لي مع المرحوم د علي جواد الطاهر.

بدأً أعتذر من د. عمار ومن القراء لقصوري في الكتابة، فأنا لست بناقد، ولا أتوافر على أدوات النقد، وما أكتبه ملاحظات وانطباعات، فعسى أن يغفر لي تخلّفي في هذا المجال كلّ من يقرأ هذه الأسطر القليلة.

كُتب عن روايتي "زنقة بن بركة" أربع وثلاثون مقالة، ولعل خير من كتب عنها الطّاهر، وفيها ترد هذه الجذاذة التي أعقبت إشادته بلغة الرواية:

ولكن يحدث أحياناً، وأحياناً قد تلفت النظر، أن الراوي يلجأ في وصفه وتعبيراته إلى ضروب من المفردات الشعرية مما هو أدخل ببلاغة الشعر في الاستعارة "المكنية" كأن يقول "الشّمس تجلد الإسفلت الأسود بسياطها الوهّاجة" "ص 127" و "تشربت من أناملها أكبر متعة منحتني إياها لذة اللّمسّ طول حياتي" ص 170" و"تجرأ ضوء الشّمس.." ص 268" وأن "الكرة باركت قدمي بمس لطيف" ص155" وتتكرر "باركت" هذه ثلاث مرات على هذه الصورة.

هذه الاستعارات الشّاعرية يمكن أن تغدو خارجة عن اللغة السّلسة التي جاءت عليها الرّواية، ولقارئ أن يفضل خلو الرّواية منها لتحتفظ اللغة بانسجامها، وقد يستحسنها قارئ آخر يرى فيها شجنات نفسية في لغة المتكلم.

إن ما ذكره الدكتور الطّاهر كان معمولاً به في العمل الرّوائي العربي، ولو تصفحنا نتاج نجيب محفوظ على سبيل المثال لرأيناه يخلو من أي لفظة شعرية، فالرّواية عمل واقعي، وأسلوب واقعي، ولغة واقعية. ويبدو أنني خرجت قليلاً عن هذا المبدأ في روايتي "زنقة بن بركة" وربما في غيرها، باستعمالي لفظات شعرية فقط (لا أسلوب ولا لغة شعرية)، لكن مبادئ الطّاهر تعرضت للإهتزاز في وطننا العربي، فقد جاءت أحلام مستغانمي بما لا يغتفر في نظر الطّاهر، لتفتح الباب على مصراعيه لمبدأ التّلاعب بالكلمات والتجريد والرقص على المعاني، وقد تناولتُ تجربتها في مقالة طويلة في جريدة الزّمان اللنّدنية.

نجد من أدبائنا الشباب "المواصلة" من يلجأ إلى أساليب مختلفة تماما عن الشائع للوصول إلى شيء جديد وإضافة إلى د عمار هناك أديب رائع مهمّ هو بشار عبد الله سار على نفس النهج في عمله المهم: من يسكب الهواء من رئة القمر. الذي صدر عام 2007

ما لفت نظر د الطاهر في زنقة بن بركة هو الحد الأدنى من التجريب في السردد القصصي، ولعل المرواتي عمار وأحلام مستغانمي وبعدهما بشار عبد الله قد بلغوا حدّاً كبيراً.

سنتوقّف قليلاً مع عمل د. عمار على سبيل المثال، وخاصة مع الاستهلال المفاجئ الذي يطالعنا في مرواة (علي بالقوس إذا أيتها الجوائح):

هو الذي كاد يرشق أمانيه بحفنة وهم، لعلها رغبة منه في أن يثأر. مع يقينه التام بأن ما حصل لم يكن سوى عثرة عابرة، على طريق نيسمي، حيث الحذر وقود أوحد، والتوغل والتراجع مثل الحد الفاصل المتمنى بين صوت مرشوش وأقدام تتحسس.

تلعب هذه الفقرة بالكلمات بشكل يجعلنا نتريّث طويلاً لنصل بعد إتعاب أذهاننا في قراءة ما بين السّطور إلى أن هناك ملابسة تعتمر رأس البطل في مسيرته المريحة "نيسم" تجعله يفكّر بحذر شديد، يتساوى فيه الإقدام والتراجع الخ.

ولو كان المرحوم الدّكتور الطّاهر حيّاً ووقعت بين يديه مرواة د عمار، لما قرأ أكثر من صفحة واحدة ورمى الكتاب، فهو كما أسلفنا ضد التعبير الشّعري، والفلسفي، والذّهني في القصة والرّواية، فماذا كان سيقول عن المرواة؟؟ لأن جيلنا نحن يعتبر الرّواية صفحة سهلة لا تتعب الذّهن ولا تحتاج إلى قواميس دقيقة، لكن ما العمل؟ هل نبقى أبد الدّهر أسيري الأسلوب الواقعي؟

الجواب تأكيدا ...لا، فالتجديد واجب، وعلينا أن نقبل به، ونستقبله برحابة صدر وذهن، لكن هل الأمر بيدنا؟

إنّه بيد القراء، القراء الذين اعتادوا أن يكون الأسلوب سهلاً بسيطاً محكماً، أما إن كان عميقاً يغوص في أعماق المعاني بحيث تضيق به الكلمات فلا.

لنقرأ المزيد: هو العازف، العازف عن أي شيء، المنفذ لمخيلات قصيّة.

هذه هي الكتابة التي تثير الأسئلة، فكلمة العازف الأولى مهنة البطل لأنّه موسيقي، والعازف الثانية هي صفة خلقية له وفي الجملة جناس بين الابتعاد والاقتراب في التّنفيذ.
هنا يعود كأحلام مستغانمي إلى المحسنات البديعية ليختار منها ما يلائم عمله، وحينما يقول: كان عازفاً في رعيل الكمانات المنهمكة بموسقة ما ينزّ من القلوب. لجأ إلى الرّمز فبدل من أن يقول الألم قال "ما ينزّ من القلوب."

حسناً لنرى هذه الجملة: أي النوافذ الغارقة بدفء يفوح، (ينوّم) تلك هذه العيون، عبر مسافات باردة وتلتقي في أمكنة ما، في مجرة البرد والقطن.

هذه الجملة جملة شعر حديث، لا علاقة لها بالرّواية والقصّ مطلقاً، فالرّائحة تفوح لا الدّفء، الدفء ينتشر، وإن كان البرد قد استحال إلى مجرّة لقسوته، فالقطن بعيد عن هذا، ولا تآلف بين هذه الكلمات سردياً سوى وشيجة الشعر.

ومثل هذا الحكم ينطبق على ما يأتي:

بصوت فاحم صباحاً: قد تثلج.

يخرج متأبطاً البرد، ويهش عن رأسه حلماً نابتاً.

ينزف من ذاكرة جريحة أوهامه المترامية، وهو يشحط العائلة و..و.. و

إن ما ذكره عمار مهم جداً،

ليترك جمعة "الخضر" للخضرة المزينة بأرداف النساء و الخ.

ليسلخ في كل سحبة قوس يوماً خارج العمر.

ذاب يقينه في نهار حائر.

عودي أنا المصنوع من خشب السيسم المنقوش بآهاتي وخصوصيات ساعات اختلائي به.. الخ. إن هذه الصياغة نادرة بل فريدة .

كان حلماً أثث إغفاءة قصيرة

في غرفتي التي تعج بحيرتي أو بحزني الحائر.

فمن هذا الذي ظهر واختفى بسرعة وميض تاركاً في هذا الاضطراب والحزن الشائكين

ما ذكرته أمثلة اخترتها لا على التعيين ولم تكن منتقاة، ولو أردت أن أذكر كل شيء لتوجب عليّ نقل الكتاب كلّه، لكن عليّ أن أقول إن الذي انتهى إليه د عمار ظاهرة صحيّة مقبولة لا منبوذة، لابد منها لنخرج بأسلوب نثريّ جديد، ربما يساعدنا في المستقبل على تخطي السّرد الواقعي إلى آخر ذي ميزات أفضل، وإلى ذلك الحين سيبقى سرد عمار يحفر في ذاكرتنا وعياً مستقبلياً نحن في أمسّ الحاجة له.

 من كتاب بي- آبو- نان.. والجوائح/ مرواتان- دار الحوار، اللاذقية، سوريا 2011، وتاريخ كتابة هذه المرواة 1994- 1995


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى