السبت ١٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
إطلالة على قصيدة يحيى السماوي

حين تكونين معي

عصام شرتح

قبل الدخول في فضاءات القصيدة الجمالية والدلالية؛ نتساءل ما الذي يجعل بعض النصوص الشعرية عالية الجودة؛ شاعرية في أفقها وفضائها الدلالي وبعضها الآخر دون ذلك؟ ونتساءل لماذا بعض القصائد تكون مسكونة بهواجس الإبداع ومسكونة بهواجس التجاوز؛ ومسكونة بهواجس الإدهاش والخرق والإبتكار؟ وإننا دون أدنى شك عندما ندخل عالم الشاعر يحيى السماوي ندخله ونحن متأكدون بأن هذا العالم سيبهجنا ويمنحنا دفئاً يؤنس روحنا ويكسر حاجز الجليد والصقيع الذي ينتابنا في حياتنا الروتينية؛ إن الشاعر يحيى السماوي يكوينا بمعاناته لنحسّ بنبض كلماته وهي تخترق أعماق قلوبنا بقشعريرة الإبداع ودهشة التأمل وبعد الرؤيا؛ إن الشاعر في هذه القصيدة الموسومة بـ "حين تكونين معي" يأخذنا في فضاء صوفي من الإحساس والتأمل والإبتكار يجعلنا نتنفس كلماته ونحن مؤمنون أن هذه الكلمات ستخرجنا من قوقعة الجزئي إلى الكلي؛ ومن السكون إلى الحركة؛ ومن الألفة المعتادة إلى اللمعة والدهشة التصويرية الخارقة واللامعتادة؛ فحين نفتتح القصيدة نفتح معها قلوبنا لتسكر أرواحنا برفيف كلماته التي تأخذنا إلى فضاء التميز والإبداع؛ وما يدهشنا أن الجملة تخلق إثارتها من حرقتها الشعورية أولاً؛ ومن إيقاعها الصوتي المتناغم ثانياً؛ ومن بكارة الصور وكثافة الرؤية ثالثاً؛ ومن حيوية التمركز الفني في التلاعب بالأنساق اللغوية لتحرك في داخلك إبداعاً في اللغة، وإبداعاً في الرؤية، وإبداعاً في التشكيل التصويري الجميل؛ وإبداعاً في المشهد الشعري الذي يخلقه بكلمات سهلة مأنوسة قريبة من روح القارئ وإحساسه؛ ولهذا سنقف على أبرز مظاهر الإبداع في هذه القصيدة وهي:

1 - جمالية الإلفة اللغوية:

وهي الإلفة التي يخلقها بين الكلمة والكلمة؛ والجملة والجملة، والصورة والصورة، لتأتي القصيدة عبارة عن نسق متناغم يبث حركة الذات وإحساسها بعمق وتآلف فني عجيب ومثال ذلك فاتحة قصيدته المدهشة؛ إذ يقول فيها:"

حين تكونين معي
يبردُ جمرُ ال " آهْ "..
ويفرش الرّبيعُ ليْ سريرَهُ
فينثرُ الوردُ على وسادتي
شذاهْ
وتنسجُ الضفافُ ليْ
ثوباً من المياهْ
ومن حرير عُشبهِ
تنسجُ ليْ حقولهُ مَلاءةً..
ويضفرُ الصّباحُ ليْ
أرجوحةً ضوئيّة َ الحِبالِ من ضُحاهْ
والليلُ
يغدوضاحِكاً دُجاهْ
فيجلسُ الطيرُ إلى مائدتي
مُنادِماً هوادجَ الغناءِ في
قوافلِ الشّفاهْ"

إن أجمل ما يميز هذا المقبوس قدرة الشاعر على خلق الكلمة الشاعرية التي تبث عواطفه المتقدة سمواً وصبابة ووجداً وعشقاً ؛ وهذا العشق يذكرنا بعشق المتصوفة الكبار؛ ليخلق لنا عالمه الشعري بكثافة جمالية يأخذها النسق الشعري على مستوى الصور؛ لخلق الألفة اللغوية الجذابة التي تنقل النص من الألفة المعتادة إلى الدهشة أوالصدمة التصويرية اللامعتادة؛ كما في قوله:

" تنسجُ ليْ حقولهُ مَلاءةً..
ويضفرُ الصّباحُ ليْ
أرجوحةً ضوئيّة َ الحِبالِ من ضُحاهْ
والليلُ
يغدوضاحِكاً دُجاهْ
فيجلسُ الطيرُ إلى مائدتي
مُنادِماً هوادجَ الغناءِ في
قوافلِ الشّفاهْ"

إن هذه الألفة التي يخلقها بين لفظتي "أرجوحة - وضوئية الحبال" ولفظة "الليل" ولفظة "دجاه" يخلق دهشة نسقية تزيد درجة غرابة الصورة من جهة؛ ودرجة دهشتها من جهة ثانية خاصة بالقفلة الجمالية النسقية المدهشة " قوافل الشفاه " و"هوادج الغناء"؛ وهذه الألفة حركت النسق الشعري وأعطت القصيدة دهشة في المدلول ودهشة في الإيحاء الشعري ودهشة في الحيّز التصويري ودهشة في الحيّز الإيقاعي التناغمي الصوتي؛ وهذا ما تفشى كذلك في باقي الأسطر الشعرية؛ وللتدليل على ذلك نأخذ قوله:"

حين تكونين معي
يهربُ من فصولِنا الخريفُ
ترتدي الرّباباتُ المواويلَ
يُقيمُ العشقُ مهرجانهُ..
فكلُّ خِلٍّ
يلتقي خليلهُ..
وكلُّ صبٍّ
يلتقي نجواهْ..
يُطِلُّ " قيسٌ " راكباً جوادَهُ
وخلفهُ " ليلاهْ "..
و" عروةُ بن الوردِ " يأتي راكباً سحابة ً
تقودُها " عفراءُ "..
و" الضِّليلُ " يأتي شاهراً منديلهُ
و" العامِريُّ " يلتقي " بُثينةً "
ويلتقي رُباهُ
صبُّ الفراتينِ الذي شيَّعَ
في منفاهْ
طفولة َ النخلِ
وشيَّعَ الهوى صِباهْ!"

إن ما يدهش القارئ هذا الخلق الإبداعي المتنامي على صعيد الصورة والألفة النسقية بين الصور الجزئية والقوافي الشطرية والكلمات المتناغمة المتفاعلة في بنيتها الصوتية؛ لخلق ما يسمى بـ النغم المدهش أوالنغم الشاعري الذي يفجّر حركة النسق ليولد الجناس الصوتي المنسجم مع حركة الكلمات وإيقاعاتها الصوتية كذلك؛ بمعنى أن الشاعر يخلق الألفة الإيقاعية التي تنساب مع الأصداء الدلالية والبؤر التشكيلية لإدهاش القارئ ونقله من الألفة المعتادة في التشكيل إلى الدهشة والتبئير في الدلالة والتعبير ومثالنا على ذلك قوله:

" حين تكونين معي
يهربُ من فصولِنا الخريفُ
ترتدي الرّباباتُ المواويلَ
يُقيمُ العشقُ مهرجانهُ..
فكلُّ خِلٍّ
يلتقي خليلهُ..
وكلُّ صبٍّ
يلتقي نجواهْ.."

إن هذا البث الجمالي الذي يخلقه الشاعر بين لفظتي "فصول" و"الخريف" و"الربابات" و"المواويل"؛ و"خل" و"خليل" و"نجواه" يخلق دهشة في الانتقالات اللغوية لإثارة القارئ وقلقلة توقعه وزحزحة تصوره لإدهاشه ونقل الصورة المثيرة التي تفجر كامل النسق الإبداعي؛ وهذا ما يجعلنا نحكم على شعريته بأنها شعرية الألفة والدهشة اللغوية والتصويرية التي تحلق بفضاءات القصيدة لدى يحيى السماوي.

2 - دهشة التصوير والفواصل الشطرية المتناغمة:

إن هذه القصيدة تؤكد ما قلناه من سابق: " إن شعرية السماوي شعرية متناغمة متماوجة كتموج البحر هدوءاً حيناً؛ وثورة وهيجاناً حيناً آخر؛ وهذا الأسلوب ينقل صوره من الألفة المعتادة إلى الدهشة اللامعتادة في خلق لغة تصويرية مثيرة وفواصل شطرية متناغمة؛ تثير القارئ وتحلق بالنسق الشعري؛ ومثالنا على ذلك قوله:

" حين تكونين معي
يجيئني البستانُ
يسْتحْلِفني باللهْ
مُلتمِساً فسيلةً جديدةً
تحفظُ نسْلَ البَلَحِ الصّوفِيِّ
لوأقفرَتِ الحياهْ
حين تكونين معي
تكشفُ عن أسرارها الأسرارْ
ويفتحُ القميصُ ليْ بوّابة َ الفردوسِ
عبرَ فتحة الزّيقِ التي
غادرَها الخِمارْ
نسْتبدِلُ الأدوارَ:
شهرزادُ تسْتلقي على سرير صدري
وأنا الراويةُ الساحِرُ شهريارْ
أقصُّ ألف قبلة ٍ وقبلةٍ عليكِ
حتى يطلعَ النهارْ
فأقطف القرنفلَ ..
البنفسجَ..
السَّفرجَلَ..
التفاحَ..
والجُمّارْ..
وأجمعُ الفِضَّة َ..
والياقوتَ..
والسُّنبلَ
في كأسِ فمي ..
يسيلُ من أصابعي الضوءُ
ومن حنجرتي الأشعارْ
حين تكونين معي
تفيقُ من سُباتِها
الأمطارْ
تُخرِجُ ليْ لؤلؤها
البحارْ
وتُصْبحُ الضحكةُ قنديلاً
يُضيءُ الدارْ"

إن الشاعر يخلق الصورة الدهشة التي تتبدى في جاذبية النسق؛ وجاذبية الإيقاع وجاذبية الأصوات المتناغمة على مستوى الجملة؛ فالسماوي لا يخلق الصورة المثيرة فحسب؛ وإنما يخلق الإيقاع المتناغم مع أصداء الذات ورؤاها على المستوى الدلالي؛ بمعنى أن السماوي يُفاعل الصوت؛ ويفاعل الحركة؛ ويفاعل الدلالة، ويفاعل الحدث؛ ويفاعل الرؤية؛ ويفاعل المشهد الكلي بشكل عام؛ ولودققنا في مثيرات البداعة التصويرية لديه في النسق التركيبي السابق كما في قوله:

" حين تكونين معي
تفيقُ من سُباتِها
الأمطارْ
تُخرِجُ ليْ لؤلؤها
البحارْ
وتُصْبحُ الضحكةُ قنديلاً
يُضيءُ الدارْ"

إن الشاعر يفاعل النسق اللغوي ويثيرنا بهذا التمازج التصويري بين حركة الأفعال التالية: "تكونين - تفيق - تخرج - تصبح - يضيء" يؤكد هذا الإبداع التصويري الذي ينساب مع الحركة الصوتية للكلمات لتبث دلالاتها المشحونة بقلق الذات المبدعة وسعيها إلى الإنصهار في بوتقة الأنثى "الأنثى الخالقة / أوأنثى الخلود"؛ ولهذا فإن قارئ هذه القصيدة يعجب أولاً بإيقاعها الصوتي ثم بانسجامها التصويري ثم بلغتها الممزوجة بالحرقة والتوق للوصال؛ بلغة ذات شحنة صوفية تخرج من وميض الكلمات وجراحها على فرن الذات القلقة المتسائلة التي تخرج من باطن روح اغترابية حزينة كروح يحيى السماوي.

3 - جمالية العاطفة وسموها الروحي:

قد يتساءل البعض هل يمكن للعاطفة أن تكون ذات جمالية بحد ذاتها؟! وهل يمكن للعاطفة المنصهرة عشقاً وتوقاً للأنثى أن تخلق شعراً؟! وهل يمكن لمن عشق وامتزج العشق بروحه أن يصبح شاعراً؟! أقول نعم يصبح شاعراً ليس باللغة وإنما بالروح والمشاعر ومن يعشق فهوشاعر ومن لا يعشق لا يمكن أن يكون شاعراً حقيقياً؛ وإن العاطفة أحياناً تصنع شاعراً يفيض بروحه ولا يهمّ إن كان يفيض بكلماته؛ إننا نلحظ أن شعرية السماوي كانت حصيلة المثيرين الإبداعيين معاً : العاطفة المتقدة الجياشة التي تفيض عشقاً ووجداً واغتراباً؛ واللغة الإبداعية المتقدة بحنكة الكبار والعظام من الشعراء؛ ليخط اسمه ببريق كلماته على جدار الإبداع بمثير عمق التجربة أولاً وجمالية اللغة الشعرية ثانياً؛ يضاف إلى ذلك بريق الكلمات والصور الغزلية وسحرها كما في قوله:
" سيّدتي البتولَ
يا مُسرفة َ الدَّلالِ:
لا تأخذي بما يقولُ عاشِق ٌ
في لحظةِ انفعالِ..
قلبي وإنْ أغْضَبْتِهِ لمّا يزلْ
طفلاً بريءَ القوسِ والنِّبالِ!
لستُ الذي يُمكِنُ أنْ ينتهِرَ النهْرَ
وأنْ يغضبَ من تشبُّثِ الجبالِ..
هل يزعلُ العصفورُ من سماحةِ البيدَرِ؟
والزَّهرُ من الرَّبيعِ؟
والصّقرُ من الأعالي؟
لا تأخذي بما يقولُ عاشقٌ
أغْضَبَهُ أنّ التي هامَ بها
عصِيَّة ُ الوصالِ!"
إن انسياب العاطفة واتقادها يجعل من الصور ذات إيقاع جميل ينساب من عبير الروح وشذا المشاعر؛ فالجملة لديه حصيلة انسياب روحه وتموج عاطفته الغرامية التي تتقد وجداً وعشقاً إلى أنثى الحلم / أوأنثى الخيال؛ فالشاعر لا يولد إلآ من رحم الأنثى؛ والمبدع لا يولد إلا من رحم المعاناة؛ وشاعرنا ولد من الاثنتين معاً؛ وهنا يولد المبدع الحقيقي؛ والسماوي في صوره شاعر حقيقي أحس بالأنثى فأسطرها؛ وأحس بالأنثى فعشقها وكانت ملحمته منذ البدء وملحمته قبل مغادرته قطار الحياة؛ إننا في المقطع السابق نلحظ سمواً في حيوية النسق التصويري؛ وانسياباً جمالياً في إيقاعية الكلمة والجملة؛ كما في قوله:"

" يحدِثُ أنْ أشيدَ في خيالي
منارةً فرعاءَ مثلَ جيدِكِ النائِمِ
خلفَ بُرقع ٍ وشالِ!
يحدِثُ أنْ أجعلَ من عينيكِ
قنديلينِ
في مُعْتكفِ ابتِهالي..
يحدِثُ أنْ
أزرعَ
في خيالي
حديقةً فوق سهولِ الخصْرِ ياحبيبتي
يُحيطها بُستانُ بُرتقالِ..
يحدثُ أنْ أنسجَ
في خيالي
ثوباً من العشبِ..
ومنديلاً من الهدبِ..
وشالاً مُزهِراً من ورَقِ الدّوالي.."

إن المتأمل في هذا النسق الشعري يلحظ شاعرية الرؤية وعمق المشهد الشعري وفنية الصورة ودرجة التهاب الرؤية واشتعالها العاطفي بالعشق والتصوف والتأمل والتناغم الروحي؛ كما في قوله في هذه الصور المثيرة :

" يحدثُ أنْ أنسجَ
في خيالي
ثوباً من العشبِ..
ومنديلاً من الهدبِ..
وشالاً مُزهِراً من ورَقِ الدّوالي.."

فما أجمل انسيابية هذه الصور وما أجمل اشتعالها العاطفي وسموها الروحي؛ فالسماوي كل يوم يؤكد شعريته؛ ويؤكد سموه كشاعر وكإنسان وكعاشق عشق الحياة؛ فرسم عشقه في كلماته؛ ورسم إخلاصه في أفعاله؛ فجاد علينا بروائح شعرية عطرة تنساب كل حين؛ فما أجمل انسياب هذا المقطع الذي يذكرنا بشعرية "بدوي الجبل"؛ وشعرية "شوقي بغدادي"؛ إذ يقول فيه:

" يحدثُ أنْ أجعلَ من يديكِ
في خيالي
سوراً
يقيني من ذئابِ وحشةِ الليالي..
يحدثُ أنْ أسوقَ نحوَ بيتِكِ
النُّوقَ العصافيريَّة َ..
الغزلان َ..
والهوادجَ التي تئِنُّ تحتها جِمالي..!
يحدثُ أنْ تُسافري يومينِ عني
فأحَطِّم الكؤوسَ كلها
وأعلِن الإضرابَ عن كتابةِ الشعرِ
وعزفِ العودِ
والجلوسِ في حديقتي الوارفةِ الظِلالِ..!
يحدثُ أنْ تزفَّكِ البحارُ ليْ حوريَّةً
يرمي بها الموجُ إلى
رمالي.."

إن سحر الكلمات وبريقها الأخاذ يأخذنا إلى عالم شاعري بريء؛ فيه من الشفافية والعشق والتوق للأنثى ما يجعله يسبح في بحر الإبداع؛ وسحر النغم الذي ينساب عشقاً بين كل كلمة وصورة قد بثها في المقطع السابق؛ فما أجمل قوله:

" يحدثُ أنْ أجعلَ من يديكِ
في خيالي
سوراً
يقيني من ذئابِ وحشةِ الليالي..
يحدثُ أنْ أسوقَ نحوَ بيتِكِ
النُّوقَ العصافيريَّة َ..
الغزلان َ..
" والهوادجَ التي تئِنُّ تحتها جِمالي..!

إن أجمل ما في هذا النسق الشعري توالي القوافي وفق فواصل متقطعة؛ مما يجعل الصورة المدهشة تخلق درجة إدهاشها من المباغتة التشكيلية الإضافية أوالمُضافة أوالوصفية كما في الأنساق التالية:" النُّوقَ العصافيريَّة / وحشةِ الليالي" وهذا ما يجعل لغته الشعرية تنبض حيوية على صعيد التشكيلات اللغوية ودرجة إبداعها وهذا ما نلحظه كذلك في قوله:

" يحدثُ في خيالي
أنْ تزعلي مني
لأني لمْ أقبِّلكِ مساءً
غيرَ ألفِ قُبلة ٍ..
يحدثُ أنْ أكتبَ في خيالي
قصيدةً
تعجزُ أبجديّتي عن نقلِها
من مرجَلِ اشتِعالي ...
يحدثُ أنْ يُجْلِسَني خيالي
عرشَ المُنى ..
يجلِسُ عن يمينيَ الأطفالُ والطيورُ
والملوكُ عن شمالي..!
وكلّما صفقْتُ كفي
يقِفُ الماردُ مابين يدي
مُلبِّياً سؤالي!
يحدثُ في خيالي
أنْ أهزمَ الطغاةَ..
والعُتاةَ..
والأباطِرةْ
وكلَّ ما في الأرضِ
من جبابرةْ
يحدثُ أنْ أطهِّرَ الحقولَ
من كلِّ الجَرادِ البشريِّ
في بساتينِ الفراتينِ
وفي " الجليل "..
" يافا "..
وحقولِ " الناصرةْ "
وأسْرجَ الخضرة َ في القفارِ
حتى تسْتحيلَ جنّةً أرضِيَّةً
ضاحِكة َ السِّلالِ..
يحدثُ أنْ أقيمَ جسرَ الودِّ
بين الشّاةِ والذئبِ
وبين النسرِ والعصفورِ
بين الضّبعِ والغزالِ..
يحدثُ في خيالي
أنّ الطّواويسَ التي تسلّقتْ
سقيفة النِّضالِ
تخرجُ من كهفِ التنازلاتِ
نحوشُرفةِ النِّزالِ.."

إن الشاعر يخلق جمالية النسق من خلال جمعه المتضادات اللغوية؛ لإثارة الحركة الشعرية؛ وإثارة المشهد الشعري؛ فالشاعر لا يولد من التآلف والوحدة؛ وإنما يولد من الشك والجدل والتأمل والاستغراق؛ فلهذا أثار الشاعر المتضادات اللغوية ليتعرف على حقيقة الأشياء ومظاهر كنهها؛ فالشاعر يأخذنا إلى عالمه عبر تفعيل المتضادات التي تحكي اغترابه في هذا الواقع المتناقض الذي يغصّ بالمعكوسات والمتنافرات؛ كما في المتضادات التالية:" الشاة والذئب - النسر والعصفور - الضبع والغزال" وكأن الشاعر يريد أن يجعل الكون كله متآخياً متحاباً؛ ليعيش الناس بأمان؛ والمجتمع كذلك بأمان؛ وهذا ما يجعل رؤيته إنسانية سامية؛ تشمل الوجود؛ ولا تقف حيال حاجز الذات ومعاناتها فحسب؛ وقد جاءت القفلة النصية بغاية الدهشة في هذا المقطع التالي:

" يحدثُ أنْ أموتَ
في خيالي
لكي أرى دمعَكِ
حين يحفرُ الرِّفاقُ ليْ
حُفيرَة َ الزّوالِ..!!
يحدثُ أنْ أفيقَ
في خيالي
على صِياحِ دِيْكِ جُرحي
وصدى سُعالي
أوعطشي
لمائِكِ الزُّلالِ!!"

إن الشاعر يحن إلى الأنثى التي تمثل له الوطن؛ ويحن إلى الوطن الذي تمثله الأنثى؛ بهذه المعادلة يختتم السماوي هذه القصيدة؛ ليقول للقارئ إن اغترابي اغترابان؛ اغتراب عن أنثى الروح / أوأنثى الحلم؛ واغتراب عن الوطن؛ وما أصعب هذين الاغترابين؛ لأنهما يؤثران على مسار الذات ونمط تفكير وسلوك الشخصية الإبداعية؛ وقد استطاع السماوي بحنكة الشعراء العظام أن يمتعنا بجمالية هذه العاطفة التي تفيض إحساساً وشعوراً عاطفياً من جهة؛ وشعوراً إنسانياً عاماً من جهة ثانية؛ وهذا يؤكد لنا أن قصيدته "حين تكونين معي" تموج بسحر الكلمة؛ وتموج بجمالية العاطفة وسحرها الأخّاذ، وتموج كذلك بحيوية المشهد والإيقاع الصوتي المتناغم من جراح الذات وأنينها واغترابها، ومعاناتها أيضاً.

أخيراً: إن هذه القصيدة تطرح نفسها لتكون من روائع شعر السماوي؛ وليست فقط قصيدة مطرزة في دواوينه؛ إنها شعلة من الإتقاد والتوهج الشعري؛ والهيجان والتوتر والفوران العاطفي؛ إنها تخرج القارئ من رحم الخمول والسكينة إلى جوهر المعاناة والإحساس والشعور؛ وهذه هي وظيفة الشعر؛ وهذه هي بذرة الشعرية ومكمن دهشتها وخلودها؛ التي يطالعنا بها السماوي في هذه القصيدة.

عصام شرتح

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى