الاثنين ٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم محيي الدين غريب

هكذا تكلمنا

«وطنى لو شغلت بالخلد عنه نازعتنى اليه فى الخلد نفسى» احمد شوقى

لم تكن دواعى التفاعل مع هموم الوطن الأم فى عمومها دوافعا قوية، فالحياة السهلة الصعبة والمشاكل التقليدية بجميع تناقضاتها فى بلد المهجر ساهمت لتطفئ وتضعف الكثير من دواعى هذا التفاعل.

البلاد الإسكندنافية ومن بينها الدنمارك ليست بصفة عامة بلاد مهجر بالمفهوم المتعارف عليه، فثقافة وعادات وتقاليد هذه البلاد تختلف إختلافا كبيرا عن ما هى عليه فى الشرق بل حتى عن ما هى عليه فى باقى بلاد اوربا. لذلك كانت هموم الإندماج فى مجتمعاتها من بين الصعوبات التى تواجه المهاجر، بجانب صعوبة اللغة وقسوة المناخ. ناهيك عن العداء والتفرقة من بعض فئات الشعب ومن بعض الاحزاب السياسية.

ومع ذلك فإن حب الوطن والولاء له كشعور فطرى غريزى كان لابد من الافصاح عنه كلما أمكن ذلك لأنه لا يكفى أن يكون مكنونا بداخلنا.

كان جيلنا هو الجيل الذى يمكن أن يطلق عليه الجيل الأول من المهاجرين إلى البلاد الإسكندنافية.، وقع على عاتقه مهام كثيرة ومسئوليات كبيرة. فهذا الجيل هو حلقة الوصل بين مجتمع الوطن الأم والمجتمع الجديد حيث تتصارع الثقافات والعادات والتقاليد صراعا خفيا، يهدأ أحيانا ولكنه ما يلبث أن يشتعل من جديد. صراع له اعراض ومواصفات لا يمكن الإستدلال عليها من خبرات سابقة، فالبلاد الإسكندنافية ليست لها دراية كافية فى هذا المجال مما أثقل الكثير على المهاجرين.

حلقة الوصل كان لابد أن تكون متواصلة وصادقة، وبنى على مصداقية هذا الجيل الأول العديد من الخبرات والمعطيات كان لها اكبر الأثر فى علاقات الاجيال اللاحقة، ليس فقط بالمجتمع الجديد ولكن أيضا بالوطن الأم.

الجيل الأول شكل قاعدة إرتكاز ومن هذه الجيل وبقدر ما تسلح من مبادئ وأخلاق وبقدر ما تفاعل فكريا وحسيا مع الغربة وبقدر ما إستطاع أن يتحرر من إرث الماضى والتعاطى مع الحاضر، خرج الجيل الأول والثانى.

الصراع كان مريرا ولا يزال فى محاولة ألا تتحول الغربة فى دلالتها العامة بمعنى تبدل المكان والمجتمع والثقافة إلى الإغتراب بمعنى فقدان الذات.

الصراع كان مريرا ولا يزال حتى لا تذوب الهوية ويخفت الإنتماء تجاه الوطن، وألا يكون المهاجر حاضرا غائبا أسيرا بين الماضى والحاضر.

فى الآونة الأخيرة ومنذ تسعينات القرن الماضى تردد فى كثير من الصحف ووسائل الإعلام على لسان الكثيرين من السياسيين والمثقفين فى الوطن الأم تشككهم الواضح فى صدق وولاء المهاجر ووطنيتة، وما إذا كان إنتماؤه حقيقيا وهو يعيش بعيدا كل البعد عن المعاناة وعن ما يحدث فى الواقع. وأيضا ما إذا كان له الحق فى نقد وطنه الأم من منظور خارجى أو التدخل فى شؤونه.

وتعددت واختلفت الاسباب وراء هذا التشكك، فإما لأن المهاجر لايعيش مرارة الواقع ويعيش فى برج عاجى، وإما لأنه لا يعرف الكثير من حقائق الأمور، وإما أنه عميل لإحدى القوى السياسية أو الدينية، او أنه يروج للثقافة الغربية. وهى اسباب بالقطع بعيدة كل البعد عن الحقيقة وتعد ظلما قاسيا.

والحقيقة كما عشناها قرابة أربعة عقود كمهاجرين هى حقيقة مغايرة تماما، فهموم الوطن الأم كانت وستظل تقبع على أولويات هموم المهاجرين، وهم يحملون وطنهم بين ضلوعهم ويحلمون به كل يوم فيفرحون لفرحه ويحزنون لحزنه ويتفاعلون مع مشاكله. وكأنهم هم المسئولون وهم المنقذون، يتوارون فى أحضانه كلما أحسوا بالقلق وكلما افتقدوا الأمان.
إن رؤية المهاجر قد تكون مختلفة عن المألوف وقد تتناول أمور الحياة من زاوية مختلفة، إلا انها رؤية واضحة وصادقة وهامة لأسباب كثيرة، من بينها ما يحظى به المهاجر من تعدد الثقافات نتيجة تفاعل الغربة روحيا وفكريا وحسيا ما بين الثقافة الشرقية التي نشأ عليها والثقافة الغربية. ثم تجربة حياته فى بلد ديموقراطى وممارستة لحرية التعبير واستقلالية الرأى، وتذوقه الحياة الكريمة الآدمية الآمنة. وحتى كونه يعيش فى برج عاجى بعيدا عن ضغوط الحياة. كانت كلها اسباب أغنت ورسخت رؤيته، لتجعلها رؤيه آهلة لأخذها فى الاعتبار والاستفادة منها عمليا فى أمور الحياة المختلفة، وأيضا الاستفادة منها فى حوار الثقافات والتقريب بينها.
لم يقصر المهاجرون سواء بأقلامهم أو بأفعالهم فى التواصل مع وطنهم الأم واستطاع الكثير منهم الإرتقاء إلى طاولة الحوار والمشاركة المسئولة لمتابعة ما يحدث هناك.

وهم فى محاولات دؤوبة لرسم صورة جديدة لمصرنا الحبيب غير تلك التى شوهها حكامها على مدى عقود، وإعادة بناء الثقة بينهم وبين الوطن الأم خاصة الجيل الثانى والثالث من المهاجرين، وجذبهم للمساهمة فى عملية التنمية والتبادل العلمى والتكنولوجى وما إلى ذلك.
بكينا كثيرا حتى أختلطت دموع الفرح بدموع الحزن، بكينا على مصرنا كلما رأيناها تنهزم وتتراجع بسواعد فاسيديها من أبناءها. وكم هو مؤلم ومهينن أن يشعر الإنسان بالخجل من وطنه الأم عندما يراه فى مقدمة البلاد الفاسدة الفقيرة الجاهلة.

كم هو مؤلم أن نرى أحفاد الفراعنة يتسولون فى كل بقاع العالم بعد أن لفظوا من بلادهم وبعد أن فشلت بلادهم فى تحقيق الاصلاح والديمقراطية وأصبحت مرتعا تنهب ثرواته ما بين الفساد الداخلى والهيمنة الخارجية.

الجالية المصرية فى الدنمارك لا يزيد عددها عن 2000 مصرى حسب إحصائيات 2007 (حصل حوالى 60% منهم على الجنسية الدنماركية) يمثلون فقط 3% من تعداد الجنسيات العربية الاخرى.

على مدى الأربعة عقود الماضية لم تكن علاقة الجالية المصرية والسلطات المصرية ممثلة فى السفارة المصرية فى الدنمارك علاقة عادية بل أقل بكثير من ذلك، فلقد كان فقدان الثقة متبادلا لأسباب كثيرة، والغالبية من المهاجرين لا تتعامل مع السفارة إلا فى أضيق التعاملات.
فى هذه الفترة تعاقب على الدنمارك أربعة عشر سفيرا كان من بينهم ضباط سابقون ودبلوماسيون بينهم اربعة سيدات.

كان واضحا حتى للسلطات الدنماركية أن معظم هؤلاء السفراء قد تعينوا فى هذه المناصب إما بالواسطة أو بالوراثة، فالأب والأم والإخوة والأبناء والأقارب جميعهم بالصدفة يعملون فى السلك الدبلوماسي. ولم يكن إلا أربعة منهم هم من كانوا سفراء دبلوماسيين شكلا وموضوعا، أما الباقون فكانوا مابين الهواة والمنتفعين والموظفين.

وكان هذا بالطبع يعكس حالة الوطن الأم التى تردت فى العقود الأخيرة، وانعكس ذلك على علاقة مصر بالدنمارك. ففى العشرين سنة الاخيرة كان حجم التبادل التجارى بين البلدين مختلا تماما، حيث وصل متوسط حجم الصادرات من الدنمارك ما بين 1985-2006 إلى سبعة أضعاف صادرات مصر إلى الدنمارك، ووصل فى سنة 2000 إلى 20ضعفا. كان ذلك بسبب الشروط القاسية المرتبطة بالدعم المالى الممنوح من الدنمارك لمصر والذى كان بواقع 3 مليمات فى اليوم لكل مواطن مصرى. (توقف الدعم المالى من الدنمارك منذ 2003).
ومقابل هذا الدعم الهزيل تجرأ بلد صغير مثل الدنمارك أن يتدخل بصلافة فى شئون مصر الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية، تحت مسميات حرية التعبير وحوارالحضارات والاصلاح الديمقراطى وما إلى ذلك، مستغلا هؤلاء من الفاسدين والمنتفعين وما أكثرهم هناك.

منذ سنوات تأسس المعهد الدنماركى المصرى للحوار DEDI ومقره مبنى جريدة الاهرام بالقاهرة بموافقة بعض المنتفعين، بهدف ظاهرى هو إدخال الاصلاحات الديمقراطية فى كافة المجالات وبهدف غير ظاهرى هو التغلغل داخل المجتمع لمحاربة الارهاب، وبميزانية تصل إلى 100 مليون جنيه، وكأنها عودة لزمن المندوب السامى.

هذا الكتاب يحتوى على بعض من المقالات والخطابات للكاتب فى تسلسلها التاريخى أرسلت إلى العديد من المسئولين وإلى الصحف المختلفة، كردود فعل ازاء المواقف والأزمات السياسية والاجتماعية المختلفة على مدى أكثر من ثلاثة عقود. ذلك بخلاف المقالات والخطابات باللغة الدنماركية والإنجليزية.

ربما أكون فى سطور هذا الكتاب قد أفرطت بعض الشيئ في التشاؤم وأغلظت النقد واللوم، وربما أيضا أكون قد جنحت بعيدا عن الايجابيات، ذلك لقلة هذه الايجابيات وفرضية وجوبها. ولكن من المؤكد أن كل ذلك كان بدافع حبى لوطنى الأم وغيرتى عليه.

ولاشك أن هناك العديد من أقلام المهاجرين المصريين فى الدنمارك كما فى جميع أنحاء العالم والمئات من الأبحاث العلمية ساهمت أيضا فى العطاء والمشاركة من أجل الوطن الأم


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى