السبت ٢٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١

كمال الرياحي: تقنيات الاستبداد

إيلي عبدو

في روايته الصادرة عن دار الساقي، يدخلنا الكاتب والصحافي التونسي كمال الرياحي إلى عوالم مجتمع أنهكه الاستبداد السياسي والتخلف الاجتماعي، قبل أن يأتي أحد «أطفال بورقيبة» ويقلب شروط اللعبة

لم تتضح بعد الوجهة التي سيسلكها أدب الثورات العربية التي اندلعت ضد أنظمة الاستبداد والقمع المتسلطة على شعوب المنطقة منذ عقود. ما صدر حتى الآن لا يتعدى بعض المؤلفات التي تؤرشف ليوميات الثورات وتفاصيلها وأحداثها المباشرة، إضافة إلى السرد العاطفي لانطباعات ومشاعر سجّلها كتّاب شاركوا في ميادين الثورات وساحاتها. لم نقرأ عملاً أدبياً، سواء في الرواية أو الشعر أو المسرح، يعيد طرح مفهوم الكتابة الإبداعية، أسلوباً ومضموناً، انطلاقاً من واقع معرفي جديد أفرزته الثورات العربية. بقي معظم الأعمال الأدبية التي تناولت الثورات العربية، يدور في فلك الأدوات الأسلوبية والفنية واللغوية السابقة.

لعل رواية الكاتب والصحافي التونسي كمال الرياحي «الغوريلا» (دار الساقي) تندرج في هذا السياق. الرواية تصدم القارئ منذ صفحتها الأولى: يتسلق صالح الشاب الفقير برج الساعة عند تقاطع شارع محمد الخامس وشارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية ليعلن القيامة. يحتشد الناس حول البرج وتحضر أجهزة الدولة البوليسية ليتصدر مشهد الشاب المعلّق في الهواء نشرات الأخبار وأحاديث السكان.

من خلال بنية مشهدية متماسكة، تتتابع مشاهد الرواية بتقطيع مونتاجي متقن، وبلغة مكثفة، دقيقة، تحافظ على جماليتها من دون أن تقع في البلاغة والثرثرة.

يدخلنا الرياحي إلى عوالم مجتمع أنهكه الاستبداد السياسي والتخلف الاجتماعي. يترك الكاتب شخصيته الرئيسية، صالح، معلّقاً على برج الساعة ليستعيد سيرته: طفل لقيط يعيش في دار للأيتام، حيث معظم الأطفال الذين كانوا معه جرى تبينهم ما عداه. بسبب بشرته السوداء الداكنة، بقي مدة طويلة في الدار قبل أن يأتي رجل يدعى عياد وامرأة تدعى ساسيّة من إحدى القرى النائية ويتبنياه. من خلال شخصية صالح الذي يطلق عليه أصدقاؤه في المدرسة لقب «الغوريلا»، يسلط الكاتب الضوء على شريحة الأطفال اللقطاء في المجتمع التونسي الذين كانوا يدعون «أطفال بورقيبة» في إشارة إلى احتضان الزعيم التونسي لجميع شرائح المجتمع. ينتقم صالح من هذه التسمية من خلال إطلاق النار على ضريح بورقيبة، لتلاحقه أجهزة الأمن وتفبرك له تهماً خطيرة، مثل الانتماء إلى تنظيم إرهابي.

ثمة انتقالات في سياق السرد نحو أزمنة ومناخات أخرى. سرد لحيوات شخوص تتقاطع سيرها مع سيرة صالح «الغوريلا». هكذا، يحضر الجطّ صديق صالح القديم وتاجر المخدرات الذي أمضى فترة في السجن، قطع خلالها العضو الذكري لأحد السجناء. كذلك، يحضر شاكير المثلي الذي حاول التحرش بصالح داخل صالة السينما، وصار يتصيد ضحاياه من الشوارع المحاذية لبرج الساعة، إضافة إلى علي الكلاب ضابط الأمن الذي كان يتعقب صالح في لقمة عيشه حين كان يعمل في سوق الجمعة، وهو من يتولى عملية إنزال صالح عندما وقعت حادثة برج الساعة.

كمال الرياحي الذي شارك في مسابقة «بيروت 39» التي نظمتها «مؤسسة هاي فستيفال» عام 2009، يبني مناخات روايته الكابوسية المليئة بالعنف والقسوة والاستبداد انطلاقاً من برج الساعة الذي يتسلقه صالح متغلباً على خوفه، ومعلناً ألمه بصراحة. يتمدد السرد متعقباً آثار الاستبداد داخل نفسيات أفراد هامشيين، وقعوا أسرى حياة لا يسهمون في صناعة شروطها.

حول البرج الذي يشير الكاتب منذ بداية الرواية إلى أنه رمز للانقلاب الذي قام به الجنرال زين العابدين بن علي على الرئيس الحبيب بورقيبة حيث كان ينتصب تمثال للأخير قبل استبداله ببرج الساعة، يثور الناس تعاطفاً مع صالح الواقف على البرج المكهرب. تبدأ الهتافات ويطالب الجميع بإسقاط النظام في إشارة إلى ثورة الكرامة التي اندلعت في تونس يوم 14 كانون الثاني (يناير) وأطاحت حكم زين العابدين.

استخدام الثورة في رواية كمال الرياحي، كنهاية فنية للسرد يطرح أمراً يتجاوز هذه الرواية التي من الإجحاف مقاربة قيمتها الأدبية من زاوية الثورات من دون الالتفات إلى براعة كاتبها وامتلاكه أدوات الحرفة الروائية. السؤال الملح هنا: هل ستستخدم الثورات العربية كموضوع في الروايات التي ستكتب لاحقاً؟ أم أن الثورة ستصوغ هذه الروايات وفق لغتها وأسلوبها وأدواتها الفنية الجديدة؟ كيف تغير الثورات مجتمعاتنا الحالية من دون أن تغير ما يروى عن هذه المجتمعات كتابةً وشعراً ومسرحاً؟

إيلي عبدو

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى