السبت ٢١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

تأملات في الإنسان العراقي

هذه مجرد انطباعات، خرجَ بها علماء علم النفس والاجتماع. إنني هنا أستعرضُ فقط ما تجود به ذاكرتي... عندما رجعتُ بها قليلاً إلى الوراء، وحاولت الغوص في أعماقها، لعلني أجد بعض مما علق فيها بخصوص شخصية الفرد العراقي... رجعتُ بذاكرتي عندما كنتُ طالباً أدرس أحوال الفرد العراقي في المدينة عامة والفلاح في الريف خاصة أثناء رحلتي الجامعية المنحوسة التي لم أستفيد من تلكَ السنوات سوى ضياع العمر هباء! فتخصصي كان: الإرشاد الزراعي، ومن خلال ذلك درسنا طبيعة المجتمع والفرد العراقي، لكي يتسنى لنا مساعدته لزيادة أنتاجه بأقل الجهود والتكاليف... سبحان الله، لم يكن لنا شغلٌ ولا شاغل سوى كيفَ نقنع الفلاح أن يقطف الطماطا وهي خضراء، كي تصل إلى يد المستهلك وهي حمراء بلون الدم! وهل هذا شيء يصعب فهمه؟!

لكن الموضوع له وجهٌ آخر لا يتعلق بالصعوبة أو السهولة، بل في كيفية الإقناع، وكيفَ تستطيع أن تغير الأعراف والقيم التي توارثها الفرد العراقي، على مدار عشرات، بل مئات السنين بلمح البصر؟

نراهم ينظرون لنا بوجوه مدبوغة وهم يسمعوننا ويضحكون في دواخل نفوسهم، بل أستطيع أن أجزم، بأنهم كانوا يشتموننا لتطفلنا على حياتهم، عفا الله عنهم! فالإنسان منا لا يقتنع بشيء إلا إذا أراد هو الاقتناع... وكما قيل لو وضعت الشمس في يمينه والقمر في يساره فسوفَ لن يقتنع.

بالإضافة إلى مقررات الجامعة التي أشرت إليها، وجدتُ في ذاكرتي بعض مما قرأت في علوم النفس والاجتماع للباحث العربي الكبير عبد الرحمن أبن خلدون، وللباحث العراقي المرحوم علي حسين الوردي، وكما قالَ الدكتور طه حسين، عندما كتبَ ثلاثية السيرة المحمدية: أنا لم أأتي بشيء من عندي، ثمَ أردفَ صادقاً: من يريد التأكد، ما عليه إلا الرجوع للسير النبوية التي كتبت من قبل، وهي متوفرة دونَ حرج في كل مكان. وأنا أردد نفس القول: فأنا لم أأتي بشيء من جيبي، بل اعتمدت على هذه التأملات كما قلت على مقررات الجامعة التي درستها دونَ حظ، وكتب الباحثين في مجال النفس والاجتماع. حتى إنني لم أكتب فيها مسودات ولم أعد كتابتها من قبل، بل اعتمدت على ما تسعفني به الذاكرة من معلومة، قد يطول وقد يقصر مداها، ودققت حروفها، كالمسامير على الخشب، على حاسوبي البطيء المتهالك مباشرةً، وكأنني في تحدٍ معَ الذاكرة! وما الحكمة إلا عند الله.

اتصلت هاتفياً قبلَ أيام بزميل لي أثناء الدراسة، وسألته أثناء الكلام عن عمله الحالي. فردَ عليَّ ضاحكاً وهو يقول: أُديرُ محلاً في سوق الشورجة في بغداد، أبيع فيه كافة أنواع البهارات! فباغتهُ مسامراً، كي أبعد عنه الحرج قائلاً: أنتَ خريج قسم البستنه وهذا العمل الذي تديره اليوم لا يبتعدُ كثيراً عن مجال تخصصك... فردَ عليَّ جاداً: كله محصل بعضه! فتذكرت متألماً المثل الذي يقول: منْ سارَ على الدربِ وصل! وقلت في نفسي ترى أي وصول هذا الذي وصلناه؟! فزميلي الآخر، خريج قسم الصناعات الغذائية يعمل اليوم بائعاً في صيدلية، وعندما سألته لماذا؟ قالَ لي بانكسار: علم الصيدلة يعتمد في بعض الأحيان على صناعة الأدوية من الأعشاب... وأنا كما تعلم درست تلك الصناعات على وجه من الوجوه! ثمَ استطردَ بخبث بريء يسألني: أليسَ كذلك يا صديقي؟!

أريد أن أقول من وراء هذين المثالين، أنَ الانطباعات التي ستتولد عندَ هؤلاء الزملاء لا يمكن أن تكون إيجابية، بل سوفَ تؤدي إلى تراكمات قد تجعلهم ينصحون أبناءهم فيما بعد على عدم تكرار تجربتهم وهم المحسوبين على الطبقة المتعلمة، إذا لم نقل المثقفة، سامحَ الله منْ كانَ السبب، وأبعده عن جناته!

تُعرف الشخصية بشكل عام، على إنها: المجموعة المنظمة من الأفكار والسجايا والميول والعادات التي يتميز بها شخص عن غيره.

إذن فالشخصية هي مجموعة تراكمات، تجلت في الإنسان معَ تقدمه بالعمر، إذ من المعروف أنَ الإنسان يولد بلا شخصية، كالحيوان. لكن الإنسان وبتفاعله معَ المجتمع ومعَ العوامل الطبيعية الموجودة أصلاً في داخله، تحدد نوع الشخصية وميولها.

إذن لا يولد الإنسان نبياً أو مجرماً كما كانَ يعتقد سابقاً، بل تتكون شخصيته القوية أو الضعيفة أو المسالمة أو المحبة للعنف كلما تقدم الإنسان بالعمر، معَ الأخذ بنظر الاعتبار العوامل الطبيعية التي أشرت إليها منذ قليل.

أنظر مثلاً عزيزي القارئ الكريم إلى الأغاني العراقية التي لا تعرف سوى البكاء، بينما يقال عن العراقي بأنه ميال في طبعه إلى التجاوز في حديثة على حقوق الآخرين عندما يتحدث معهم وهو لا يعلم. فصفة البكاء في الأغاني توفر للفرد العراقي شعور بالحزن دونَ أن يفقد شيء، لذلك تراه يتأثر بالأشياء التي تحيطه بسرعة، ويتفاعل معها بغيض كبير، حتى وإن كانَ الموضوع لا يستحق كل هذا الهجاء!

إنها تراكمات الأفكار والصور والكلمات التي علقت وتتعلق بنفسه دونَ أن يعلم. ترى ما قول القارئ عندما يشير الأب العراقي المحترم إلى أبنه الصغير بأن يتخذ في موضع معين جلسة هادئة، عقلانية لحين ما يتغير موقف أو حالة تلك الجلسة. كأن يكونوا في مطعم، أو يقومون بزيارة أقاربهم... فيتخذ الطفل شخصية غير تلك التي تعود عليها، وطبع لا يعرفه ويؤدي بحركات يجهلها... والسبب لأنَ أبيه طلب منه ذلك؟! والأب هنا يجعل أبنه مريضاً ويشكو معَ الوقت من داء نفسي يصعب علاجه بسهولة وهو الذي يطلب من أبنه أن يتخذ شخصية غير التي تعود أو تطبع عليها! فيكبر الطفل وهو يتخذ في حياته أكثر من شخصية: كأن يكون في مدرسته شخص، وفي داره وأمام أبيه المحترم شخص ومعَ أصحابه في الزقاق شخص آخر مختلف تماماً عما يتخذه في المدرسة أو البيت، ولله في خلقه شؤون.

يقال بأنَ الملابس وهيئة الإنسان لها دور كبير بناء أو اتجاه الشخصية. ونحن في العراق، ما شاء الله، كلنا عاشَ الوضع المتقلب الغريب... ففي الصباح يلبس الجندي ملابس الخاكي لينسى نفسه، وبعدَ الظهر نراه وهو يزاول عمله بملابس مغايره تماماً، كأن يكون ذلكَ الرجل محامياً وهو يدافع عن الحق، أو طبيباً وهو يعالج المرضى، وإذا بك لا تتعرف على ذلك الرجل لمجرد بضعة ساعات قد مضت. فالملابس التي كانَ يرتدها صباحاً توحي له بالاعتداء والضجر والتجاوز على القانون. بينما ما أن يدخل في ملابسه الجديدة النظيفة التي تنطق بالعدل والثقافة... حتى تراه شخص آخر تماماً وكأنه نزلَ من السماء للتو، والعياذُ بالله. هذه الصفة تجعل عندَ الإنسان شعور بالتناقض دون أن يعلم بمبررات أو أسباب حدوثها.

في إحدى الأيام شاهدتُ برنامج ألماني يتحدث حولَ هذا الموضوع. جعلوا شاباً يلبسُ ملابس أنيقة وجميلة وهو يحاول عبور الشارع رغم أنَ الإشارة الضوئية كانت حمراء، وإذا بالآخرين يتخذونه قدوه ويسيرون خلفه دونَ النظر إلى الإشارة الضوئية! في حين لبسَ نفس الشخص ملابس قديمة، بالية وغير نظيفة، وحاول أن يكرر التجربة... فلم يعبر خلفه أي شخص، ولم يتخذوه مثال أو قدوه. وهذا دليل على أنَ الملابس ونظافتها وهندام الإنسان لها تأثير كبير على أقناع الآخرين وهم لا يعلمون.

يقال بأنَ الفرد العراقي كثير الهجاء، كثير النقد، سريع الانفعال. وطبيعته تلك لها أسبابها، يجملها الدكتور الوردي بأنها طبيعية وتاريخية واجتماعية. فالنظام القبلي أحد هذه الأسباب التي جعلت منه يكون عشائرياً وفي نفس الوقت يخنع لقرارات الحكومة المركزية. كثيراً ما ينتقد غيره وينسى نفسه، بل حتى لو أتى أحدهم بدينٍ جديد... سرعان ما يتفنن العراقي بإيجاد ما ينقص من مبادئ هذا الدين وأن كانَ يصل حد الكمال. وهذا ما لاحظه كبار الباحثين الاجتماعين في شخصية العراقي التي تجعل منه يدافع عن حق معين من وجهة نظره وسرعان ما يتخلى عن نظرته تلك عندما تشتد الشدائد! فهو ميال إلى اتخاذ قرارات سريعة ارتجالية... يندم عليها في دواخل نفسه، ونادراً ما يصرح بها! ويقال بأنَ الفرد العراقي يكون ظالماً حد السادية معَ من هم أضعف منه! وخانعاً، مستسلماً معَ من هم أقوى منه.

في الختام، أرجو أن أكون قد وفقت حتى ولو بجزء يسير من المعرفة أو الفائدة، وقد أعدكم بالمزيد إن توفرَ لي الوقت، خاصةً عندما لا أفكر في نتاج قصصي يلهيني عن العالم بأسره.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى