الخميس ١٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم نوزاد جعدان جعدان

اللامنتمي

تمر العواصف حبلى بالغبار الكثيف فيتوزع التراب وتضيع الريح دون أن تنتمي إلى مكان، صريرها يجتاح الأفق فتبدو كهمسات لمن يتدفأ قرب الموقد، وكصفعات لمن ينام في الخارج ويئن تحت وطأة أنين الريح، تنبح الكلاب في كانون لعلها ترى البرد عارياً كعادته، تتعرى الأشجار فتغتصبها الريح وحدها شجرة البلوط تبقى محتشمة، البحر لا يهدئ يمد قدميه الطويلتين غيتوجع الصخر وتلبس السماء ثوب البحر ويلبس البحر حجاباً سميكاً تتدفأ الأسماك وتزعق النوارس لتغدو ترنيمة للوجع.

وحده يقف على الشاطئ دون ان يتأثر بالبرد ففي داخله ليل من البرد بعد أن بدأ يرى الرؤى، يحدق في الأمواج العاتية فيرى وجه الأحباب وسفن من غادروا فيتوقف شراع الذاكرة كبيرق أسود، كل اهل البلدة تعرف أنس الشاب الثلاثيني الطويل القامة والنقي الثغر والمسرول الساقين المحطوط المتن ذو الشعر الطويل والذقن الطويلة، والذي اتخذ الليل حبا والقمر معشوقة، والصبح بغضاً والشمس عدواً.

يمر أنس كل ليلة على الشاطئ محدقا في ما حوله وفي سقط متاع الأسرار هذا العباب الهائج، ثم يتوقف عند صيّاد السمك إياد والذي يرمي صتارة سمكه في البحر الصائم فلا أسماك تخرج في كانون، وإياد رمز أخر من رموز البلدة يغتي للبحر والبحر لا يغدق عليه، ينتظر كل يوم ويرجع خاوي الوفاض بسلته الكبيرة التي تعتليها كوشة كبيرة.
هطل الثلج في ذلك اليوم بغزارة، وسُغدت الاشجار بقبعتها البيضاء وانتشت السماء حين اشترتْ ثوبها الأبيض كأن العيد آت ، أما انس تسكع في تلك الليلة في ارجاء البلدة البيضاء قرب الشاطئ محدقاً في البحر وضوء خافت على ظهر سفينة يرنو كمقبرة جماعية للآمال.
مرت نسمة ريح عاتية، واستوقف نظر انس فتاة تلبس ثوب الزفاف الابيض خالها قطغة ثلج أو رجل ثلج ولكن ميّزها من شعرها الأسود الطويل الذي يتدلى ليصل إلى عجزها.
فرك عينيه وتساءل من هذه المجنونة التي تتجرأ أن تخرج من منزلها في هذا المساء المثلج، اقترب منها والموج يصفع الصخر فيئن الصخر مصدرا الإنكسارات.
-مساء الخير!
التفتتْ الفتاة نحو أنس، كانت غاية في الجمال بشعرها الطويل الأسود وعينيها النجلاوين وبياض بشرتها الثلجية بيد أن وجهها شاحب وفي يدها زهرة خزامى ذابلة.
قالت بنبرة هادئة: مساء النور.
-اعتذر إن تطفلت عليك أو قطعت خلوتك ولكن الجو بارد والثلج يغطي المكان ستمرضين.
-وأنت الا تبرد؟!..
-أنا تعودت على الأمر وهذه طقوسي اليومية.
-وأنا تعودت الإنتظار والبرد.
-تنتظرين من؟!..
-حبيبي.
-آمل ألا يطول انتظارك، ما اسمك؟..
-آية، وأنت؟!..
-أنس .
- ما الذي يدفع بك كل يوم إلى التسكع ليلاً.
-مللتُ الحياة والبشر وربما لأني كشفت سر الحياة وانتهت اللعبة.
-وأي سر هذا؟!..
-هي أسرار كثيرة ألا ترين تفاهة الدنيا، لا عدالة ترسو الفروقات الطبقية تقتلنا، الفقير والغني الأسود والأبيض الليل والنهار، الثروة التي لا تورع بالتساوي، البعض يعمل الليل والنهار ولا يجني سوى طعام بطنه والآخرون لا يعملون تزداد ثروتهم كل ثانية ، لمَ لا نحيا سوية كلنا في قسط واحد، لمَ يُشترى الإنسان ويباع بالنقود التي أمست غاية وليست وسبلة ، أصبحت المبادئ تتناهى في غاية المال، لم أتأقلم مع المجتمع ، أحببت الصمت والتأمل وتعجبت لتفاهة الناس وسخف أحاديثهم وألاعيبهم السخيفة وفراغهم الممل، أردت ان يكون اصدقائي مثلي ولما أستطع فآثرت الصمت والبقاء وحيدا.
-ما الذي تبتغيه من الحياة؟!..
حكّ أنس مؤخرة رأسه وفكر ثم تلعثم قليلا وأجاب:
-الحياة قصيرة وعلينا أن نقدم شسئا لها ونسعى ما دام الزمان يمضي، قدمت بعض المخطوطات التي كتبتعا أردت أن أكتب بالبياض كل ما يعتلي ظلام نفسي، -هل تعلمين أن أسرار الحياة تؤرقني حدا وأحب التنقيب عن أسرارها التي تجعلني أشك في كل حقيقة على أنها وهم.
-ستؤلم نفسك وحين تصل إلى الحقيقة تكون النهاية حانت.
سطع القمر في تلك الليلة فيدا قاربا مبحرا وسفينة الشعراء .
-ماذا تعمل يا أنس ؟..
-عندما يتكاسل الجسد نعمل الروح، بقيت بين سراديب الكتب .
-إذاً هذي أسباب بعدك وزهدك؟
- بعضها ولكن منذ أن بدأت أرى الرؤى، حدث ذلك قبل عامين حين زرت قلعة قديمة أنا وصديقي ، وقفت أتأملها فتكلمت مع السلاطين والخدم ورقصت مع الجاريات، رأيت تاريخ تلك القلعة ونشأتها حسبني صديقي إني اكلم نفسي، هو لم يرَ غير الحجارة.
- ربما كنت تحلم.
-الحلم حقيقة أو وهم أخر أو تاريخ نهرب منه، هي الضفة الأخرى من الحياة، بالمناسبة ما سر بدلة العرس هذه؟!.
- هربت في ليلة عرسي وانتظر حبيبي.
- وأنا انتظرت حبيبتي فتزوجت غيري، هل اليوم كان عرسك؟!.
- منذ زمن طويل، لم اعد اذكر.
خيّم صمت رهيب على المكان فض هدوءه حفيف أشجار البلوط. كأنها تفتح فأل المستقبل.
-ألم تشعري بالبرد؟!..
-لا انا بخير لن أموت من البرد.
- أصبحنا اثنين لا يخشيان الموت، ممَ أخشى مادام النوم موت في تسمية مختلفة، الموت نوم طويل، تعبنا وشقينا في الحياة كثيرا ونهاية كل تعب راحة والراحة تعيد الطاقة لذا سنحيا ونموت كثيرا، "يصمت قليلا ثم يستطرد" أستأذنك الآن بالرحيل تباشير الصباح أينعت ولا أريد رؤية المدينة عارية على حقيقتها في ضوء النهار، هل لنا أن نلتقي ثانية؟!.
-سألقاك عندما أبتغي.
-ألن تغادري ؟!.
-لا سأنتظر.
غادر أنس إلى المنزل وصورة آية تسكن مخيلته، تبدأ غامضة الملامح ثم تتوضح كالثلج حين ينتحر على الأرض، وصل غرفته تقلب كثيرا وصابه ارق حاد فغاب الرقاد، بزغت الشمس ولم يتضايق أنس من أشعتها، رسم وجه آية على الجدار ولوّنها بلون الخزامى ثم مضى إلى الشاطئ والبحر يشد حباله، والغيم معلق كثوب على حبل غسيل الجبل أتراه ينتحر!، بحث عنها لم يجدها، انتظرها طويلا حتى غفا قلبلا، تلوّنت لوحة السماء باللون القائم ففتح انس عينيه وجدها جاثية قربه.
باغتته بنبرة هادئة:
-يبدو انك لم تنم؟!.
-تغير أخافه واستغرب منه.
-لمَ الخوف؟!.
-لا أعلم وجهك لم يغادر مرآة عيني البارحة.
-أنت لا تغرفني ولا تعرف شيئا عني.
-أحيانا نهوى أخدهم من صورته.
-لستُ فتاة تُهوى، ثم انا انتظر حبيبي.
- دعيني أشعر بقلبي يكفيني هذا لأنك نقلبين بقعتي الصغيرة إلى عالم واسع.
تكاثف هطول الثلج، وازداد بياض السماء كأنها حقول قطن، اعتلتْ آية صخرة وقفزت إلى البحر.
صرخ أنس مستنجدا وما من احد حوله، فقفز وراءها حتى كسر هدوء البحر فسخط العباب عليه في ليلة كشف الثلج أوراقه.
كان حفيف أشجار البلوط والزيزفون تلحن ترنيمة غريبة، وزهرة خزامى وحيدة على رمال الشاطئ أنهكها الماء المالح، لبس البحر تاج الشمس وذابت كل حقيقة ووهم، وانحل الثلج المسافر في ذلك الصباح الراحل، واستيقظت البلدة لتستقبل على شاطئ البحر حثتين إحداها لشاب مازالت محافظة على كل ملامحها والأخرى لفتاة لم يبق من ملامحها شيء سوى فستان العرس فقد أكلت الأسماك جثتها، وقف الصيّاد إياد على الشاطئ ورمى سلة صيده إلى لجة البحر حافظ الأسرار.
اسطنبول 27-7-2011

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى