الاثنين ٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
بقلم حوا بطواش

المعلّمة أورا

كنت جالسة في مكاني المحبّب على الدرجات القديمة التي تقود الى فناء بيتنا، أنظر نحو القطط التي تتلاحق وتتشابك قرب شجرة الليمون، دون أن أراها حقا، حين سمعت صوتا ينادي باسمي من ورائي. كان ذلك صوت عمتي، وكانت عائدة من عملها في مصنع الملابس الذي في القرية. وقفت وهي ترميني بنظرة مستغربة، وبيدها تمسك حقيبتها السوداء.
سألت: "ما بك؟ لِم أنت جالسة هنا؟"

"كنت ألعب مع قطتي ميسي، ولكنها هربت مني وراحت الى صغارها."

"هل أزعجك أحد؟ هل ضربك إبراهيم مرة أخرى؟"

"لا، لم أكن بصحبته."

"اذن، ماذا حصل؟"

"لا شيء."

"هل عادت أمك من العمل؟"

"لا، ليس بعد."

"إذن، تعالي الى البيت واغسلي يديك. بعد قليل ستعود أمك، لا تنزلي الى تشيبغه* وتوسّخي نفسك."

لحقت بها الى داخل البيت. غسلت يدَيّ وذهبت لأرى ماذا تفعل نينا، أختي الصغيرة. عمرها خمسة، وهي أصغر مني بثلاث سنوات. إنها طفلة ظريفة... ولكن مزعجة. دائما تبكي ولا تريد أن تأكل. لا أدري لماذا. ربما لأن رجلها تؤلمها. هناك شيء ما على رجلها يؤلمها، ووالداي يأخذانها دائما الى الطبيب لمعالجتها. أحيانا أنا أيضا أذهب معهم. أبي يأخذ من عمي سيارته الصفراء، نركبها ونخرج من القرية ونذهب بعيدا الى الطبيب. في المرة الأخيرة التي ذهبنا فيها الى هناك لم أدخل معهم الى غرفة الطبيب. قالت لي أمي: "إبقَي أنت جالسة هنا وانتظرينا. سنعود بعد قليل. ولكن لا تتحرّكي من هنا." فبقيت جالسة في مقعدي، أنتظر خروجهم من الغرفة. أنا صرت كبيرة الآن، تقول لي أمي. يمكنني أن أجلس وحدي وأنتظرهم. لن يحدث شيء.

أنا أحب أختي الصغيرة نينا. ولكن، مشكلتي معها أنها تأخذ دفاتري من حقيبتي وتخربش عليها، وأنا أنزعج كثيرا حين تفعل ذلك، وأحيانا أبكي. فماذا أقول للمعلمة أورا إن رأت ذلك؟؟ لا بد أنها ستغضب كثيرا، فهي تقول لنا دائما إننا يجب أن نحافظ على كتبنا ودفاترنا وكل أدواتنا المدرسية، يجب أن لا نضيّعها ولا نخرّبها. لا أريد أن أغضِب معلمتي أبدا، ولا أريد أن أغضِبها غدا أيضا.

اليوم، بعد أن فحصت وظيفتي في الدفتر، كتبت لي: "جميل جدا" ثم رسمت خطا بجوارها وطلبت مني أن أفعل شيئا ما. ولكنني، للأسف، لم أفهم على كلامها، لأنها تتحدث بالعبرية فقط، ولا تعرف لغتنا الشركسية. وأنا ما زلت في الصف الثاني ولا أفهم كل الكلمات باللغة العبرية. إنها يهودية، ونحن شركس، نتحدث بلغتنا، ويجب أن نتعلّم اللغة العبرية منذ الصغر لأنها اللغة التي نتعلّم بها الدروس في المدرسة.

لا أدري ماذا أرادت مني المعلمة أن أفعل. أورا هي معلمة خوبخه*. إنها لا تصرخ علينا (أقصد نحن طلاب صفنا والطالبات)، إلا اذا أساء أحدنا التصرّف ولم يفعل ما يجب. إنها تحبّنا. ونحن أيضا نحبّها، رغم أنها تجلس أحيانا وسروالها الداخلي مكشوف على الآخر! والغريب أنها لا تبالي كثيرا بذلك، أو أنها لا تعرف، أو... لا أدري. ولكننا نحن الصغار نراها، فننادي بعضنا ونجلس من حولها ونتأمّلها بعجب ودهشة. أليس ذلك حقا حَيناب*؟! نحن الصغار نعرف أنه عيب جدا! هكذا علّمونا. ولكن، لماذا إذن بعض الكبار مثل المعلمة أورا لا يبالي بذلك؟

هل ستغضب مني؟ أنا قلقة جدا. أريد أن أقوم بكل واجباتي على أكمل وجه. أريد أن أكون خوبخه. أمي تقول لي إنني يجب أن أكون خوبخه، وكذلك يقول أبي وجدتي وعمتي. لا أريد أن أخذلهم. ولكن، ماذا أفعل؟ لا أدري ماذا أفعل.

أقبل الصباح.

كنت جاهزة للذهاب الى المدرسة. إنتظرت خروج صديقتي منال وأختها مرينا من بوّابة بيتهم المقابل لبيتنا. أنا أذهب معهما الى المدرسة دائما. إنهما أكبر مني ولا تخافان الذهاب الى المدرسة لوحدهما. أحيانا ينضمّ إلينا أيضا صديقي إبراهيم، الذي يدرس معي في نفس الصف. بيته ملاصق لبيتنا، وأستطيع أن أرى فناء بيتهم من نافذة المطبخ التي بالقرب من سرير جدي. أحيانا أجلس هناك على حافة النافذة وأتأمّل في بيتهم، فأرى جدة إبراهيم جالسة على مقعدها في فناء البيت، أو أم إبراهيم وهي تخرج من المطبخ وتدخل الى الغرفة الأخرى، أو جد إبراهيم وهو قادم الى بيتهم فتضجّ الحارة بأصواتهم، لأن جد إبراهيم لا يسمع جيدا، ومعه عكّازة يتّكئ عليها حين يمشي. أنا أخاف منه. أخاف من عكازته ومن صوته العالي، وأهرب حين ألمحه من بعيد. أشعر أنه غاضب دائما. إبراهيم لا يخاف منه، ويقول إنه طيب وهو يحبّه، لأنه يعطيه سكّريات لذيذة كلما أتى الى بيتهم. إنه يسكن في البيت الذي خلف بيتهم، ولكن ليس في حارتنا تماما، إنما في الحارة القريبة التي نهبط إليها عن طريق المنحدر. إبراهيم ينطّ أحيانا الى فناء بيتهم من فوق الجدار الذي يفصل بين بيتهم وبيت جدّه. هناك تعيش شهيرة مع جدّه. إنها ابنته. شهيرة أيضا صوتها عالٍ. أسمعها دائما وهي تتحدث مع جد إبراهيم، صوتها يصل الى بيتنا. سمعتها مرةً تعطس عندما كنت أمرّ من زقاق بيتهم. في البدء، لم أدرك تماما ماذا أسمع! تعجّبت مِن هذا الصوت العالي الذي انطلق فجأةً في فضاء قريتنا الصغيرة الهادئة من تجاه بيتهم! للوهلة الأولى، أصابني الخوف! وكنت على وشك أن أهرب وأنقلع. ولكن، قبل انقضاء اللحظة، وبعد اكتمال انفجار العطسة... أيقنت عدم خطورة الموقف، فأكملت سيري بشكل عادي.

وصلت الى المدرسة، ولم أكن قد فعلت شيئا بذلك الخط. وعندما فحصت المعلمة أورا دفتري ورأت الخط فارغا، قالت لي إنها طلبت مني البارحة ذلك الشيء، فلِم لم أفعل ما يجب؟ وطلبت مني الأمر مرة أخرى.

وقفت حائرة على مقربة من طلاب وطالبات صفي اللذين تجمّعوا حول طاولة المعلمة، ومعهم دفاترهم. نظرتُ الى دفتري الذي بيدي، أفكّر طويلا. ماذا تريد مني المعلمة أورا؟ ماذا عليّ أن أكتب على ذلك الخط؟!

حين رفعت نظري، رأيت أمام عينيّ زميلتي لينة جالسة في مكانها وتكتب في دفترها. قررت التوجّه إليها. إقتربت منها وسألتها: "ماذا كتبتِ على الخط الذي رسمته المعلمة؟" وحين فحصتُ في دفترها رأيت أن المعلمة كتبت لها بجانب الخط: خَتيمه*.

فعدت الى مقعدي ممتلئة بالسرور. أخيرا عرفت ماذا عليّ أن أفعل بذلك الخط!

ثم أسرعت بالعودة الى المعلمة كي تفحص دفتري وترى كيف نفّذتُ ما طلبت مني. إنتظرت دوري بين طلاب وطالبات صفي الذين التفّوا حولها، يتدافعون، يثرثرون، ويصرخون: "الآن دوري! أنا جئت قبلك!" والمعلمة أورا تصرخ بهم: "داي!! شيكيت!*"

إنتظرت طويلا. أنا لا أحب أن أتدافع مع الآخرين ولا أن أصرخ مثلهم. وأخيرا وصل دوري، فوضعت دفتري على الطاولة وأشرت لها بإصبعي الى الخط.

نظرت المعلمة أورا الى الدفتر وقالت: "ما زيه*؟! أنا طلبت منك إمضاء الوالدين، لا أن تكتبي كلمة إمضاء! حسنا، لا يهمّ. أتركيها."

فعدت الى مقعدي والحيرة ما تزال تطوّقني وأتساءل بداخلي: ماذا أرادت مني المعلمة أورا؟؟

* تشيبغه- مكان تحت بيتنا معتِم وموسّخ، يبدو كأنه كان بيتا لأحدهم يوما ما، واليوم يستعمل كمخزن... وبيت للعديد من قطط حارتنا.

* خوبخه- (كلمة شركسية) تعني: طيبة، جيدة، نشيطة.

* حَيناب- (كلمة شركسية) تعني: عيب.

* ختيمه- (كلمة عبرية) تعني: إمضاء.

* "داي، شيكيت"- (كلمة عبرية) تعني: "يكفي، هدوء."

* ما زيه- (كلمة عبرية) تعني: ما هذا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى