الاثنين ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم عبد الجبار الحمدي

تقلبات في زمن التغيير...

يخرج للسير أمامها، متى ما ألبسته الأكياس الكبيرة، تلك التي غطت ظهره كله، كما انه اعتاد على القطعة الحديدية في فمه، بعد أن مضغ معدنها، واستساغ برادتها، أما هي فقد أخذت من نفسها فارسة بمسكها لجامه، رغم أنه هو من يقودها نحو طرق متعرجة مختلفة، ذاك بعد أن نسخ مواقع حاويات النفايات في دماغه، كأنه جهاز المواقع التكنولوجي، قضى عمره مثل جسده تعبا، سعيد بخروجه وتسوقه للطعام من تلك الحاويات، فهو بالكاد تراه يشبع حينما يقدم له الأكل، إنها بقايا مخلفات من هذا وذاك، تخرج هي للبحث عن علب الصفيح، الخاصة بالمشروبات الغازية، وما أكثرها استهلاكا من البشر، فقد أمست الترياق الحقيقي لكل الأفواه، التي عدمت الذوق لمثلها، فأصبح اللسان أيضا عديم الإحساس، والتذوق للمشروبات المحلية، فالمستورد هو بسعر المحلي، وهذا ما جعل القدرة الاستهلاكية اكبر من المتوقع، كل ذلك لا يعنيه أو يعنيها، المهم الكم الذي تجمعه منها، محلية كانت أم مستوردة، نفق الطموح بداخلها، بعد أن أمسكت بزمام المسئولية، إنها تعيل أطفال وأم لزوج، خرج بلا رجعة، فلهمت الهموم في أوقات مستمرة، ها هي تسير مع دليل دربها، الذي امتهن معرفة الأثر وما يدل عليه، إنه كان دليل زوجها في السابق، والآن معها، تسير بجانبه متلثمة خجلا، من أناس أفقهم أضيق من أن يدركوا أنها أرملة في مهاب ريح، تعمل لتعيل من حملتهم تسعً بعد تسع، ليولدوا أيتاما، في زمن كثر اليتم فيه برغم وجود الآباء والأمهات، فاليتم الذي يعانيه الإنسان في وطن التغيير بات عوقا واضحا، وعاهة مستديمة، لم يدركها إلا من رافق الفقر والحاجة قرناء دهر، سار بها يجرها من حاوية إلى أخرى، الغريب!! أن الحاويات في ذلك الصباح قد فرغت هي الأخرى من العلب المعدنية، شغل ذلك بالها، وبال الحمار، الذي استغرب!! فقد حدثته نفسه عن هذه الصدفة الغريبة، بعد ملاحظته نفاذ قوت يوم صاحبته، يكون هو المستفيد الوحيد، حيث انه ملأ فراغات جوعه، من بقايا أطعمة مختلفة، لو أدخر أصحابها رميها، لفاضت وسدت حاجة الكثير من المعوزين، لكن تبذير بخير غير مسبوق، سبق طبعهم، فباتوا يأكلون حد الشبع، ومن ثم يرمون البقايا دون وجع، أو تفكير بحاجة الغير، إنها فضلات هذا تبريرهم، هز رأسه الكبير تعبيرا عن ضجر، من عثرة حظ، ربتت هي على ظهره وكأنها تقول له: لا عليك ربما سنجد في الحاوية الأخرى، هناك... وأشارت برأسها.. ما يمكننا من بيعه وشراء طعام هذا اليوم، لم يكترث لرأيها فقد نهق بصوت أصم آذانها، جري مسرعا ساحبا إياها بقوة، حاولت تهدئة روعه بالكلام والرفق به، إلا انه استشاط غضبا وانفعالا، وبعد جزعها عن ردعه، عمدت إلى ضربه لأكثر من مرة، توقف فجأة!! أدار رأسه نحوها وهو يعفط زبدً ومخاطً فاض أحدهما على الآخر، فابتلع الجميع دون تميز، أشفقت عليه، أحس بشفقتها، ركن إلى الهدوء، سمعها تقول: لم يكن بنيتي... ولا أريد ضربك، لكنك أجبرتني على فعل ذلك، انك السبب.. فأنت حمار عنيد، والآن هيا سر بي إلى تلك الحاوية، عَلّنا نجد ما يفيدنا فيها، كان قد لبس الألم جلدا أخر، أما الإحساس فأصبح اسما مجهولا ملتصق به، فهو حمار لا يحس ولا يشعر، كما يفهم الكثير من بني البشر، إضافة تصنيفه فاقدا للعقل والأهلية، قال في نفسه: شأنها وما تريد، فما أنا سوى حيوان بلا عقل كما تدعي، لنرى ماذا سيفعل العقل لها؟ هل سيطعمها أو يسد فاقة أطفالها من الجوع؟ وصلت إلى الحاوية البلاستيكية الكبيرة، والتي اعتاد الناس أن لا يرموا النفايات فيها بقايا الطعام، تلك الحاوية التي تُسرق في الكثير من الأوقات، لتكون مخزنا، أو تستخدم كبرميل ماء، متى ما كانت جديدة، يا لهم من بشر!! كل شيء عندهم يبرر بحلال أو حرام، رغم أن الحرام معروف، فبات كل شيء حلال، حتى المحرم، جلست هي تقلب النفايات بحثا عن العلب، أزكمت الرائحة أنفه، سار مبتعدا عنها، أما هي فقد تلثمت، وبات بخار النفايات وعفونتها لا يصلها تقريبا، عرج مبتعدا أكثر، وقف عند ركن الشارع، ليرى رجلا يجمع علب الصفيح من حاوية تقبع أمام منزل فخم كبير، عاد إليها بعجل، هز رأسه طالبا منها اللحاق به، فهمت ردة فعله، تبعته فرأت ما رأى، اقتربت بدورها لتتقاسم في جمع، رغم علمها أن ذلك قد يكون تطاولا على حقوق مصلحة، وتشابه في عمل وصنف، لكنها وقد اقترب النهار من منتصفه، رأت إنها لم تجمع أي شيء، دارت من الناحية الأخرى درءا لفضول ونزاع، رآها من كان شكله لا يدل على حاجة، أو ممن يجمعون علب الصفيح، بادرها قائلا: ماذا تفعلين؟؟ هيا تحركي من هنا، إنها حاوية نفايات منزلي، فلا تعبثي وتنثري ما بها، قالت: لا.. أبدا ولكني أحاول لملمة وجمع علب الصفيح كما تفعل أنت ..

ماذا!!!؟ علب الصفيح، هيا أرفعي يدك، ابتعدي عن حاويتي، ماذا تريني فاعلا!؟ إني أحاول جمع تلك علب الصفيح منها، لقد رموا أهلي علب المشروبات الغازية، رغم تحذيري لهم مرارا، وبعد أن طلبت منهم جمعها ليتسنى لي بيعها، إلى من هم من أمثالك، فهناك من يشتريها بالكيلو، أليس كذلك؟؟

استغربت من كلامه!! وردة فعله وَحِدَته، فقالت: لكن يا سيدي.. ما لك وعلب الصفيح!؟ أرى أن الله قد انعم عليك وأعطاك الكثير من نعمه.... لم تكمل حديثها حتى قفز عليها محتدا، وبغضب صارخا..

ما لكِ وما عندي، هل جمعته من ثروة أبيك؟ إني رجل عصامي، بنيت نفسي بنفسي، لم يكن لأحد فضل علي أبدا.. يا لك من امرأة حاقدة، هيا اذهبي من هنا، قبل أن أمد يدي عليك، هيا انقلعي لعنة الله عليكِ...

ركبها الفزع رعشة وبكاء، شعر الحمار بإهانتها ، اقترب من الرجل محاولا دفعه بعيدا عنها، إلا انه تلقى ضربة قوية منه، تصرف كحمار حقيقي، رفسه رفسة ألقت به بعيدا، كاسرا أحد أضلاعه..

صرخ الرجل متألما... تجمع الناس حولهما، خرجت عائلة الرجل، فوجدته ممدا على الأرض، والناس من حوله يتفرجون على نزاع، بعد أن تناثرت علب الصفيح من الكيس، الذي كان يجمعها فيه، أُحرج البعض من أهله، لم يكن بجانبه سوى ولده الشاب، الذي هرع إلى مساعدته محرجا من الجيران، أما هو فلا زال يمسك بكيس علب الصفيح، البعض ضحك على منظره بعد أن رفسه الحمار بقوة، دفاعا عن صاحبته، التي انزوت خجلا وخوفا، من أناس لم يشعروا بوجودها كإنسانة مثلهم، صرخ الرجل، اقبضوا عليها.. لقد اعتدت علي، لقد ضربتني، وحاولت سرقة علب الصفيح من حاوية نفاياتي، أطبق ولده بيده على فمه محاولا إسكاته حياءً، إلا أن حياء سقط في زمن تغيرت النواميس والمعايير فيه، سبب تغيير نفوس رافقها بيع ضمير، ناهيك عن طغيان حمل بداخله الأنا مقصلة، تقطع أرزاق الفقراء ومقدراتهم، بَيدَ أن الكثير نشر العناوبن، كفالة الفقراء واجب الدولة، حاولت الهروب والخروج من المأزق، بشكل يحفظ كرامتها وماء وجهها، استغرب أكثر من رافقها!!! ذاك الذي ظن أن كثرة حاويات النفايات تعني الرفاهية للجميع، أدرك ساعتها أن كثرتها لا يعني أن الخير كثير، بل الفقر المبطن للكثير من الضعفاء والمساكين، يا لي من حمار؟!! كيف ظننت أن سيري وانتقالي من حاوية إلى حاوية عمل يسد رمق صاحبي؟ ومن كان مثله، وهناك غيره يبتلع مقدراتهم، ومصيرهم جرعة واحدة، يا له من عالم غريب!! عالم الإنسان هذا! كل شيء فيه يجب أن تدفع ثمنه من كرامتك، وإنسانيتك، اشكر الخالق حيث جعلني حيوانا لا يُميز، فقدري أن أكون حمارا في زمن الانكسار، بعد أن طالت أذنا الإنسان حتى فاقني عنادا وحمورية، هذا ما أراه، فقد استشرى مرض عالم الحيوان ( الغاب )، على عالم الإنسان، لتكون نظم الحياة فيه عبر تجمعات غريبة، وفئات مختلفة الأصناف والنوايا، لكنها اتفقت أن تعمل معا للسيطرة على مقدرات الحياة الآدمية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى