الثلاثاء ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم حسن توفيق

الطيور تنقضُّ على الأرض العربية!

( 1 ) هيتشكوك والمَشاهِدُ المروعة

إنها حقا مشاهد مفزعة، بل مروعة، وكلها تقدم لنا صورة متكاملة الملامح لما جرى في إحدى المدن الأمريكية التي تقع على ساحل خليج بوديجا، حيث تقوم مجموعات كبيرة من الطيور الجارحة بغزو تلك المدينة، وتشرع على الفور – بعد أن تتجمع بالمئات بل بالآلاف فوق أعمدة الكهرباء - بتحطيم وكسر زجاج شبابيك البيوت بمناقيرها المسنونة الحادة تمهيدا لاقتحامها والبطش بكل الموجودين داخلها، أطفالا كانوا أو نساء مسنات، كما تقوم بهجوم كاسح على حشود الناس الهائمين على وجوههم، وهم في حالة من الذعر والفوضى تدعو للإشفاق والرثاء، ونتيجة لتلك الحالة من الذعر والفوضى تقع حوادث مأساوية، وتشتعل حرائق ضخمة في محطة للتزود بالوقود وفي بنايات كثيرة من بنايات تلك المدينة الأمريكية.

هذا الذي جرى في تلك المدينة الأمريكية ليس من نسج الخيال، بقدر ما هو ماثل ومتجسد في مجموعة من القصص الإخبارية الحقيقية التي تتعلق بغزو غامض للطيور في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، وإذا كان دافني دو موريه هو الذي كتب تلك القصص، فإن مخرجا سينمائيا عبقريا هو الذي استوحى منها فيلما شهيرا بعنوان الطيور، وقد عرض هذاالفيلم سنة 1963، وكنت واحدا ممن شاهدوه في إحدى دور السينما بالقاهرة سنة 1964 وظللت - على امتداد عدة أيام بلياليها - أعيش في أجوائه الكابوسية المرعبة، ومنذ مشاهدتي الأولى لهذا الفيلم وحتى الآن فإني أتذكر أحداثه ووقائعه بصورة تلقائية كلما حلت بإحدى مناطق العالم كارثة من الكوارث الطبيعية المتمثلة في زلازل أو فيضانات أو ثورات براكين كانت خامدة، بل إني – أحيانا – أقوم بعقد مقارنات بين ما ارتكبته تلك الطيور وما تقوم بارتكابه قوى الطغيان والتسلط والإرهاب في كل مكان وزمان!

الطيور هو الفيلم التاسع والأربعون من سلسلة أفلام المخرج العبقري ألفريد هيتشكوك، وكلها أفلام تتسم بالإثارة والتشويق وببث الرعب في قلوب مشاهديها حتى لو كانوا من متبلدي الإحساس، وقد شهدت إحدى مناطق لندن ميلاد هيتشكوك يوم 13 أغسطس 1899 ورحل عن عالمنا يوم 29 أبريل 1980 عن ثمانين سنة، قضاها عاشقا لفن السينما وواحدا من أبرع المخرجين في العالم كله، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد قدرت عبقريته، ولهذا أصبح مواطنا أمريكيا مع احتفاظه بجنسيته البريطانية ابتداء من سنة 1956.

ولا بد لي من أن أعترف بأن فيلم الطيور قد سيطر على تفكيري عندما شاهدت مع ملايين المشاهدين على الهواء مباشرة وقائع ما جرى يوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 في كل من نيويورك وواشنطن، حين انهارت المباني الأسطورية العملاقة التي ترمز للقوة الأمريكية في الاقتصاد وفي الشؤون العسكرية، فقد انهارت تلك المباني خلال زمن وجيز، تماما كما تنهار البيوت الكرتونية في الأفلام المخصصة للأطفال!

الجديد فيما يتعلق بهذا الفيلم يتمثل فيما قرأته في أكثر من جريدة عربية، حيث كتبت إحدى هذه الجرائد يوم 17 مايو سنة 2011 تحت عنوان طيور هيتشكوك تعود إلى الحياة في أستراليا: في عام 1963، أدهش السينمائي ألفريد هيتـــشكوك، الجمهور بفيلم رعب عنوانه «الطيور»، حيث تصـــاب الطـــيور في قرية صغيرة بوحشية غريبة، فتروح تتجمع فوق أعمدة الكهرباء وفي أماكن أخرى من الطريق العام قبل أن تنقض على البشر فتفتك بهم بلا رحمة، خصوصاً الأطفال والشيوخ والنساء.

وها هي مدينة سيدني الأسترالية تعيش حالياً ظروفاً مماثلة، لكن من دون أن تبلغ الحد المأساوي الذي ميّز الفيلم بطبيعة الحال. فقد لوحظ تجمع طيور فيها من أنواع مختلفة، ظهر كل يوم تقريباً، بالقرب من مدارس الأطفال خصوصاً، حيث تنتظر خروج التلاميذ وتهاجمهم بهدف سرقة الأكياس التي يحملون فيها طعامهم. ويحدث أن يصاب الصغار بجروح إذ يحاولون الدفاع عن وجباتهم الغذائية ضد هجوم الطيور، لا سيما الكبيرة منها!

وعلى أي حال فإنه إذا كانت الطيور قد انقضت على أرض أمريكية خلال ستينيات القرن العشرين الغارب، ثم واصلت انقضاضها خلال هذه السنة – 2011 - على أرض أخرى في القارة الأسترالية، فإن ما يثير قلقي بل ما يبث الرعب في قلبي يتمثل في طيور جارحة ومرعبة من مختلف الفصائل والأشكال والألوان، لكنها – كلها – تحاول الانقضاض على الأرض العربية!

( 2 ) على الأرض ما يستحق الحياة

لكي يكون الموت حقا، ينبغي أن تكون الحياة عادلة.. هذا ما أكده ناظم حكمت، وقبل أن يؤكد هذا الشاعرالتركي العظيم ما أكده، كانت البشرية جمعاء تسعى لتحقيق العدل على وجه الأرض في كل مكان وعلى امتداد كل زمان، فلو نظرنا إلى الثورات الشعبية أو العسكرية على حد سواء، فإننا نجد أن القاسم المشترك بينها يتمثل في محاولات إسقاط رموز الظلم والطغيان، ولا نستثني بالطبع سوى تلك الثورات التي تعارفنا على أن نسميها الثورات المضادة.
وعلى وجه الأرض استطاع الإنسان بالعقل وبالقدرة على الإبداع والابتكار أن ينشيء حضارات إنسانية متعاقبة في الشرق وفي الغرب، لكن هناك من تلذذوا وما زالوا يتلذذون بمرأى الخراب، وهناك متشنجون لا يحبون أن يروا إلا ما يحبون دون سواه، ويرفضون تماما حقوق الآخرين في أن يحبوا ما يروق لهم، وفقا لأذواقهم ومعتقداتهم وطبيعة البيئات التي ينتمون إليها، وغير هؤلاء وأولئك هناك من تدفعهم شهوات أطماعهم لأن يقتنصوا ما لدى سواهم دون وجه حق، فإذا ما امتلكوا من القوة ما يرضون به شهواتهم اندفعوا لسرقة أوطان الآخرين، وقد تتعدى وقاحتهم كل الحدود حين يستولون على أراض ليست لهم بدعوى أنها أراض بغير سكان، وتتجلى هذه الوقاحة في المقولة الزائفة التي كان الصهاينة يرددونها وهم ينطلقون كالذئاب إلى فلسطين: هذه أرض بلا شعب لشعب بلا أرض!

وإذا كنا قد رأينا طيور ألفريد هيتشكوك – سنة 1963 - وهي تنقض على الناس، أطفالا كانوا أو عجائز أو نساء، فإن هناك طيورا جارحة تنقض على أرضنا العربية من الداخل ومن الخارج، قادمة من مختلف الجهات، وعلى الرغم من تنافرها فيما بينها إلا أن لها هدفا واحدا يتمثل في بذر بذور الفوضى وإشاعة الخراب، وبالطبع فإن الاختلاف الجوهري بين طيور هيتشكوك وتلك الطيور التي تنقض على أرضنا العربية – منذ أواخر سنة 2010 وإلى الآن - يتمثل في أن الأولى معروفة الأنواع فمنها - على سبيل المثال - نوارس توحشت فلم تعد تؤنس البحارة وهي ترفرف بالقرب من سفنهم ومراكبهم، حيث أصبح هدفها – منذ أن توحشت - أن تفقأ العيون وتدمي أجساد الناس السائرين في الشوارع، وتنهش أجساد الآمنين القابعين في بيوتهم، بعد أن تقتحم الشبابيك وتكسر الأبواب، أما الطيور التي تنقض على أرضنا العربية، فإنها كانت محبوسة داخل أقفاص قديمة، يكسو الصدأ أسلاكها المتكلسة، وكان هناك حراس متجهمو الوجوه يقفون باستمرار حول كل قفص منها، لكي يحبطوا أية محاولة للفرار، وظل الحال على هذا المنوال إلى نام الحراس المتعبون والمنهكون، وانفتحت أبواب الأقفاص بمجرد أن هشمتها المناقير الحادة في كل من تونس ومصر وليبيا وسواها، فإذا بتلك الطيور تندفع خارجة وهائجة لتملأ الأجواء، أسرابا تلوأسراب، لكنها لم تكن طيورا متآلفة ولا متجانسة، بقدر ما كانت متنافرة الأشكال والألوان، كما أنها ظلت متشنجة فيما تطلقه حناجرها من أصوات ومن صيحات!

الطيور على أشكالها تقع.. هذا ما جرى بالفعل، فهناك طيور وديعة، ظلت ترفرف شوقا للحرية وهي تندفع نحو أغصان الأشجار، حالمة بالعثور على القش الذي يتيح لكل منها أن يبني العش، لكي ياوي إليه عند غروب كل شمس.
طيور أخرى لم تكن محبوسة في أقفاص، لكنها جاءت من الخارج لتخرب الأشجار وتحاول حرمان الطيور الوديعة من حقها في العيش ومن حلمها بالعش، فكان أن تجددت وترددت صيحة أمير الشعراء:

أحرامٌ على بلابله الدوحُ..

حلالٌ للطيرِ من كل جنسِ؟

هكذا اندفعت الطيور.. اندفعت وهي تتصايح وتتنافر وتتشابك فيما بينها، دون أن يسلم من مناقيرها المسنونة والحادة كل الناس البسطاء الذين يسعون وراء أرزاقهم ليوفروا القوت لهم ولعيالهم.. هذا فصيل من تلك الطيور يتوعد بأن الإعدام هو الحل لكل من يرى غير ما يراه، وهذا فصيل آخر يتباهى بريشه الأخضر، ويؤكد ضرورة إلغاء ما عداه من الألوان، وهذا فصيل مختلف عن هذا وذاك، يحاول أن يقلد الطيور القادمة من الخارج، ويريد أن يفرض مناخا غريبا يتشابه مع مناخ تلك الطيور التي يحاول تقليدها ببلاهة وغرور وغباء!

وتظل الطيور تتصايح.. تتنافر.. تتشابك، لكنها – كلها – تنقضّ على الأرض العربية، بينما يحاول الناس البسطاء أن يسعوا وراء أرزاقهم، وكأنهم يرددون – دون قصد – مقولة محمود درويش: على الأرض ما يستحق الحياة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى