السبت ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم حميد طولست

التبركيك والفضول «وقلة الشغل»

النقد البناء المبني على أساس الاحترام وعدم قذف الكلام جزافاً وعلى هواهنه، هو ظاهرة صحية الغاية منها لفت نظر الشخص المنتَقد إلى خطأ ارتكبه أو فكرة فاتته أو تعارض وجهة نظر الناقد معه حول أمر ما، مع الحفاظ لكل طرف على وجهة نظره الخاصة المنبثقة من درجة ثقافته التي عادة ما تختلف من شخص إلى آخر) وما خالف ذلك فليس إلا سلوكات منحرفة تندرج في مجال "الدخول في الصحة" و"تافضوليت" التي تحولت اليوم إلى ظاهرة مجتمعية مقيتة، وثقافة متجدرة ومعمول بها بيننا، يدمنها الكثير ممن تغلبت عواطفهم على عقولهم في التفكير، ويمتهنها "إن صح التعبير" من يجدون في التلصص على أخبار الناس وأحوالهم ونشرها متعة وسعادة، الذين نسميهم بالعامية المغربية ب"البركاكة" الذين يعتمدون في تعاملهم مع غيرهم على "تافضوليت" -أي حب الاستطلاع الخبيث- كمبدأ رئيسي، وعلى حنكة وقدرة تجبههم "أي دفع الجبهة" أو ما يسمى بلغة الشارع "بالتصنطيح" للحصول على شعبية كبيرة وباع طويل، خاصة في الأحياء الشعبية التي يتحلون فيها إلى وكالات أنباء يومية مستقلة، تراقب الناس وتنقل أخبارهم بشكل مباشر وبدون ترميز، أو تقية في الكثير من الحيان، وفي بعضها فقط يجملونها ببعض مساحيق التزويق والتنميق و" الرتوش" ما جعل التبركيك بكل أنواعه إبتداءاً من التقشاب والمزاح وإنتهاء بالتشنيع والكلام البذيء الجارح، والذي ترسخت في مجتمعنا ولم يعد بالإمكان الفكاك منه لدى الفضوليين والبركاكة، الذي رغم كونهم مسلمون يؤدون ما عليهم من واجبات دينية، يصلَون ويصومون، ويزكون ويحجون بيت الله، ويحفظون قوله تعالى فى الآية 116 من سورة النحل ( ولا تقولوا لما تصفُ ألسنتكمُ الكَذبَ هذا حلالُ وهذا حرامُ لتفتروا على الله الكذبَ ). لكنهم مع كل وذاك، لا يتوقفون عن التبركيك واطلاق ألسنتهم في حق غيرهم، يغتابون بعضهم البعض، ويكذبون على القريب والبعيد، وحتى على أنفسهم ويستهزئون بالآخرين، بالتعليقات والتشنيعات الجارحة، بكل راحة ضمير.

مقدمتي الطويلة هذه كانت لتبرير موقفي من هذه الفئة التي تحشر أنوفها في كل شيء وتدسها فيما لا يعنيها، بالنقد الشديد والاعتراض المجاني الذي يتعدى حدود احترام الحريات، ولا يخلو من السخرية والاستهزاء والتجريح والإساءة التي تجرعت بعض مرارتها حين قمت بممارسة حريتي في اختيار لون السيارة الجديدة التي تغيرت بها القديمة؛ هذا الاختيار الذي لم يكن في الواقع، عن دراسة لماهية الألوان ولا عن معرفة لمدلولاتها العلمية، بل كان عن ميل نفسي، وذوق شخصي لا أستطيع تبريرهما أو مناقشتهما ، كما يقول المثل الفرنسي:"les goûts et les couleurs, ça ne se discute pas" لأنها تبقى في كثير من الأحيان، عند الكثيرين ، مسألة نسبية تختلف من شخص لآخر حسب الحالة النفسية والميول الإنسانية والذوق والثقافة والمعتقدات.

وحتى لا يُفهم كلامي هذا بصورة خاطئة، أو يُفسر على أنه نوع من الديكتاتورية المطالبة بكم الأفواه وتقييد الحريات وعدم السماح للغير بالتعبير عن رأيه الذي لا يخرج عن حدود احترام نظرية الرأي والرأي الآخر التي لا تفسد للود بين الناقد والمنتقد قضية.

أروي للقارئ الكريم حكايتي البسيطة والمثيرة للحزن والاستغراب والدهشة في نفس الآن، والتي تبتدئ وقائعها بعد لأن قررت أن يكون لون سيارتي الجديدة أسودا داكنا، لوجاهته وإبرازه لجمالها، ولما يضفيه هذا اللون على السيارات من سحر وجاذبية وفخامة. كم سعدت بتسلمي سيارتي السوداء بأقل قدر من التعقيدات الإدارية المعهود في مثل هذه العمليات، وفرحت بها كثيرا، رغم ما كنسته من مدخراتي، كما طفل صغير يتلقى لعبة جديدة يوم العيد، لكن سعادتي هذه لم تطل بسبب فضول البركاكة ووابل انتقاداتهم اللامحدودة، والتي لم يغضبني فيها تفرقهم حول محب بعضهم للون الأسود وغيره من الألوان القاتمة لوجاهتها وجاذبيتها، ولا كراهية البعض الآخر له(الأسود) لامتصاصه الحرارة ورفعها داخل السيارة ب 50% وتأذيته للسيارات ومستعميلها وتعريضهم أكثر لحوادث السير مقارنة مع غيرها من ذوات الألوان الفاتحة، لأنه من الطبيعي أن نجد أناساً لديهم حساسية فائقة تجاه الألوان، يتذوقونها ويتفاعلون معها، مثل تفاعلهم مع الموسيقى مثلا،ً كما نجد بالمقابل أناساً لا يتأثرون بالألوان ولا بالمسيقى ويعتبرونها رجس من عمل الشيطان، وهي حقائق ومسلمات علمية أثبتتها الكثير من الدراسات الجامعية العالمية، كتلك التي قامت جامعة أوكلاند بنيوزيلندا التي أكدت على عزوف الكثيرين عن اقتناء السيارات القاتمة اللون، لتأثيرها الخطير على مزاجية السائق، وعلى سلامته، وقابلية امتصاصها لحرارة الشمس، وتفضيل الألوان الفاتحة: كالأبيض، والأصفر، الرمادي، الأحمر، الأزرق واللون الفضي الذي احتل رأس قائمة السيارات المفضلة عند الأمريكان، والتي كانت هي الألوان المسيطرة على أسواق السيارات لدرجة وصلت معها نسبة السيارات المباعة خلال سنوات 2005 إلى 26 % في أمريكا، وبنسبة 37 % عالميا 2009 حسب دراسة أمريكية أجريت سنة 2009، ما دفع بولاية كاليفورنيا التفكر في إقرار مقترح قانون يمنع بيع السيارات الجديدة ذوات الألوان القاتمة لإجهادها لنظم التكييف وتشغيلها على نحو أثقل بالمقارنة مع السيارات فاتحة اللون، خاصة في ظلّ ما تعرفه بلادنا من حرارة مرتفعة طيلة السنة تقريبا.

لكن الذي أجج غضبي، وزاد من حنقي إلى درجة فقدان الأعصابي، هو إقحام بعض الجهلة، الدين في نقد وتبركيك قضايا دنيوية صرفة لاغتصاب حرية الناس وحرمانهم من التمتع بما أحل الله لهم من نعمة الألوان، التي يتعامل معها الغالبية العظمى من الناس بعفوية، وتلقائية دون إدراك لنوعيتها، أو حاجة لدراستها وتحليلها تحليلاً سوسيولوجياً واجتماعياً وفكرياً ودينيا، ودون تفريق بين الألوان الأساسية والثانوية، أو التمييز بين المتعاكسة منها والمتضادة، أو المتكاملة والمتضامنة، المحببة مها في الإسلام أو المكروهة- التي يخضعونها لأسلمتهم بغرض التضييق بها على نمط حياة الناس، والحد من حرياتهم وحتى ميلهم البريء نحو الألوان، باسم شريعة لا تمت بصلة إلى ديننا الحنيف بل إلى شريعة الغاب، وغياب الضمير، وبدعوى مخالفتها للسنة النبوية الشريفة، هذه السنة التي لا يفهمونها إلا على طريقة واحدة ويعتبرون أن كل التصرفات النبوية من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم، تستجد بحسب النوازل والظروف.. مع أن سنته صلى الله عليه وسلم، هي مبادئ وأحكاما مجردة، لا علاقة لها بواقع يتحرك، ولا ببشر يتدافع، ولا بطوارئ تستجد، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم "إن كان من أمر دينكم فإلي، وإن كان من أمر دنياكم فشأنكم.

ومما حرز في نفسي وأصيبها بعظيم الغيظ وكبير الحنق وعارم الرغبة في القيء، ودفع بي لأثور -بعد لحظة غفوة ودهول- وأمسكت قلمي الأرجواني اللون، لأدافع عن غضبي، عن ثورتي، ضد الهمجية والجاهلية، هو تمادي بعض الفقهاء البركاكة - أنه ورغم وجود مثل هذا الحديث وغيره كثير، ووضوح معناه وبيان مضمونه، في تحريم كل ما أحل الله لنا من النعم التي أنعم بها علينا، ومحاسبة الناس على ميلهم وعشقهم لبعضها، في زيهم وأثاثهم وسياراتهم، بدعوى أن هناك ألوانا مدمومة في الإسلام، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يكرهها ومن بينها اللون الأسود، وأخرى ممدوحة، على المسلم ألا يختار غيرها وعلى رأسها الأبيض لون الطهارة، والأكثر ذكراً في القرآن، و الذي كان صلى الله عليه وسلم يحبه، ويدعو به فيقول: اللهم نقِّني من الخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس، ولذلك كان اللون الأبيض في اللباس والسيارة من السنة المحببة، وغيره محرم بدليل قوله تعالى: "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" آل عمران 106-107

والغريب في ظاهرة فضول البركاكة المتفيقهين الذين يعتبرون أنفسهم حماة الدين وأوصياؤه، والذي أجج الكثير من الأفكار الجهنمية السوداوية بداخلي، وجعلها تغلي كالبركان، هو عدم مطابقة أقوالهم هؤلاء لأفعالهم، حيث نجدهم يفرضون باسم الدين على الناس أحكامهم القطعية غير الواعية، ولا يطبقونها على أنفسهم، حتى انطبق عليهم قول الشاعر أبي الأسود الدؤلي:

لا تنهى عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم

الذي يعني "لا تفعل أمرا ً قبيحا ً أو مستكرها ً قد كنت نهيت عنه من قبل،كقضية الألوان القاتمة، فإن فعلته لزمك العار وكان أكثر قبحا لأنك سبق ونهيت بترك عنه عن إدراك أكيد بأن اللون الأسود يمتص الحرارة ويسربها للجسد، وعلم قاطع بأن الألوان الفاتحة تحمي من حرارة الصيف القاسية، ولذلك نجدهم يطبقون ذلك جزئيا فيعطون لأنفسهم من الحقوق ما يحرمون المرأة منها حيث يبيحون للرجال ارتداء الألبسة البيضاء الناصعة لصد الحرارة، وبالمقابل يرغمون المرأة-ذلك "الحويط القصير" الذي يعتبرونها عورة ويحطون من مقامها ويحددون من حريتها ويمنعونها من ممارسة أبسط حقوقها في الحياة- على ارتداء كل قتامة الدنيا الممثلة في العباءة السوداء، رغم قولهم بأن السواد لون من ألوان جهنم، وأن النبي يحب الأبيض ومشتقاته، وكأنهم نسوا أن الناس جميعهم رجالاً ونساءً يحتاجون للتعامل مع الألوان الفاتحة كعاكس للحرارة، وواق من شرها وشر الأمراض الجلدية والسرطانية التي تتسبب فيها الأشعة فوق البنفسجية للشمس، وكمصدر للفرح والتفاؤل والبهجة والسرور في حياتهم، بما تجلبه الألوان في عمومها من راحة وسلام وتبديد لليأس والاكتئاب كما جاء في قوله تعالى: "أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ" النمل: 60. أي أن الحدائق هي مصدر البهجة والفرح والسرور، بأزهارها الرائعة التي تناسقت ألوانها المبهرة بإذن ربها المصور الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الذي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى والذي يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

إنه والله لتناقد مقيت لو أفصحت عما أجج في ذواخلي من التقزز والازدراء والاحتقار لكهذا سلوك مستهجن، لاعتبرني المتطرفون من العصاة المذنبين، ولصنفوني بين المنتمين لحزب الشيطان، ولأصدروا في حقي حكما بالتكفير، بل لرجموني أو قتلوني، فقط لأني فضلت اللون الأسود على غيره عند اقتناء سيارة، لأنه يعتبر كفرا في وخروجا عن طاعة الله ومعصية ومنكرا -كما الموسيقى التي سأخصص لها، إن شاء الله، مقالة خاصة فيما يأتي من الزمان- في نظر الكثير من البركاكة المتخلفين الذين أشعر أحيانا أنهم لا يعيشون معنا على هذه الأرض، بل أصل في كثير من الأحيان إلى قناعة شبه تامة أنهم فعلا من خارج كوكبنا الأرض، بعقلياتهم الخرافية في استعراض قدراتهم على التنظير بهدف الحصول على مكاسب مادية ليست لها علاقة بصلاحية ما يطرحون من نظريات لإصلاح الواقع المعاش.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى