الاثنين ٧ نيسان (أبريل) ٢٠٠٣
قصة قصيرة
بقلم رانيا السلعوس

أنا لها يا أبي

لم يصدق ما سعمت أذناه ، ربما ترتبت الحروف و تشكلت الكلمات بطريقة خاطئة.....، أو ربما أخطأت هدفها ، بل ربما كان مستغرقا في أحلام اليقظة في أحلام اليقظة ...،

لكنه سمع الجندي يصرخ : " باسل " ، فهب واقفا و كأنه يستند الى زمبرك أفلت لتوه ، تابع الجندي : " افراج ، هيئ نفسك ، ثم راجع قسم الأمانات " ، ...... لم يتمالك نفسه فخر ساجدا يشكر الله على نعمائه و آلائه ، ثم اعتدل قائما بعد أن ترك على الأرض دمعتين سكبتا من قلب حائر لا يعرف بماذا يشكر ربه ، بعد أن انعقد لسانه عن الكلام.

التفت الى اخوانه و رفاق دربه الذين احتضنوه في ذلك السجن الذي يتلون فيه النهار الى سواد قاتم... و يشتد فيه سواد الليل حلكة ، .... تعانقت الأجساد ، و تشابكت الأرواح، و جادت المآقي بدموع غزيرة صادقة.

أعد حقيبته ... فوضع الملابس ، و حمل البطانية ، ثم وقف ليلقي النظرة الأخيرة ، .... لكنه حدق واجماً في صديق وحدته ، نظر بدقة الى " عامر" ....لقد تأثر بما رأى ، و تحركت عواطفه ثائرة هائجة، فقد كان يرتدي ملابس بالية، تعددت الخروق فيها ما بين صغيرة و كبيرة ، فألقى ما بيده : " خذها ، قد تحتاج اليها " ، التقت نظرات عامر بنظرات باسل ، فعرف الأخير بأنها نظرة شكر و عرفان .
خرج من السجن بعد مروره على قسم الأمانات ، شعر كأنه طائر يحلق في صفحة الأفق ، يريد أن يسابق الزمن ، فيصل الى بيته في أقصر وقت .

أشعة الشمس الربيعية أحاطت بجسده لأول مرة بعد مدة تجاوزت السنتين ، فكانت كفيلة بإنعاشه... تنفس مرة تلو الأخرى هواءً عليلاً و نسائم لطيفة صافية ... ، كان يظن بأنه يستطيع أن يستنشق الهواء بلا زفير،...تمعن بالنظر الى أزهار البنفسج و شقائق النعمان الربيعية في السهل الأخضر المبسوط الى مد البصر ، فغدا كفراشة تكتب ملحمة شعرية في حبها للطبيعة و عشقها للحرية، استحث خطاه على المسير ، فقد اقترب من قريته التي فيها ولد ، و فيها لعب ، و فيها كبر، و من مسجدها سيق الى السجن .... كانت الرجل تسابق الأخرى ، حتى أنه تعثر عدة مرات في طريقه ، لكنه لم يشعر بالعثرات لأن أفكاره كانت تتجول بين أسئلة كثيرة :
كيف سألقى أمي؟؟
و كيف سأحتضن أبي؟؟
هل حضرت أخواتي مع ألادهن و أزواجهن ؟
و خالتي أم أحمد ... لا بد و أنها ستزعق بصوت يصل الى أبعد بيت في القرية..؟؟

و بينما هو يرفل في تلك التخيلات الجميلة هاجمته تنهيدة حزينة..، و قال: " انه سيكون عرس بلا عروس ، تباً لأولئك الأوغاد لو لم أكن أسيراً عندهم لأنهيت دراستي الجامعية ، و لكنت الآن في عداد الخريجين و العاملين في حقل التعليم، لأساعد أبي " .
تنفس الصعداء: " أبي الذي تشهد كل شيبة في رأسه على مسيرته الصعبة، على حياته التي لم تبخل بالتعب ، آه ... كل شيبة تحكي قصة من قصص عنائه و تجلده ، أو تكتب شعرا لحّن على قيثارة الحزن و الأسى، كم يحترق قلبي لأني دائم التذكر لتلك الحادثة "

كان يسردها و كانه يحدث أحد أصحابه : " عندما أبى الا أن يبيع كل اللبن و البيض و خروفاً صغيرا في القرية المجاورة، ليوفر لي قسط الجامعة ، خرج و صوت الصهاينة يدوي في كل مكان " ممنوع التجول " ، لكنه لم يسمع كلامهم ... فركله أحد الجنود على رجله ، و ضربوه بأعقاب البنادق على ظهره و رأسه ، فعاد الى البيت مطأطئ الرأس ، مهلهل الملابس ، دموع القهر في عينيه...، ثم جلس قرب الكانون و أقسم أن يبيعهم في اليوم التالي و إن عاد محمولاً "

بدأت ملامح القرية العتيقة تظهر شيئاً فشيئاً ، استحث خطاه على المسير، أصبح على عدة أمتار من البيت : " هل علم أحد بقدومي " ؟؟

دخل البيت التفت الى أبيه حيث يجلس، و صرخ بصوت عال : " ها قد عدت يا أبي " ، ...لكن الأب ما زال جاساً ، و كل شيء فيه هادئ ساكن ، فما سلم من سكونه إلا تعابير و جهه ، انهمرت الدموع من عينيه سخية ، و فتح يديه : " تعال....تعال حتى أضمك فيرتوي صدري بما افتقد " ، انكّب باسل عليه : التحم الجسدان كأنهما جسد واحد ، و لم يدر باسل من أين يقبل أباه:

أمن وجهه البشوش الذي ملأه الزمان بخطوط متعرجة فلم يرحم شبابه المتأخر..؟؟
أم من يده الخشنة التي تراكم عليها غبار الزمن؟؟
أم من كتفيه اللذين تعبا دون ملل من حمله في سنيّ حياته الأولى ؟؟
أم أنه يبقي رأسه على صدر أبيه ليدغدغ أنفه برائحة الأبوة الحنون ....؟؟؟؟

هدأ الجسدان بعد موجة من العواطف الهائجة، و المشاعر الصادقة ....، التفت باسل حوله ، نظر مليّاً ... بحث عن (روحه التي تسكن في جسد آخر) ، ثم سأل : " أين أمي" ؟؟
أطرق الوالد رأسه : انها تعمل في الحقل يا ولدي من فلق الصبح الى الغروب، و يساعدها اخوانك بعد عودتهم من المدرسة " . " و أنت يا أبي ماذا تفعل " ؟؟
أجاب وقد ارتوت لحيته البيضاء بقطرات الدمع الساخنة... و نظره شاخص الى رجليه نظرة قائد مهزوم ، و ضعيف محروم : " لقد حرمت الحركة " ثم أجهش بالبكاء وهو يتلعثم : " أنا ...أ أ أنا مشلول يا باسل، و لا أتحرك الا بهذا الكرسي " .

لم يدر باسل ماذا يقول .... أحس بالضعف .. و غادرت من فمه الكلمات ، استجمع قواه و اقترب من أبيه ،هزّ كتفيه : " لكنك ما زلت قويّا ًيا أبي تمتلك الارادة و روح الشباب "، ثم احتضن أباه :
" لقد أعطيت في حياتك دون انتظار البديل...، استنفذت طاقتك في العمل من أجلنا " ثم نظر الى عينيه : " عشت كل حياتك كما الأسد في الشجاعة و القوة ، ثم أبيت الا أن تمنح هذه الصفة لأبنائك، علم النّاس يا أبي كيف تصنع الرجال..."

وقف باسل و رجلاه تكادان لا تقويان على حمله، نظر من النافذة الى التلّة المقابلة ، و سبحت في عينيه الواسعتين دموعاً مالحة ، ثم حدّق في زرقة السّماء: " دخلت السجن فتىً قاصراً...، و خرجت منه رجلاً مسؤولاً.... كثيراً ما حلمت بالجامعة ، و عقدت الأمل بأن أكون أول شاب يتعلّم في العائلة، فتلونت الأحلام باللون الأسود ، و تحطمت الآمال على صخرة الآلام ... وتوقفت الطموحات عند حواجز الأمر الواقع ، فأصبح التهرب من المسؤولية عاراً ، و التفلت منها كارثة، آه.....، فأمسيت حرّاً أسيراً ،
لكنّني سأشمر عن ساعديّ : فأحمل الفأس مرّة...، و المعول مرّة، مع شدة الحرّ و حدّة المطر، .... سأدع العواطف جانباً لأبدأ من جديد .... وأحرق الكسل بنار الجدّ و نور الاجتهاد "

أدار باسل بوجهه الى أبيه :
"أنا لها يا أبي "


مشاركة منتدى

  • (افضل مايفعله الانسان ان يحيل اوسع تجربة ممكنة الاى وعي) بطل رواية الامل مالرو.

    مايجمع الزنزانة والبيدر هما اختبار الارادة.

    لقد تعلق قلبي يا رانيةالسلعوس بزميل الزنزانة ولم يغادرها.

    فانا اشعر به وباحلامه اكثر من باسل.

    هت يمكنك ياانسةرانية ان تصفي ملامح المنزوي في زنزانة او اي مكان من عالمنا المعتم رغم الشمس والقمر

    اهنئك على هذه المحاولة الناجحة

    اكتبي ففي الكتابة تنبت اجمل زهور الحياة مانحة عبيرهابلا حدود حتى للموتى.

    عرض مباشر : وطن جميل

    • الفاضل عمران ..
      أشكرك جداً لأنك تذوقت طعم كتابتي ... قصة باسل قصة حقيقية ... وهو حي يرزق

      عمران
      أنا كتبت رسالة أدبية معبرة عن السجن و جلاّديه ،عن الوحدة، عن القسوة ، حتى عن تشقق الجدران مع كل ضربة سوط على الجسد الرافض للذل..و الضرب و النتكيل ،
      عن الهروب من الظلام الى الظلام ،عن الشوق الى الحرية ، و بناء وطن في قلب الأسير ،وكيف أنه طور البدائل ...

      ان كان لدي المزيد من الوقت سأرسله .. كي تعيش السجن ثانية مع أحد الأبطال.

      (اهنئك على هذه المحاولة الناجحة)..وأنا أشكرك على لطيف تعبيرك،و حسن تشجيعك ، فأنا أنمو و أتغذى،ومن آراء القرّاء، ومن كل نقد بنّاء.

      رانيا

    • العـزيزة رانيـا..
      نصك يحمل من الألم والمرارة الكثير..
      يختصر.. بل ربما يبحر بنا في محيط نسمع عنه ولا نعيشه.. بصفتنا مغتربين..
      السـجن للرجال.. لكن السجن يكسر ظهور الرجال..
      ذلك الرسم لصورة السجن والسجين.. رفقة السجن.. يا إلهي!

      عنـدما قلت إن القصة كتبت منذ أمد بعيد.. أدركت أنك تحملين المزيد.. وأن المسـتوى الذي ظهرت به هنا أضيف إليه المزيد..
      في انتظاره!

    • عزيزتي أمل : هذه القصة من ابسط القصص التي يمكن لك أن تسمعيها في المجتمع الفلسطيني الذي يحمل من الآهات ما لا تطيق العين قراءته أو الأذن سماعه ...و الصدر احتوائه... هناك القصص الكثيرة المركبة و المعقدة.

      أمل ...أشكرك لكلماتك اللطيفة التي اخترقت الأعماق.

      و شكرا لكل المداخلات و الآراء حول ما كتبت .

      رانيا

  • نشد على يديك يا رانية ونتمنى ان تتحفينا بقصص اخرى توضح اوضاع اهالي شهداءنا ومعتقلينا
    نريد سحر خليفة اخرى في فلسطيني فهل نأمل منك خيرا

    • الفاضل عباس سرحان :
      أشكرك على تشجيعي ... وآمل أن أكون نجمة في سماء فلسطين... تفتخرون في وجودها ..و تكون هي دائمة التعطش لملاحظاتكم البنّاءة ...

      كم أنا محظوظة لأني مع أناس ينقدونني بصدق... و يساعدونني في توجيه بوصلتي نحو الاتجاه الصحيح.

      عباس :
      تذكر أنه كلما شددت على يديّ أنت و غيرك كلما شعرت بثقل في المسؤولية ... و جدية في تحمل الأمانة.

      رانيا

  • الفاضلة رانية

    قد اقرا قصتك اليوم بشكل يختلف عما لو قراتها قبل يومان او قبل سنوات. فلكل قراءة احساس مرتبط زماكيا.
    لم اعرف ماكان الحدث(فلسطين العزيزة وضحيتنا الاولى)الا من خلال مفردة الصهاينة وممنوع التجول.
    فقصتك تصلح لكل الخارطة العربية.اما منع التجول في باقي البلدان فهو غير واضح لااندماجه كامر مالوف غير معلن في حياة ناسنا الغنائم اما في فلسطين فالياس والخيبة ضعيف جدا قياسيا بالنظام العربي ورعاتهز
    فيا رانية فالمناضل الحقيقي سيكون عرسه بلا عرس فقط حين يبقى بالسجن فبعد السجن لامحطة اخرى للانهيار,فاعراسنا خارج السجن تحولت مثل نهاراتنا الى سواد قاتم.
    قصتك يارانية رائعة رائعة لان فيها قليلا من امل لاطعم له في زمن القحط الانساني.
    قليلا من الامل* فان تشعل شمعة خير من ان تلعن الظلام*.

    اسف لان اقول لك ان شوبنهاور هو سيد فلسفتنا الحياتية

    بوركت على قصتك في زمن الهزائم والاذلال
    كي يبقى الامل في قصتك ذيخيرة نعود اليها وقت الحاجة

    • الفاضل عمّار : لا أنكر أنّي وقفت طويلا على كلماتك ...و لا أنكر بأن طريقتك أيقظت دمعة مختبئة في دفائن عيني عمرها سنوات طوال .. لأني قررت ألا أبكي منذ زمن .. أشكرك عمار لأن الدمعة التي نزلت أسقطت معها بواقي الضعف و منحتني القوة ..

      أتدري..؟؟
      لقد دعوتني بهدوء لم أتوقعه بأن أقرأ قصتي مرّة أخرى بطريقة مختلفة .. قرأتها هذا اليوم غير قرائتي لها قبل 6 سنوات عندما كتبتها حيث كانت أول محاولة لي في كتابة القصة القصيرة ، لديك عمق بالتفكير دعاني لأن أفكر في الأبعاد الثلاثة لأي موضوع ...

      عمار ..
      الأمل هو الوقود الذي بقي لنا لتسير مركبة حياتنا .. و أشكر الله على ما أعطانا من فسحة الأمل ليوسّع علينا ضيق العيش و ضنك الحياة...

      عمار...
      كم سأعود أنا لكلامك حتى أنهل منه وقت الحاجة ، و أقوى به عند الضعف ، و لأستزيد عمقا على عمق..

      أنتهي من حيث ابتدأت .. لاأنكر بأني وقفت كثيراً على كلماتك

      أشكرك...
      رانيا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى