الاثنين ٢١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم محمد محمد علي جنيدي

حديث المساومة

كان صغيراً جميلاً محتضناً أقدام أبيه، أينما تحرَّك فهو معه، لكنَّه سرعان ما افتقده وهو ابن الخامسة من عمره، وتمرُّ الأشهر والطِّفل قد تولاه مولاه، حتى التحق بمدرسة قريبة من منزله بمصر القديمة.

في أوَّل أيَّام العام الدِّراسي انطلق نحو مُدرس اللغة العربيَّة واحتضنه باكياً قائلاً له: (بابا حبيبي)، فكم كان الأستاذ عظيم الشَّبه بأبيه، ومنْ حينها دأب الطِّفل كُلَّ يوم على سؤال أمِّه: لماذا يا أمِّي لا أرى أبي إلا في المدرسة؟! .. وهكذا تفاقمتْ مشكلة الطِّفل برؤية أستاذه، حتَّى اضطرَّت إدارة المدرسة إلى استدعاء الأمِّ لتجد معها حلولاً لحالة ابنها.

أثناء محادثة الأمِّ مع مدير المدرسة يدخل عليهما أستاذ اللغة العربيِّة، فإذا به - كأنَّه - هو.. هو، ولكنَّها نجحتْ في السَّيطرة على مشاعرها أمامه، ثمَّ تقدمت بطلب أجازة لابنها بعدما أدركتْ حجم المشكلة برؤيته لهذا الأستاذ دائما، بل أنَّ هذا اللقاء كان قد جدَّد لها جُرحها القديم وأوهج من جديد نار فراق زوجها - على كُلِّ حال - أقبلت الأجازة الصَّيفيَّة، فسافرتْ بابنها إلى أقصى صعيد مصر حيث تُقيم عائلتهما، وتَمُرُّ الأيَّام ثقيلة عليهما إلى أن وقعت - المفاجأة الكبرى - فقد حضر الأستاذ ليطلب يدي الأم من كبير العائلة، وقد كان حينذاك هو- عَمُّ الطِّفل - وعلى الرَّغم من دهشة العمِّ لوجه الشَّبه الكبير بين الأستاذ وأخيه المتوفى إلا أنَّه لم يوافق على طلبه مخافة أن يكون قد خطط للزواج من أرملة أخيه طمعاً في أرث ابنه.

وبين ليلةٍ وضحاها وعلى غير المتوقع – يُفاجِئُ – العمُّ كلَّ أفراد العائلة بطلب الزَّواج من أرملة أخيه، ولكنَّها رفضت بشدة وأقسمت على أن تبقى أرملة طوال حياتها خيرا من هذا العرض التعس، ومن هنا لاحقتها المشاكل من عائلة ابنها وتناثرت الأحاديث عليها، حتى أن هؤلاء قد استعذبوا اغتيابها وأحكموا التَّضييق عليها فاتَّهموها بحبِّها لأستاذ ابنها، وهكذا طاردوها إلى أن استطاعوا إرغامها بالفعل على الزَّواج من العمِّ الظَّالم، فلمَّا كانت ليلة الزَّواج الأولى، هرب الابن كراهية لعمه هروباً دام طويلاً، وتمرُّ بضع سنين، ولا يجدونه أبداً، وكأنَّما ابتلعته الأرض واختفى أثره تماماً ومن هنا استحالت الحياة بين الزَّوجين.

مرت الأعوام القليلة، والعمُّ الظَّالم على ما هو عليه يريدها صفقة، تدفع الأمُّ له فيها ما يوازي ميراث ابنها عن أبيه مُقابل إطلاق سراحها، والأمُّ على مرضها- صابرة وثابتة - على الحق.

وفي يوم ما وأثناء تجمُّع لكبار عائلات القرية للوصول إلى حلٍّ يُرضي جميع الأطراف.. إذا بالابن يظهر في صحبة الشُّرطة، وفي هذه اللحظة وبعدما سمع الابن جانباً من حديث المُساومة، قال لعمِّه صارخاً في وجهه: أخا أبي.. لن تنال شيئاً من إرثي ولا من مال أُمِّي ، ولتعلم أمام النَّاس لأن استطعت النَّيل منْ حياتي وحياة أُمِّي لذلك أهون على نفسي من التَّفريط في شبرٍ واحد من حقِّ أبي عن أبيه - فافعلْ ما شئت - فوالله ما شعرتُ باليُتم إلا وأنا أراك جاحداً وأنت عمِّي!!، وما أوشك الابن من الانتهاء منْ مقولته المُؤثِّرة إلا وكبار رجال القرية قد قاموا على قدم رجلٍ واحد يضغطون على العمِّ الظَّالم ويُطلقون الصَّيحات في أُذنيه مُدَوِّية: طَلِّقْها.. طَلِّقْها.. وهنا ترنحت إرادة العم ووقف من الأرض مُتَثاقِلاً.. صارخاً في وجوههم جميعاً، ومُوَجِهاً لها حديثه: يا أنتِ .. أنتِ طالق.. طالق.. طالق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى