الأحد ١١ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم كريمة الإبراهيمي

قمر..ونسـاء..

على الضفة الأخرى للفرح كنتُ أحلم.. أشرع أبواب الآتي وأقرأ تفاصيل صدقكَ في يدي..يوم قالت لي عيناك ويداك الدافئتان تضمان يدي:ستبقين عبق أيامي وأجمل أحلامي على الإطلاق..

وامتد القمر الأزرق في عيني جسرا..كانت المدن الملونة تركض على حواف الجسر ويتطاير زهر الياسمين وكنتُ أصعد حتى ألامس السماء..وينتابني شعور بالفرح وأنا ألتقط النجمات من فضاء بعيد وأنثرها فتتحول إلى فراش مخطوط على الأرض..وأستفيق من الحلم وإذا أنا مرة أخرى مع الحزن..

مع عُمْرٍ أطفأته في لمسة قمر..يغزوني الحزن كعادته ويعيدني للسؤال ذاته: لمَ حدث كل هذا؟.

يوم تعرفت إليكَ كنتُ قد استعدتُ وعيي على سرير في المستشفى حيث عيناك ضمتا جسدي الممدد أمامك وابر –الصيروم- تزين ذراعي..لم أقل شيئا، فقط كنت أبكي بمرارة..كانت ذراعي ملفوفة في قماش أبيض..رايتك تبتسم وشفتاك تتحركان( أية كلمة تلك التي قلتها فسمعتها بإحساس أنثى فشدتني إليك عمرا آخر؟) كنتُ قد بدأت أنسى ماذا يعني الحلم..

ألغيت كل تصوراتي عن الرجل في وطن لم يقتلنا إلا رجاله، ولفني الصمت في ثناياه..تركتني الأشياء وتركتها..بدأت أتعلم كيف أعيش بلا أشياء وبلا حلم..وبلا أحد كنتُ( وكم كان بردي كبيرا يوم فقدتك..وحدتي الآن تؤكد لي كم كنتَ تعني في حياتي..).

يا قمري المكسور..يا غيمتي الدافئة..لمَ كل هذا الغياب؟رُد لي سحرك وأعدني إلى دهشتي بك يوم كنت وحدك سيد أيامي وأنت تغسل وجهي بضوئك وتزرع بعيني ألف حلم قابل للحياة..(كان كل الحكايا وقمري الأزرق وبقية اللمسات الناعمة وهو يدخلني صدره وإذا القمر ثالثنا وهو يضيء المكان..كم هو قاتل صدق الرجال حين يطعنون ببراعة..).

غاب قمري يوم دمرتُ حياتي بين يديه..سلمته مفاتيح ذاكرتي وأنا أبعثر خلفه ما تبقى من أيامي بعد أن أطفأ الرعب كل أقماري وناء علي الصمم( كان الحلم كبيرا..وكان القلب يركض معك على روابي زمن أخضر..لكنك خذلتني كعادة كل الرجال حين يستبيحون أفراح النساء بعد أن يسلبوهن آخر فتائل الدفء..).

يومها كنتُ أملأ ذاكرتي بقصص الأبطال وأنا أراه بعيني وطنا بعد أن صار الوطن نارا لا تنطفئ..كنتُ أستعيض بهمسه في أذني بأنه يحبني-بصوت لا أسمعه- عن صوت الرصاص وسيارات الشرطة والإسعاف كلما وقعت مجزرة..كنتُ أنسى في شفتيه طعم المرارة والملح الذي يسد حلقي كلما رأيت الدم قد اجتاز ضفة المطر وغطى الشوارع( ما كنتُ أدري أنك كنت تخدر حواسي لئلا أكتشف وجهك..وما كنت أدري أن الرجل في هذا الوطن يشبه آلهة الأساطير..مجرد اله مزيف..).

علمني ألا أضيع أحلامي وهو يردد لي ما قاله-دي نيرفال-" الحلم شكل آخر للحياة" وصدقته..مازلت أذكر تلك الليلة..يومها غاب القمر والعاصفة تهز المدينة..الكهرباء أيضا لم تصمد في وجه العاصفة فخلفت المكان للظلام..يومها رأيت جسد أخي الممزق..كان رأسه المقطوع يغرق في دمائه وعيناه الدافئتان غائرتان، ظلوا يترصدونه ثم أهدوه رصاصة ونكلوا به..كان صديقك..أذكر أنكما تخرجتما في اليوم نفسه من مدرسة الشرطة..ويومها تعرفت إليك..(كم هو مؤلم موت الذين لم نتوقع موتهم بسرعة..وكم يتركون أعماقنا جافة وباردة).

موت-يوسف-تركني مشلولة..وصماء..كان عائلتي كلها..وصرت بلا أحد..ذابت أزمنتي كلها في لحظة حزن كاسر..شعرت أن العالم قد انتهى وانتهيت معه..هاجمني الألم دفعة واحدة فسلبني رغبة الركض في جداول القمر الأزرق وباتت كل أشيائي صامتة..

سكنت عالما آخر، تتحرك فيه الأشياء دون صوت..سكون تام أنساني مع الأيام أنني موجودة..شعور بالخوف يملؤني كلما أظلم الليل فأتصور–أغوالا-تفاجئني لتلتهمني وأشعر أن كل ما حولي يتربص بي وأنا أغرق في صمتي الكبير..تذكرت كيف قضوا أعمارهم أولئك الذين حرموا نعمة السمع..وغرقت في عزلتي وصمتي..اختصرتُ أيامي في الكتب نهارا وفي القمر ليلا..أقرأ عن الأبطال وحين يبزغ القمر أجلس لأتأمله وأسافر في ضوئه إلى جزر بعيدة ومدن أجمل من التي أقرأ عنها في الكتب..

القمر..وصمتي..و أيام ترحل(لم لا أنسى أنك كنت جرحي وخيبتي الكبرى؟ لم لا أنسى أن الرجل لم يتعلم بعد كيف يحب في هذا الوطن؟).علمني القمر أن أنسى وحدتي بعد أن ألفته ولم يعد لي سواه..

كنتُ أحدثه لساعات وكان يسمعني وأشعر أن ضوئه يمتد ليلامس قلبي..وأسافر فيه إلى آخر حدود الشوق ويتحول تدريجيا إلى طائر أبيض يحلق بي في أجواء بعيدة..أعادني القمر إلى أمنياتي الطفولية وأشيائي الصغيرة..جعلني أضحك من جديد كلما امتد بصري إليه فإذا به يعاتبني بصوت دافئ: لم تأخرت في الحضور.؟( لمَ لمْ أكتشف يومها زيف تعاليمك وأنت تحدثني عن الحب والأفراح القادمة؟ لم صدقت كلماتك وأنا أدري أنها تجرني إلى غابة شوك قاتل؟).
ووقفتَ أمامي..أقسمت لي بحرارة أنك ستحبني الحب كله، وأن ما حدث لم يغير من حبك لي شيئا..

توسلتني وأنت تقرأ على شفتي شعرا وتنثر بلمساتك على يدي وردا..وأخيرا صدقتك..وتزوجتك..

تصورتك بهدوء-يوسف-ودفئه الكبير..تصورتك نسخة عنه وأنا أذوب في صدرك..صرت قمرا مشعا
بعيني وأنت تزرعني في قصة حب جميلة(ما كنت أدري أن مبالغة الرجل الكاذب في الحب دليل على أنه يخون وبإصرار..وما كنت أدري أن قبلاتك كانت سما تذيعه بشفتي لئلا تستنطقك فيبدو وجهك المخادع).

يوم رأيتكما اكتشفت كم كنت تخدعني وكم كنت أصدقك بغباء أنثوي..كانت صديقتي وكنتما في سريري..صمتتْ..وحاولتَ أن تعتذر وتبرر..يومها لم تثرن لمساتك وأنت تحاول أن تستبقيني..كانت

أصوات كثيرة تملأ رأسي..شيء يشبه البرد طغى على جسدي وكنت أبكي..طلبت إليك أن توصلني إلى بيتي..لم أكن مستعدة لأكثر من الصمت( كم كانت الطعنة قاتلة وأنت تبدي لي وجهك الحقيقي..وكم كنت حزينة..).

وجدتني مرة أخرى مع الصمت المخيف وبكاء مُر في صدري..حملت نفسي إلى الشرفة..كان القمر شاحبا..حدثته طويلا لكنه هذه المرة لم يسمع حديثي..ظل صامتا كأنما أصابه الصمم الذي ناء علي..صرخت به ، لم تركتني أصدق أحلامي؟ لمَ لمْ تكشف لي كذبه؟ لم تركته يخدعني ووحدك تدري كم كنت أحبه؟ ولم أنتبه إلا وأنا آخذ شيفرة حلاقة وأمزق شرايين يدي بحقد..

حين رأيتكَ وأنا على سرير المستشفى، كنت ضائعة في الفراغ وأنت تبتسم بدفء..كتبتَ على ورقة جملة ووضعتها أمامي: لستِ وحدكِ..سنموت معا إذا كان لا بد من الموت..ومرة أخرى نسيت خيبتي

وتبعت القمر..تلاشيت كدخان في حفلاتك كل ليلة..الموسيقى والكؤوس ونساء نسيت أشكالهن وألوانهن

ونسيتُ معهن أيامي وغابت كل أقماري..قلت لك يوما:تعبت من السهر وكل تلك الوجوه..قلت لي: عليك أن تحبي عالمي ما دمت تحبينني( هل أحببتك أم فقط كنت أهرب فيك لأنسى.؟وأنت تراك أحببتني أم هو فقط شعورك بأنك قمر يضيء درب كل النساء ثم يمر على جثثهن ببرود كبير؟).

أدري أنني دمرت حياتي يوم قبلت بزوجي الأول وما كنت أدري أن ذاك الدمار كان كافيا لتدمير كل ما سيأتي..أقلب صفحات الكتاب وأقرأ ما قاله –كافافي-:" ألا ترى أنك يوم دمرت حياتك في هذا المكان، فلقد دمرت قيمة حياتك في كل مكان آخر على وجه الأرض؟".

يبكي القمر في داخلي..وأهرب إلى المزينة لتجعل مني دمية زوجي التي يقدمها كل سهرة لوجوهه على كرسي متحرك..يحدقون ويتكلمون لكني لا أسمعهم وأكتفي بابتسامة صامتة تبدو على وجهي وانسحاب من القاعة.

يرقصون ويترنحون وأبقى وحيدة مع الكرسي المتحرك..أهرب إلى الشرفة..أهرب للقمر..ووجها لوجه ألتقي بك..شفتاك غارقتان في صدرها..كان القمر مضيئا كشف لي وجهيكما..

كان القمر مضيئا جدا في تلك الليلة..أدرت الكرسي لأعود إلى القاعة..أمسكتَ بالكرسي وأدرتني إليك..كان وجهك غائبا..قلت أو توهمتك تقول:لقد توهمتِ..لم يحدث شيئا..قلتُ لك: لمَ تبرر لي وأنا لم أتهمك بشيء؟.

قطعت الصالة..لم يتوقفوا عن الرقص..لم يشعروا بوجودي..وصلت إلى باب الشقة وانتبهت خلفي..كان كل شيء غائم في عيني، تمنيتَ في تلك اللحظة لو أنني أيضا لا أرى..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى