الثلاثاء ٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم شفيق حبيب

عنـدمــا ركــعَ الـــوَرْد

استعراض ديوان الشاعـرة: إقبال الرِّفاعي الأعظمي

** تردّدتُ كثيرًا قبل أن أقدِّمَ هذه الدّرَّة الشعرية المميَّـزة، التي لم تعرف المكتبة العربية– حسب رأيي المتواضع– سوى القليل مثلها، من حيث المستوى والإبداع، لكنّ تردّدي هذا، زال عندما ألحّتْ عليّ عدة ُ أسباب منها على سبيل المثال لا الحصر، أنّ الشاعرة مجهولة ُ الهُوية محليا، إذ سألتُ الكثيرين من أدبائنا، فلم أظفر إلا بالسلب جوابا، والأمر الثاني الذي دفعني إلى تقديم هذه الرائعة أنه لم يُطبع منها سوى ألفي نسخة على ورق "شـامـوا " ومئة نسخة على ورق "كوشيه غرانولي " مرقـّمة وغير مخصصة للبيع، ونسختين على ورق "كاردرج "، واحدة للشاعرة والثانية لمقدِّم المجموعة.

** إذن فالنسخة التي بين يديّ هي نسخة نادرة، إذا ما أخذنا بالحسبان أن الألفي نسخة من هذا الديوان، طـُبعت عام 1975 لأكثر من مئة مليون عربي آنذاك ،ناهيك عن الجامعات ودور الكتب والمؤسسات الثقافية التي تحتفظ عادة ببعض النسخ في أراشيفها .

** عدتُ إلى الإنترنيت ،لكي أعرفَ ماذا حلّ بهذه الشاعرة المبدعة، فلم أجد حتى دراسة ً واحدة عنها، ولم أجد أية معلومات أخرى، سوى عرض ديوانها قيد البحث- بطبعته الجديدة - للبيع بأقل من ثلاثة دولرات، فتساءلتُ: ما هذا التجاهل الذي لا مبررَ له؟؟؟ وأين هم الباحثون والدارسون والنقاد؟؟ علما أن هناك ألوفَ الشعراء والأدباء من الدرجة العاشرة، أقاموا لهم مواقعَ الكترونية..ولهم جوقاتهم بالطبل والمزمار وهزّ الخصر..

** قدّم لهذا الديوان شاعر لبنان الكبير المحامي نجيب جمال الدين، والحقُّ يقال إن مقدمة الكتاب جاءت سمفونية جميلة، وبحثـا ً وافيـا ًعن الشعر عربيا وعالميــا، فاحتلت المقدمة ُ ثماني عشرة صفحة من مجموع صفحات هذا الديوان البالغة أكثر من مئتي صفحة من القطع الكبير.

** يقول نجيب جمال الدين:

".. ويسألونك عن الشعر ِاليوم، فقل فورًا بسقوطه في كل العالم، وخصوصًا
في أوروبا وأمريكا.....

الشعر، طردوه من أكبر جامعة حتى أصغر مقهى رصيف، والسبب كما حدّثتني سائقة ُ تاكسي في باريس "وأنا فخورٌ جدا بهذا المصدر السارتري... " أن قطعة البفتيك أضحت أكبر، أكبر... لذا صارت القصيدة أصغر... أصغر.

أصحيحٌ قولهم: كلما انتفخت المادّة، ضَمُرَ الشـِّعر؟؟؟

الشعر في الغرب كله يجترّ أحلامَه تحت ظلال الصـِّفر لا في قطاع البرودة فحسب، ولكن في نطاق المساحة أيضا، وبالفعل، فقد فرّ البعدُ الفكريُّ من الشعر لأنه لاحظ وقوعَه في شرك الترويج اللفظي واللعب...أيضا!!

عندها صار الشعر يتخبط في مساحة النقطة وما زال.

ولكن ماذا عن الشرق، شرقـِنا بالذات؟؟ هو الآخر هنا في محنة، فالشعر في الشرق شِعران:

واحدٌ بسبب عبادة القبور، لم يزل يرسف في أصفاد القديم، وإن حاولوا تحريرَه رفـَـس... وآخر احدَوْدَث بطفرة، فكان كوليد الشهر السادس، عمره في الاحتمال، إن شاء اللــــه."

** أما عن لغة الدهشة عند إقبال فيقول الشاعر نجيب جمال الدين:

"الكلمة عندها النبع، وليست السّاقية،..الكلمة ُ مصدر ُ إيحاءٍ وعطاءٍ معا.. والتعبير
ليس أداة تفاهم أو إفهام، بل هو بحد ذاته عالمٌ قائمٌ بذاتـه، هو وجــودٌ متميـِّـــز ٌ، وإضافة ُ ثراءٍ على الوجود.....

الخلاصة أن لإقبال مع الشعر مواعيدَ زغرودة..

أنت َ... مع قصائد تبقى، ما دام العالم لم يقع في الأميّــة...

أنت َ... في عالم تحبّ أن تقبضَ عليه، فإن حاولتَ ضمّهُ إليك، من فرط ما غامزك واستدرج، زوْبَع َ فيه أو منه، شفافية ٌ عَجَبٌ، فتـُحِسُّ أنك ممسِك ٌ مُطلقَ السُّكـْـر.. فكأن الخمرة َ لا تستطيع أن ترى حقيقتها إلا في الخيـّـــام."

** بعد هذا التشويق ندخل عزيزي القارىء إلى محراب هذا الديوان لنبدأ من حيثُ انتهى مقدِّمُه ُ بإشارته:
"إقرأ هذا الشعرَ الحزين، فينقلك إلى المكان المُريح... وإن كنتَ من جماعة المحاريب والهياكل، فلا تنسَ أن هذا الشعر يصلح أيضا للصلاة..."

** تغلبُ على شعر إقبال مِسـحة ُ الحزن العميق، والألمُ سيدُ كل الحضارات، فاسمعها تقول في قصيدة "عودي بَـعْلـَبـَك ُّ!!":

أين العناقيدُ ملآى؟ أختَ دالية ٍ
يا بعْـلبَــك ُّ، حـرام ٌ تـُخفـــَرُ الذ ِّمَــــــــمُ
دُمَيعة ٌ أنـــــت ِ في عينيَّ دامعــــة ٌ
ما أوجـــعَ الدمــعَ يجــري عِبْرَهُ النـّـــدَمُ
تألمي واحصدي ما شئت ِ من ألـَق ٍ
أستـــاذ ُ كـلِّ حضــارات الـــدّنى الألــمُ
كلُّ الجراح َ لها بدءٌ وخـــاتمـــة ٌ
إلاك َ يـــا شعـــرُ جـُـرحٌ ليــــس يلتئِــم ُ

** وفي قصيدة "مَن لي بترجمان؟" يضيع العمر والمكان، وهذا منتهى الألم:

على درب ِ الصّليب أضعتُ عمري
وكــــــلُّ ذنـــوبــِـــهِ عانـــى جَنـــــــــاني
إذا عـــرف َ الشــــــريدُ له مكانــــا ً
نزفـــتُ ومـا عرفتـُـــــكَ يـــــا مــكـــاني

** وإذا استبدّ الحزنُ بشاعر ، يتحول العالم ُحوله إلى سواد ٍ في سواد، فهذه إقبال ترى حتى الحروف سوداء:

دخلتُ على كلِّ الحروف ِ، وجدتـُها
حزانى، وحزنُ الحرف ِ أسودُ مُمتــَــــــدُّ

** وفي نهاية الديوان نرى أن شاعرتنا لا تستطيع الانطلاق من شِباك أحزانها وآلامها فتكتب قصيدة باكية للحزن بعنوان "الحزن الحرام " تقول فيها:

حرّمتُ حزني عليكَ، الحزنُ محرابي
منه الرّهـــابين صبّـــــوا خمــــرَ أكوابــــــي
مولايَ يا حـــزنُ، طاعــاتي أقدِّمُهـــا
إليــــكَ أسجـــــدُ في قـُـــــــدّوس ِ محـــراب ِ
يا حزنُ! يا سيّدي! مُرني أ ُجـِبْ فأنا
من بــعض ِ بعــضِــك َ أنغـامي... وأطيـابي

** مواضيع هذا الديوان متعددة، ولكن ما لفت نظري،أن الشاعرة وهي الزوجة والأم، كتبت لزوجها وابنها عمر، كما كتبت قصيدة لذاتها بعنوان "إقبال " وقصيدة باكية بعنوان "مات أبي "، كما أن الشاعرة لم تنسَ أن تقدم قصيدة بعنوان "الروابي الخضر " عندما كرّم لبنان شاعرَه الكبير، كاتبَ المقدمة، نجيب جمال الدين، على شعره ونثره وعمله القضائي، وقد شرّفوا الشاعرة آنذاك بتقديم وقائع الاحتفال، حيث ألقت قصيدة تـُعدُّ من عيون الشعر، قالت فيما قالت:

سامرتـُكَ الليلَ..حتى ملـَّني سَمَري
لم يُدرك ِ الطـّيفُ سرَّ الجرح ِ في وتــَـري
ما هالني القلقُ المكتوبُ في قـَدَري
بل هالني النعشُ مرسومـــا ً على سَفـَـري
وكان ما كانَ.. من حزن ٍ ومن أرَق ٍ
ومن عــذاب ٍ،ومن ديــن ٍ، ومن كـُفـُــــر ِ
وصارَ شِعرا ً، كفى بالشِعر ِ مملكة ً
عرشا ً، وتاجا ً، ومُلكـا ً خالدَ الأثــــــــر ِ
يبقى "النجيبُ" ويبقى شعرُهُ سُوَرا ً
يا ليتَ يبقى... وتفنى... أجمَــلُ السـُّـــوَر ِ

** وفي قصيدة "إقبال " لا تلعب النرجسية ُ بعواطف هذه الشاعرة، فتصف حروف اسمها وصفا ً جميلا ً باكيا ً على حراب الحزن:

ألِــــفٌ بثـــوب ٍ مخملي ٍّ أحمر ٍ
جـــــاءت تـُزيِّـنُ مجلــــسَ السُّفـَــــراء ِ
شمَختْ كما شمَخ َ النخيلُ تحُفـُّهُ
شيــبُ النســور ِ وعاصفــــاتُ شتــــاء ِ
والباءُ أربكها الأسى في بئره ِ
فعلى حِـــراب الحـــزن مــاتت بــــائي
وتخالها سكرى، وما شربتْ بلى!
هي نشــــوة ُ الفـــادي بخـــمر فـِــــداء ِ
واللامُ لا أدري علامَ تبرّجت ْ
أيكــــــونُ ذاك تبـــــرُّجَ استجــــــداء ِ؟

** وفي نهاية القصيدة تتوهج هذه الشاعرة:

ليتَ الحنينَ يظلُّ خمسة َ أحرف ٍ
ليظلّ عُمْرُ الشوق ِ .. عُمْرَ عطـــــــاء ِ

** أتساءلُ بدوري: كيف تحولت كلمة "حنين " إلى خمسة أحرف؟ أم أنها عنتْ اسمَها ذا الخمسة أحرف؟؟ علم ذلك عند ربي وعند هذه الشاعرة التي سحرتني حتى النخاع.

** كثيرون هم الشعراء الذين رثــَوْا آباءَهم بقصائدَ دامعةٍ تنزف أسى ولوعة، فنزار قباني كتب قصيدة أبي فقال:

أماتَ أبوكَ؟؟ ضلالٌ...
أنا لا يموتُ أبي..
ففي البيت ِ منه روائحُ رَب ٍّ
وذكرى نبي...

ثمّ يذكـّرُنا نزار بأشياء أبيه، بأسلوب رشيق وببراعة أخاذة، لكنه لا يبكي أو يتباكى... ربما لأنه رجل.. أو ربما لأنه يؤمن بهذا المصير الذي لا مفرّ منه.
** أما شاعرتنا فالأمر عندها يختلف، ربما لأن المرأة هي المرأة في كل الظروف والأحوال، شاعرة ً كانت أو عاديّة، فاسمعها تقول:

لو يَنبتُ الوردُ فوقَ القبر ِ كان حكى
عن كيفَ غابــــوا عن الدنيـــا، وما غابــــوا
كالوَهْم ِ.. كالوَهْم ِ غابوا، يا مراكبَهم
عـــودي! المرافـِــــىءُ أضـــلاعٌ وأهـــداب ُ
وكانـت الريــحُ ردّتْ يا مراكبَـــهم
لو كــــان للريـــــح ِ أطفــــالٌ وأحبـــــــابُ

** ثم تذكر شاعرتـُنا أباها وقهوته وزوّارَه بأسلوب سلس خال من التعقيدات مشبَع ٍ
بالشوق والحزن:

يا حبّـــة َالبُــن ِّ في المهباج ِ يؤلمُني
أن ترقـُصـي ورفــاقُ السّـــكب ِ غـُيّــــــاب ُ
يا ما زهَــوْتُ جَمــالا في مرابعِـــهِ
يا ما...لعَــينيك ِ زارَ الرَّبْـــــعَ خـُطـّــــــاب ُ
كم كنت ِ يا دارُ! مأوى الضيفِ لو نطقتْ
لأبدَعَـت ْ تســــرُدُ الأخبــــــارَ أعتـــــــاب ُ

** ثم تعود شاعرتنا إلى ضعفها النسوي أمام تحدي الموت فتواصل رثاءَ والدها:

نذرتُ يا ليـــلُ! أن أمشيــكَ حافية ً
وشعلتــي الدمــعُ إن أهـــل ِ الصـّفـــا آبـــوا
فأغلقَ الفجرُ بابَ النـِّذر ِ وانفتحتْ
يا لـَلحقيقــــــــــــة ِ، أبــــوابٌ...وأبـــواب ُ
وكدت ُ أهوي فقال اللهُ: لا تهـِني
عندي أنا لهمـــو في الخـُلـــد ِ أثـــــــواب ُ

** على صعيد الشعراء هناك كثيرٌ من الشعر في أبنائهم، وأذكر أن الشاعر الكبير عبد المنعم الرفاعي نشر رائعته بابنه الوحيد"عمر " سنة 1973، يقول مطلعُها:

الآنَ أورقَ غصنـُكَ النـَّضِــــرُ

فاسمـــعْ حديث َ أبيــكَ يا عُـــمـَــــرُ!!

** وفي هذا السياق، تعالوا بنا لنصل إلى قصيدة "عمر " ،ابن الشاعرة، فأعترف أنني لم أقرأ يوما قصيدة لأم ٍّ في ابنها في جمال وروعة هذه القصيدة..حيث جاءت زاخرة ً بالأمومة والذكريات عن طفولة ابنها وتنشئته على التضحية من أجل الغير فتقول:

وزرعْتـُكَ غرســة َ زيتـــون ٍ
لتـُعَرِّشَ فـــي القفــــــر ِ الأغبــــــــر ْ
حالي عَرَفـَتـْني ذوب َ أســىً
وعرفت ُ بك الفرح َ الأنضَــــــــــــــرْ
جئــتُ العــرّاف َ... أسائلـُه ُ
مرســـومٌ حُلمــي في الدفتـــــــــر؟؟؟
"عُمَرٌ" في العدل؟ "عليٌّ "قالَ؟
"يســوع ٌ " من حب ٍّ يُنحَـــــــــــــر ْ

** ولكن، والحقّ يقال، إنني لم اجد لهذا الفرح أثرا في الديوان، فأخذتُ أتساءل:
 هل أصبح الحزن ُ قدر إنسان هذا العصر؟؟

وردّدتُ مع عبد المنعم الرفاعي:

أنا خِدْن ُ آلامي وباعثــُها
أســـتاف ُ خمـــرتـَها .... وأعتـَصِــــرُ...

** ثم نعود إلى شاعرتنا وأمومتها الجياشة وهي تذكـِّر ابنها بطفولته فتقول:

وأعُدُّ اليومَ وراءَ اليـــوم ِ
أنــــا وأبـــوك َ عســــى نظـْفـَر ْ
وبخورُ العُمْر ِ نشـَعـِّـلـُه ُ
للنوم ِ... وللصّحـــو ِ العنبــــــرْ
سهَّرَنا "الأينَ " وَ "فيم َ" وَ "كيفَ "
أليــسَ لحُــبـِّـكَ أن نسـْهـــــرْ؟؟

** ثم تـُذكِـّر ابنـها أنها نذرته باسم الحق حُسامًا لا يُقهر وبندًا خفاقـًا باسم العدل:

أمّاهُ ! نذرتـُكَ باسم الحقّ
حسامـــــــا ً يصمِدُ لا يـُقهــــــر ْ
بندا ً خفاقا ً باسم العــدل ِ
لـــه ُ تـُطـــوى.... ولــهُ تـُنشـَـرْ
ولعتم ِ الليل ِ.. وناس الليل ِ
سِــــراجا ً يُعطي، لا يفتـَـــــــرْ

** أمّا، ما دَوْر هذه الأم الشاعرة المبدعة التي تنتزع إعجابنا بقوة فنـَحني لها هاماتِنا تقديرا وإجلالا، بل ما دَوْرُ ابنِها نحوها كما ترجو الشاعرة: لا شيء.. تقول:

ولأمِّك َ.. لي؟. لا شيءٌ..

كـُن ْ أنـتَ...أنا، دَوْري مِحْجَــرْ

** وأنا بدوري أقول: سلمَت ْ محاجرُ (عـُيون) كل الأمهات الطيِّبات الصالحات...

*** الشاعرة إقبال الرفاعي الأعظمي، أهدت ديوانها "عندما ركع الورد " إلى زوجها فــؤاد وولديها عمر وزيــاد – طبع الديوان في شباط 1975 على مطابع مؤسسة خليفة للطباعة ببيروت، وقد جاء الديوان خلوا من أي خطأ مطبعي، مع الاعتذار لأصحاب المطابع في ديارنا الذين يعتبرون الأخطاء المطبعية ضربا من الزخرف ومن لزوميات المهنة.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى