السبت ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم رشا السرميطي

صور وحكايات

نلاحظ مؤخراً كثرة المصوّرين، سواءً كانوا هواةً أم مختصِّين بهذا العلم وتلك المهنة، لقد أصبحت فكرة التَّصوير مكتسبة ذاتياً لا مهنياً، بعد انتشار العديد من وسائل التِّكنولوجيا المستخدمة في التَّصوير، ووفرةِ المواقع الإلكترونية التي تُعلِّم فنون التَّصوير، ومع توَّفر الكاميرات بسعرٍ أقلٍ مما كانت عليه قبل سنوات، إلى جانب سهولة القيام بعملية التَّصوير، التي صارت ميّسرةً في أيامنا، لأنّ معظم أجهزة الهاتف النَّقال الحديثة، تحتوي على كاميرات ذات عدسات بدقة عالية يستطيع من خلالها الإنسان العادي اقتناص أجمل اللَّقطات وأصدقها تعبيراً، ليأسر المشاهد بالنَّظر إليها ساعات وساعات دون ملل أو كلل. لقد أصبَح التقاط الصور ليس حكراً على أحد، فالصَّغير والكبير يستطيعان التَّصوير، وكذلك الخبير والهاوي، لكِّن السؤال الذي أمضغه بين أسطري وكثير من القرَّاء يلوكه مثلي مبتلعاً الإجابة: لماذا نصوِّر؟

سألت الحروف أن تجيبني، فقالت: أصوِّر عندما أرى الجمال، فأحفظه في إطارِ خاصٍ بي، أهيم ونفسي متأملةً في الكون وإبداعات الخالق سبحانه وتعالى في خلقه. أصوّر الحياة من حولي عِبَراً لكل زائرٍ لذاكرتي وذكرياتي، وإذا ما مرَّ أحد المتجولين على صوري، رأى الورد النديَّ متلألئاً في صبحه تحت أشعة الشمس المشرقة، سبّح لله، فنلت ما قال أجراً من الكريم، وإذا تأمَّل العازف لحن العصافير في مقامات لقطاتي، عندما تغرّد فجراً تحمد الله بنوتةٍ عذبةٍ، ملؤها الثناء للقادر المقتدر، حمدت الله على ضعف هذه المخلوقات وقدرتها على الحياة بعظمة الأحرار، تحلِّق في السماء دون خوفٍ من أحد سوى الله، كُتب لي حمداً مثله بإذنه وبما أُثني يزيد نصيبي عن قدره، والأنهار والأودية وكذلك الجبال والسهول والأشجار، كل الطبيعة تشكر الله بطريقتها الخاصة، وعدستي تشكر الله أن أوجدني في زمنٍ اخْتُرعت به الكاميرا، أوثِّقُ أجمل ما تراه عينايَّ من الصور، واللحظات التي تركت في داخلي الأثر الخالد، بما يسُّر النَّفس سواء كانت سعيدة أم غير سعيدة، هنا أكون قد حملت رسالتي عبر صوري لكل مشاهد.

وسألت قلمي، فأجاب: أصوّر مشاعري وأحاسيسي بالأوقات التي تعيشني وأعيش فيها، وأحمل ما بين ألوان صوري كنايات عن ناياتٍ غائبة، تائهة أبحثُ عنها بين ألحان الآمال والتَّمني، وأسبح والغارق معي في تأمُّل لوحاتي، وأعلِّمه البحث مثلي تارةً، وأرغمه عليه تارةً أخرى. اسمحوا لي مجازاً أن أعتبرها لوحات وليست صوراً، لما قد يستطيع المصوّر رسمه بريشة نبض فؤاده وألوانه المتدفقة داخل أصابعه التي تضم الكاميرا، في لحظةٍ تدق في عالم النسيان معلنةً الصدى المُرتدّ إلينا، برهبةِ " تشيك" يعكس لنا مرآةً لذكرى حروفٍ خرجت من أسرار النَّفس الشائكة، صارت حرةً تتنقل أمام عيون المارة، تمارس سحرها عليهم، بتعويذة الإعجاب المفرد، هكذا اعتدتُ أن أُجهزَّ صُوري.

وعندما سألت الورق، ردّ عليّ قائلاً: أنا الحياة، والحياة صور ورقية في داخلي، قد تخرج يوماً من حنايا الروح، وتمر عبر الآلات الرقمية والمسارات الإلكترونية كي تعالجني، فأخرج بعد لحظةٍ جريئة يعلنني فيها المُصوِّر حقيقة من حقائق الحياة. ما الفرق إن كنت متلوِّناً بلونٍ أبيض أم أسود؟ أو كنت مزجاً ملوَّناً يجمع كثيراً من الدرجات والأزمنة؟ أنا الإنسان والإنسانية، وأنا العِلم والعالم والعَلم، وأنا المفهوم والفهم، ومن خلالي تُنشر الحكايات صوراً متنوعة.

أخذني الصمت قليلاً، وأنا أجلس على طاولتي، أحدّق في الأوراق أمامي، والقلم يسكن بين إصبعيَّ متناوماً، أرى الشمعة تتمايل بظلالها حولي، تغازلني وتقول لي صوّريني، فأنا النَّهار في ليلكِ، وأنا النُّور من حولكِ، وأنا الوسيلة إليكِ كي تكتبي، أولستُ أستحق بأن أكون أول من تصوِّرين، مادمتِ لي في السُّهاد تعشقين؟ وفنجان الشاي بقربها يصَّعد أبخرة الدخان الذي ينشر الدِّفء في المكان، يُغويني الآخر بصمتِ الصُّور الضَّبابية التي يرسمها على مرأى بصيرتي، فأحار ورغائبي المتعددة في التَّصوير، وأسأل نفسي من جديد: لماذا نُصوّر؟

سؤال مفتوح تتسِّم إجابته بالاتسِّاع، أتركه لكل مصوّرٍ ومصوّرةٍ، قد يقابلان صدفةً كلماتي، سواء كانا محترفين في التَّصوير أم موهوبين، لماذا نحن نُصوّر؟

ربما نصوّر لأننا نمارس ضرباً من ضروب الفن، وطقساً من طقوس الإبداع، نقتنص بعدساتنا لقطاتٍ للحظاتٍ قد لا تتكرر يوماً، ولأننا نؤمن بأمانة الصُّور في حمل المعاني، وجدارة المُصوِّر في امتلاك الثانية من الوقت، نُحضّر حقائب أفكارنا ونحزمها بفرحٍ وترحٍ، نطويها صورة بعد الأخرى في ألبوم حياتنا، ذكريات جمعتنا والكاميرا في صورٍ وحكايات.

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى