الاثنين ٢١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم حميد طولست

الدعاية الانتخابية

الديمقراطية هي المشاركة الواعية والمسؤولة لجميع أفراد المجتمع في بناء وتنمية وتغيير مجتمعهم نحو الأفضل بما في ذلك المشاركة السياسية، وعدم العزوف عن الانتخابات التي هي ذروة الديمقراطية وليست بدايتاً لها ولا نهايتها، لأنها لا تسبق الديمقراطية, ولا تنتج لا الحريات ولا الحقوق، كما أثبتت ذلك الدراسات الكثيرة والاهتمامات المتعددة والتجارب المعاصرة للدول الديمقراطية.

لكن مفهوم الديمقراطية، والحديث عن الانتخابات الحرة النزيهة في البلاد العربية عامة والمغرب خاصة، مازال إلى اليوم يفتقد إلى معايير محددة، خاصة وأن المتطلعين إلى السلطة عبر الانتخابات يعملون في الأغلب على قدم وساق لابتكار أساليب جديدة متنوعة ومتجددة، وابتداع أساليب متطورة للتلاعب بالعمليات الانتخابية، يركزون فيها على استعمال المال لتدجين المواطنين وترويضهم للقبول بالفساد من خلال بيع ذممهم لقاء مبالغ مالية أو لقاء وليمة أو بعض الهداية العينية مثل المواد الغذائية وغيرها، وهو من اخطر أشكال الفساد وطرق التزوير الانتخابي الذي يمكن القول أنه أسلوب معتمد خاصة لدى دول العالم الثالث وتحديدا الدول العربية، وذلك راجع إلى انعدام الوعي الديمقراطي وغياب الرقابة القضائية المستقلة بها.

ربما يقول قائل أن التزوير الانتخابي هو أسلوب عالمي، وأن المظاهر المعبرة عن الفساد السياسي من خلال الرشوة وتلقي التمويلات المشبوهة لا تقتصر على الدول العربية بل هي موجودة أيضا في الدول الغربية ذات الأنظمة الديمقراطية العريقة، وللمقارنة فقط، أنبه إلى أن الفرق بين العالم العربي وبين الغرب، يكمن في الرقابة والمحاسبة على مثل هذه الممارسات، ولاشك أن الكل يذكر تهمة الرشوة التي وجهت لساركوزي أثناء تحضيره لانتخابات سنة ألفين وسبعة حين اتهم بتلقي أموال انتخابية من المليارديرة الشهيرة(ليليان بيتانكور)الفرنسية الأصل، ونذكر جيداً تحرك القضاء الفرنسي للتحقيق في تلك التهمة، لأن انتهاك حرمة الانتخابات النزيهة عندهم، هو انتهاك للعملية الديمقراطية برمتها، وأن الانتخابات الديمقراطية التنافسية لا تجري إلا في كنف الحكم الديمقراطي، لأنها ليست هدفا في حد ذاتها، ولذلك فان على الجماهير أن تعي بما هي مقدمة عليه، وما يجب أن تحصل عليه من حقوقها الديمقراطية قبل الخوض في معترك الانتخابات، وألا تنخدع بالدعايات الانتخابية المبالغ فيها، والإشهارات السياسي المموهة غير الصادقة، التي تتحول في غالبية أحوالها، إلى مسرحيات "بايخة" تعاد في كل دورة انتخابية، ويؤدي أدوارها ممثلون من الدرجة الثالثة، عديمي الخبرة والمعرفة بالمسرح وقواعده، ويُعتمد فيها على نفس الأفكار والسلوكات البالية التي تتبناها جل الأحزاب -سواء العريقة و التاريخية منها أو الجديدة التي لا زالت تبحث لها عن موطأ قدم داخل الساحة السياسية والحزبية- التي تملأ الركح السياسي لأزيد من خمسة عقود من التجربة الانتخابية القديمة، التي لم تعد تفيد في شيء، والتي ليس لوجودها في مشهدنا السياسي من مبرر حقيقي وواقعي ومشروع، اللهم، ما يمكن أن يفهم منه، أنه راجع لفقر مدقع في الثقافة السياسية لدى المرشحين وأحزابهم وعدم إدراكهم للتبدلات الجارية في العالم، والتحوّلات العميقة في مفاهيم عملية الانتخابات.. أو أنه راجع لاستخفافهم بمستقبل الوطن، واحتقارهم المواطنين واعتبارهم رعايا وقطيعاً من الكلاب يجب تجويعها لتتبعهم كما في ثقافة الكثيرين منهم والذين يؤمنون بمضمون المثل الدارج: "جوعها تتبعك!" والذي نخشى -رغم هبوب رياح الربيع العربي الذي تأثرنا به كبقية الدول العربية لكن شكلا وليس مضمونا- استمرار مظاهره الفلكلورية المتخلفة التي تقوم الأحزاب المتصارعة على السلطة، والتي تحتل الانتخابات، محلية كانت أو برلمانية، المجال الأكبر من اهتمامها، بإخراج فصول حملاتها الانتخابية، لكسب الكثير من المصوتين، وذلك في تسابق محموم بين المترشحين، نحو زيارة الناخبين في أحيائهم السكنية التي لم يسبق لأغلبيتهم أن عرفوها أو تعرفوا على أحوال ساكنيها، قبل هذه اللحظة الحاسمة، التي يُحيون فيها طقوس لقاءات "الجذبة والتحييرة والحضرة"، وما فيها من تقبيل وعناق للمواطنين الذين كان، وإلى الأمس القريب، يُِؤنف حتى من النظر إلي وجوههم الشاحبة، قبل أن تضطرهم الرغبة العارمة لولوج قبة البرلمان، والتمتع بسلطه الواسعة، وامتيازاته اللامحدودة، رافعين رايات وأعلام وبيارق الاستسلام والتسليم لهذه الفئات بكل أطيافها ومختلف ألوانها، الشمكارة والهداوة والمجدوبين وكل من لفّ لفّهم، مرددين بين أيديهم كلاما مكروار، بنفس النغمة، وبنفس الألفاظ، وبنفس المضمون، ونفس الشعارات المملة الموزعة بين خطاب ديني صحراوي ظلامي غليظ القلب، وخطاب يساري وليبرالي استعلائي تافه مرتعش طامع، وذلك للترويج لقوائمهم الانتخابية، ورسم صور وردية لذواتهم وأحزابهم، وإيهام الناخبين بالمستقبل الزاهر لكل من يمنحهم صوته من المواطنين الذين يعدونهم بالخير العميم معهم، إن هم فازوا مرة ثانية، ولما لا ثالثة، لأن المرة الثالثة ثابتة في المخيال المغربي، كما في المثل الشعبي الدارج "الثالثة فالتة"، أي أنها المرة التي سيُهتم فيها بأمور الناخبين، ويُتفرغ فيها لمشاكلهم، بعد أن أشبع النائب البرلماني كل رغباته، وحقق كل طموحاته وأهله وأقربائه، أما ما سبق من الدورات، فإنهم يعتذرون على ما فات خلالها، بالأوضاع الأمنية وفساد المؤسسات الحكومية والطائفية والأجندات الخارجية.

ـ ولما كانت الدعاية الانتخابية بكل أنواعها، هي حق من حقوق المنتخبين المشروعة، تمكنهم من الوصول للمصوتين لاقناعهم بصحة ومبررات ترشحهم، فإنه من كامل حقهم الإنفاق عليها، بل من الضروري صرف المال الكافي لإنجاحها لما تتطلبه من إمكانيات مادية ولوجيستية، لأنها أصبحت علما يدرس في كليات الإعلام، ومهنة تعددت وسائلها وأجهزتها وتوسعت أغراضها من الأغراض التجارية، إلى الأغراض الانتخابية، المؤثرة في اتجاهات الرأي العام، بالتوجيه لأغراض محددة، أو بالتحريض على تقبل فكرة معينة أو خطة محددة، أو هدف معين، واختص فيها مختصون، وابتكرت لها نظريات، وأنشئت من أجلها المكاتب والشركات التي تبدع في ترويج وتسويق المترشح أمام جمهوره، والترويج لأهدافهم، بالتأثير في أفكار الناس وأفعالهم، والدفع بالكثيرين للتصويت لمرشح معين، مثلما تفعل الشركات في الترويج لبضاعتها، على شكل ومضات إشهارية تلفزية أو إذاعية عبر وسائل الإعلام العمومية أو الخاصة، أو عن طريق لوحات وملصقات على الطريق العام وعلى وسائل النقل أو على شكل إعلانات في الصحف المكتوبة ولافتات وعناوين على مواقع الويب. وسواء كانت بمقابل مادي أو مجانا، فهي تقليد بات مألوفا وأمرا مشروعا وظاهرة شائعة في الديمقراطيات العريقة، لكن تحت محاسبة المواطنين ومراقبة القضاء، لأنه -وكما يقال- "ليس بين الحرية والفوضى إلا شعرة دقيقة" تجب المحافظة عليها حتى لا تتحول الدعاية إلى حملات متخلفة، ينفر المواطن من عباراتها الجوفاء، ولافتاتها البلهاء المستخفة بذكاء المغاربة، المحتقرة لقيمهم، المستهترة بحقوقهم، والمحتقرة لتطلعاتهم، والتي تجاهد بها الأحزاب ذات القيم البالية، لاستباحتهم وتعليبهم وتحشيدهم خلف معتقدات مهترءة الخارجة من أقبية الشعوذة المظلمة وجعلها سمة لهم..

لاشك أنه لم يعد كافياً إعلان المواطن عن مواقفه حيال الأحزاب بوسائط التجمهر والاحتجاج والإضراب، أو بالتّندر والتفكّه والتنكيت على قيادياتها ورموزها، أو بالعزوف عن الإقبال على تجمعاتها ومهرجاناتها، أو بالاستنكاف عن المشاركة في التصويت لها، بل باتت مسؤولية المواطن تستوجب إجبار الأحزاب على احترام رأيه وتقديره من خلال العملية الديموقراطية المتمثلة أساسا في المشاركة المكثفة في الانتخابات. فمن يحب المغرب عليه أن يشارك في الانتخابات، و يوجه الناخبين لما فيه مصلحة الوطن أولا وأخيرا، حتى يتمكنوا من اختيار من يمثلهم أحسن تمثيل، الذي لا يكفي فيه أن يكون المنتخب متدينا فقط، كما لا يكفي فيه أن يكون سياسيا فقط، بل يجب أن يكون إلى جانبهما من أهل الإخلاص والعمل وذوي الصدق والخبرة، وأصحاب العلم والأمانة، الذين تتوفر فيهم مواصفات الإدراك السياسي بالواقع والمشاكل المحلية والمركزية، والواعي بالخريطة السياسية للقوى المجتمعية وكيفية التعامل معها، ويمتلكون القدرة على البحث عن الحلول الممكنة، بما يفهمون ويعرفون عن الميزانيات، وكيف تتكون، وكيف تُقرأ، وكيف تُناقش، وكيف تُسائل الحكومة عنها، وتُحاسب عليها وفيها، وكيف تُفند بياناتها لتسحب في النهاية الثقة منها..

ــ ولن يتأتى ذلك إلا بمجلس حقيقي كفء وفعال يتمكن من الانطلاق بالمغرب نحو آفاق رحبة، ولبناء مثل هذا المجلس الكفء والفعال، لابد للناخب أن يتعرف على كل المرشحين لذلك المجلس عبر دعاية انتخابية معقولة، بلا غش أو تدليس، تمكن الناخب من الإدلاء بموقفه، وهو في كامل وعيه بما يدور حوله، من خلال صوته الذي يمنحه للمرشح النظيف اليد الحسن السمعة، الكفء الذي يستطيع أداء واجبه في التغيير والتطوير والإصلاح كاملا بما له من الشجاعة والحصافة الكافية للتعبير عن الرأي المطلوبة لمواجهة الفساد والانحراف والتربح السياسي والاقتصادي، لأن مهام النائب البرلماني اليوم –حسب الدستور الجديد- جسيمة ومسؤولياته خطيرة، وجلها مهام مركزية تعنى بمراقبة الحكومة ومحاسبتها وصياغة القوانين والتشريعات وصياغة الميزانية العامة، والنائب الناجح هو الذي يعرف جيدا الهدف من وجوده بمجلس النواب والمهام التي عليه القيام بها، من تشريع ومحاسبة الحكومة ومراقبة أدائها والبت في قضايا الشعب المصيرية والكلية للوطن، كتقرير العلاقات الدولية والصحة والتعليم والخدمات والنمو الاقتصادي للدولة وكل ما يهم الوطن قانونيا واقتصاديا وسياسيا، فهو كالمتقدم لوظيفة مهنية مرموقة، يشترط في الراغب في ولوجها، أن يكون على علم كبير بمجال القانون والاقتصاد والسياسة، لأن تسعين في المئة من عمله يدور حول تلك العلوم، فلا يعقل أن يقبل لها من يفتقر إلى أبسط قواعد المعرفة القانونية والاقتصادية والسياسية للبلاد، فميزة أي برلمان ليس في وجود الإطارات الحزبية والواجهات السياسية بقدر ما يكمن امتيازه في فاعلية هذه الإطارات والواجهات وقدرتها على التعبير عن نفسها بشكل صائب ومفيد، ولذلك قد لا يجد المتابع فروقاً في المسميات بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة فيما يرتبط بتشكيل الأنظمة السياسية، إلا في الإنجاز والعمل على أرض الواقع، كفارق واضح.

لكن، ومع الأسف الشديد، أنه مازال هناك من يتصور أن ممثل الشعب(نائب البرلمان) بعد 25 نونبر هو نفسه قبلها، ويظن أن مهامه ستنحصر في تلك الخدمات والمصالح التي كان يجلبها بتردده على مكاتب المسؤولين والوزراء، لمن انتخبوه وساندوه، فإما هو خاطئ أو واهم، أو أنه لم يستطع استيعاب حجم الحركة السياسية ونشاطها المتوقع بإذن الله، وإما أنه لم يدرك بعد حجم التغيير الذي حدث في عقلية المواطن المغربي وخاصة الشباب منهم، الذين لا يقبلون أن يُخدعوا كما فُعل بآبائهم، وبذلك لن يصوتوا لنواب دون المستوى الفكري والثقافي، لا يدافعون إلا عن دولتهم، ونفوذهم وسلطتهم، وأموالهم، وفي أحسن الأحوال يدافعون عن كونهم أفضل وأكثر أخلاقًا ليداروا عريهم الحقيقي.

والسؤال المهم الذي أختم به مقالتي هو: في أي جانب تقف أنت أيها القارئ من نواب بلد يتجردون من رسالة يحملونها، ومن قيم يبشرون بها ويختفون عن دوائرهم بمجرد أن يتم انتخابهم؟.

ملاحظة: الدعاية(La propagande)مصطلح قديم ظهر في 22 حزيران 1922 عندما انشأ البابا كريكوري الخامس عشر فصيلا خاصا بالدعاية للمذهب الكاثوليكي المسيحي لمواجهة المذهب البروتستانتي في العالم الجديد أطلق عليهم اسم(الحشود السرية لدعاية الإيمان)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى