السبت ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم محيي الدين غريب

المحاكمة 2

اليوم هو موعد لقائى مع صديقى مسيو جاك، ولقاؤنا هذه المرة فى مسكنه الأنيق الذى يقع على أطراف المدينة ويطل على مناظر طبيعية خلابة خاصة فى هذا الوقت من العام. لذلك فضلت الذهاب إليه بالقطار لتكون الرحلة نزهة للأستمتاع وأيضا فسحة للأسترخاء الذهنى استعدادا للمناقشة معه.

تحرك القطار متسللا فى بطىء وكأنه يحاور ضوء الغروب الذى بدأ ينحنى فى هدوء على كل شيئ، وشعاعات الشمس هى أيضا تنسحب الواحدة تلو الاخرى فى لوحة رائعة، ومع مرور الوقت خفت الضوء شيئا فشيئا ووجدت نفسى متأهبا للنزول من القطار ومنه ترجلت حتى مسكن مسيو جاك الذى قابلنى فى البهو المطل على الحديقة، وكعادته ربت على كتفى ورحب بى بحرارة صادقة.

سألته عما يقرأ هذه الأيام فأشار إلى كتاب صغير وقال: أهملت قراءة هذا الكتاب لأكثر من 40 عاما دون أن أعلم أهميته. ربما لصغر حجمه أو رداءة طبعته، والكتاب يتناول الكلام عن المفكر الفرنسى دينيس ديدرو. فى رأى أنه من أهم المفكريين، ظهر فى أوائل القرن الثامن عشر وكان عميد حركة التنوير ومؤسس فلسفة التطور مائة عام قبل داروين ولامارك.

قلت: نعم أتذكر أننى قرأت عنه وله عدة موسوعات فى العلوم والفنون والصناعات، وساعده صديقه فولتير فى إتمام بعضها عندما صودرت لاحتجاج الكنيسة عليها.

قال مسيو جاك:كانت أفكار دينيس ديدرو من أهم المقومات وراء الثورة الفرنسية ولكنه مات فى سنة 1784 اعواما قليلة قبل قيامها. كما أنه أستطاع من خلال كتبه وفلسفته فى ذلك الوقت كشف الروحانية الزائفة والخرافات الجاهلة التى كان يروج لها ويباركها رجال الكهنوت، حتى أنه أودع فى السجن عدة مرات وأحرق البرلمان عددا من كتبه. كان ينفى وجود الشر والشيطان ويؤمن بان الطبيعة كاملة متكاملة.

قلت: أتذكر أننا توقفنا فى حديثنا فى المرة السابقة عما إذا كان الإنسان فى حاجة إلى الرجوع إلى الدين وماهى فائدة محاكمة الوسطاء من رجال الدين.

قال: الحاجة وكما تحمل الكلمة تختلف من شخص لآخر حسب الثقافة والظروف والمكان والزمان والتقاليد والمستوى الأجتماعى وما إلى ذلك، والمقصود من المحاكمة ليس المعنى الحرفى للكلمة ولكن المعنىى الرمزى لها، وبمعنى التحرر من هؤلاء الوسطاء. والأصح وهو المتوقع مع مرور الزمن أن تقل تلك الحاجة كلما تطور وتنور الإنسان وكلما حاول فهم الأله والتقرب منه مباشرة بقدرة ومنطق العقل ليحقق فى النهاية استقلالا نسبيا لوجوده يكمل به التجربة الإنسانية. وسيكون الأله فخورا بنجاح تجربته فى هذه المرحلة.

قلت: كأنك تدعو الإنسان أن يبتعد تدريجيا عن الأديان، كيف ذلك وأن الفكر والعلم يؤكدان أهمية وجود الأديان لما تعطيه من توازن وطمأنينة وأمان وما إلى ذلك.

قال: نعم أهمية كانت مرتبطة بزمن ومكان وقد تستمر بعض الوقت، ولكن الأديان السماوية بجميع وجوهها أخفقت أن تكون آصرة تربط جميع بنى الإنسان، فالتباين والتغاير والتمايز بينها إن لم يدل على تعدد الآلهة فهو يدل على عدم الكمال المطلق وبالتالى فهى لم تثبت وجود هذا الأله القادر على كل شيئ.

قلت: قد لا يكون الوقت قد حان للوصول إلى هذه الغاية، ومع ذلك فالأديان تدعو إلى التسامح والتراحم والأعتماد على وجود الخالق وقد علمت الإنسان الثواب والعقاب ونشرت مبادئ واخلاقيات وقيم إنسانية سامية على مدى آلاف السنين.

كنت على يقين أن مسيو جاك غالبا ما ينجح فى استدراجى إلى التفكير العميق أثناء المناقشة معه، وأستسلمت مسترخيا فى مقعدى استعدادا لذلك.

رد على قائلا: لا فى رأيى أن الوقت قد حان أن ندرك أن بعض الناس قد سعوا إلى خلق الأديان إعتمادا على تغييب العقل وإيهام الإنسان بقصورعقله فى معرفة الحقيقة لأنها تسمو فوق إدراكه، فجاءت الأديان تدعو إلى قبول كل ماهو كائن على علاته وجاءت متكررة ومتباينة ولاغية للتفكير.

بقليل من القراءة والتفكير نجد أن جميع قصص الأديان السماوية مستوحاة من عبادات سابقة.
فقصة الطوفان مستوحاة من الأديان القديمة فى الفرس والهند. وكان على ابراهيم الخليل ان يختار من بين ماهو موجود من المذاهب، بين أن تكون معرفة الله من خلال وسيط روحاني (الصابئة) أو من خلال وسيط جسماني من البشر (الحنفاء)، بحيث يكون ذا طرف روحانى عندما يتلقى الوحى وذا طرف بشرى إنسانى عندما يخاطب قومه، وقرر ابراهيم الاسهل وهو الحنيفية.

وقصة الخليقة فى العقائد الإسرائيلية الأولى تشابه الفارسية، وبدلا من ورقة التوت كانت ورقة التين، ومترا آله الفرس كان يحتفل بميلاده يوم 25 ديسمبر.

وكان الفرس يعتقدون أن زارادشت ولد من أم عذراء ونفس الفكرة كانت عند المصريين فكان الحمل يحصل عن طريق الاذن، وكان زارادشت قد أصطفاه الله أن يكون رسوله وكان يدعو إلى تحريم عبادة الأصنام ويدعو إلى الاصلاح. وان الإله هرمز خلق الدنيا فى ستة أدوار وأصل الإنسان بدلا من آدم هو كيومرث الذى قتل فى فتنة الخير والشر، وكان الشيطان أسمه أهرمن والناس محاسبون على مايفعلون وأعمالهم مكتوبة فى سجل محفوظ وتوزن الاعمال يوم القيامة.

يوم 25 مارس كان يتذكر فيه الرومان آلام الإله اميتس إله الرعاة المولود من نانا العذراء بغير ملامسة بشرية، وهو نفس اليوم الذى يحتفل به المسيحيون الآن بآلام المسيح.

وحتى العشاء الربانى كان معروفا فى عبادات المجوس ومعجزة المسيح تحول الماء إلى خمر أيضا مستوحاة من عبادات سابقة. وتوحيد أخناتون كان سابق لكل الأديان.

وقصص كثيرة مشابهة أيضا كانت عند الرومان والصينين. وكان كل ذلك كان قبل نزول الأديان السماوية جميعها. وهكذا نري مدى اجتهاد هؤلاء الذين اخترعوا الأديان حتى انهم أدعوا أن الأرض هى مركز الكون وأنها غاية الخلق والخالق.

كان لابد أن أستوقف مسيو جاك ليس فقط لكى أعطيه فسحة من الوقت لرشف بعض من قهوته ولكن أيضا لأفهم وأستوعب ما يقول.

قلت: إن التباين والتغاير والتمايز وحتى التكرار بين الأديان السماوية لايفسد المغزى وربما لحكمة ما لانستطيع إستيعابها وربما لعبر ومقدمات يمكن أن نتعلم منها ونتفحصها.

قال: لا أنا لاأستطيع فهمها من هذا المنطلق، إن الأله القادر على كل شيئ لابد أن يكون معقولا بعقولنا التى هى من صنعه، فنحن لا نستطيع أن نفهم أي شيء عنه إلا من خلال كون وجودنا، ولكن الاديان وبأسم الأله لاتقبل اى نقد لنقائص الحياة، ولاتقبل الشك بينما أن الشك سبيل الحقيقة واليقين، وترتضى اوضاع الحياة كما هى على علاتها لأشاعة التفاؤل الزائف بين الناس، وتوحى لنا أن كل شر مسخر لتحقيق خير أكبر لاندركه نحن البشر لبعده وسموه عن ادراكنا.

قلت: ربما أن الأله الرحيم القادر على كل شيئ أراد لحكمة ما أن يفعم الحياة بالشرور وبالقسوة والعذاب والآلام ولا يظفر منها الإنسان بأى خير إلا بالسعى الحقيقى والجهد كنبراس للعيش فى هذه الحياة.

قال:إن الاديان جاءت لتحرج الأله الرحيم، فالأله الرحيم القادر على كل شيئ إذا كان له أن يرتضى كل هذه الشرور والعذاب، فإما أنه محدود القدرة والارادة أو أنه منصرف العناية إلى أمور أخرى غير الإنسان.

فمثلا الطبيعة لم تعدل بين البشر فليس هناك تكافؤ طبيعى بينهم فى القوة أو فى الذكاء، لذلك تأتى القوانين المدنية الذى صنعها الانسان لتعوض هذا الأختلال فى التوازن لتساعد الضعيف والفقير والاقل ذكاء وهكذا، بينما الأديان تدعو إلى قبول كل ماهو كائن على علاته.

مر الوقت بعد أن تطرقنا إلى عدد من جوانب الحياة اليومية، قلت وأنا أهم بالوقوف: مسيو جاك أنا مضطر أن أتركك الآن ليس فقط لأن النعاس قد غالبنى ولكن لأن غدا على أن أقوم مبكرا لزيارة طبيبى الخاص للكشف الروتينى. تبادلنا التحية ووعدته أن نتناول فى المرة القادمة، ما إذا كانت عاطفة الرحمة عند الإنسان ترتبط بالعدالة والمساواة وإلى أى مدى؟.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى