السبت ٢٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

الصديق

بينَ شدٍ وجذب، ونقاشات حامية بينَ أهل مراد وعائلة سوسن، التي يودون خطبتها... اتفقت الأسرتان أقامة مراسيم الخطوبة والزواج في يومٍ واحد، على أن يكون بعد شهر من تاريخ الجلسة. ثمَ انطلقت الزغاريد الرنانة تشق الأفاق وانتشرَ الخبر كالبرق، سريعاً بينَ الجيران.

جلسَ مراد صامتاً، مفكراً، مهموماً وهو يقلب عينيه بالأشياء دونَ وعي وكأنه يغمز لأحد، على الرغم من السعادة التي حضي بها فور إعلان الموافقة التي كلفته سهر ليال بطولها إضافة إلى الأرق والقلق والحزن الذي كانَ ينتابه طول مدة الانتظار.

لكن خطورة الأمر الذي يفكر فيه يراه أبعد وأعمق من الموافقة التي حصلَ عليها بعدَ طول عذاب، وها هو الآن يجلسُ في استسلام عجيب لم يحسب له حسابه، ثمَ صاحَ بشكل عفوي: كيفَ يمكن لي التأكد... كيف؟ ثمَ وقفَ يتوسط الغرفة واجماً كالمتردد وهو يدمدم: يجب أن أجد طريقة مناسبة للاختبار، دونَ أن أثير الشك أو الريبة... فركَ فروه رأسه وسألَ نفسه متمتماً: كيفَ يمكن لي فعل ذلكَ دونَ خسارة أو خطأ؟ ثمَ استطردَ مقطباً، عليَّ توخي الحذر كي لا أجرح إحساسا أو أهين كرامة، وما أن توصلَ إلى هذه النتيجة، حتى انبعثت من وجهه إشراقه بهجة وسرور احتلت ذاكرته سريعاً وطغت عليها، بعدَ أن كانَ غائصاً في بحر من القلق والحيرة.

لم يتهاون أو يتمهل كثيراً... رفعَ سماعة الهاتف بإكبار وتكلمَ معَ صديقه فرحان، وهو ينقل له خبر إعلان خطوبته، وعبّرَ له عن سعادته وغبطته، ثمَ سأله عن رغبته بلقائه، وأبدا صديقه موافقته عن طيب خاطر وهو يهنئه ويتمنى له حياة جميلة مفعمة بالسعادة والطمأنينة...

استباح الغروب الأرض، وفرشَ أجنحته بكل اعتداد وجمال، انبعثت في الأجواء رائحة تشبه رائحة الخريف، متقلبة، منعشة ورطبة. جلسا في مقهى شعبي وهما يتبادلان أطراف الحديث ويحتسيان الشاي بلذة... فبادرَ مراد بسؤاله: هل تتذكر يا صديقي متى وكيفَ التقينا؟

 كيفَ لي أن أنسى؟ قبلَ شهرين وعشرة أيام بالتحديد، وعند عتبة المكتبة الأهلية... ثمَ واصلَ بجد وبلهفة قائلاً: لكنك أقلقتني وشغلتني عليكَ كثيراً، أرجوك أخبرني، ما وراءك ولماذا طلبتني متعجلاً؟ قل ولا تجعلني صريع الهواجس والأفكار وهي تدور في ذهني كدوامة البحر.

 هذا صحيح، أجابه مراد وقلبه ظافر بالنصر، ثمَ أردف وهو يبادله النظرات المشحونة بالتوجس:

أريدُ أن أعترفَ لك بشيء... قد يسبب لي الهناء أو المأساة.

 ما هذه الألغاز الغريبة.

 ردَ عليه مراد كالسهم: هل تساعدني؟

 على ماذا؟ ثمَ أردف مستفسراً: أفصح ولا تتردد.

جففَ مراد عرقه وهو يحاول كبحَ تطرف نفسه في الاسترسال بالحديث مرغماً... لكنه وبعدد تردد قال: في الحقيقة... أقصد، ثمَ صمتَ برهة... جعلت فرحان يشعر بذعر حقيقي تجاه صديقه الغارق في صراع داخلي ينتابه الآن وهو يحاول الشروع بالكلام... فسأله مستوضحاً: تقصد ماذا؟

 لا أعرف كيفَ أشرح لك الموقف( أجابه مراد)

 أبدأ من حيثُ تريد...

 نعم، سأقول لكَ دونَ لف أو دوران، وليكن ما يكون.

 هل الأمر بهذه الخطورة والتعقيد؟

عزيزي فرحان، أنتَ الشخص الوحيد الذي أثق به رغم قصر عمر صداقتنا، وأنا... ثمَ صمت وكأنه يتفاءل بالصمت.

 أنتَ ماذا؟

أنا أقترح عليك أن تقوم بدور تمثيلي من أجلي... ثمَ شرعَ يقول كالمعتذر: الهدف نبيل وشروطه لا تسعى إلا للخير والتوفيق، ثمَ باغته بالسؤال، ها... ماذا تقول؟

 كيفَ تريد أن أجيبك؟ ثمَ أردفَ بحنان ظاهري: بل الأصح، عن ماذا أجيبك؟ فإنكَ لم تقل شيئاً... وهو يدمدم سبحان الله في أمرك يا صديقي، قالَ فرحان ذلك وهو يشعر بالغثيان.

 أغفر لي حماقتي وخجلي... سأقول لك ما أفكر فيه مباشرةً وكما يقول المثل(( إذا كنت سنداناً فأصبر، وإذا مطرقة فأوجع)) ولكن أعطني أذنك الصاغية وقربها من فمي... وهمسَ فيها ما كانَ يجول بخاطره دفعة واحدة، ليشعر بعدها بالانشراح والراحة وكأنَ هماً أثقل من الحجر قد أنزاحَ للتو من على صدره... بينما ظلَ فرحان واجماً، صامتاً كالتمثال وهو يردد بشفاه شبه مطبقة المثل(( إذا تفرقت الغنم، قادتها العنزة الجرباء)) وقد أساءَ الظن بصديقه.

تربصت نظرات فرحان بالفتاة سوسن أينما ذهبت وطاردتها كظلها، وبطلب خاص من خطيبها الذي يحبها حد العشق والعبادة، وكأنه تناسى أيام الصبر والانتظار وتوسلاته المتكررة وبكائه الذي ما أن ينقطع إلا ويعاود النزول كمطر انكلترا، وها هو صديقه يجسُ نبضات خطيبته في الصاعدة والنازلة... وهو ينتظر النتائج بجزع رهيب أقسى من الموت.

لم تكن سوسن تعرف فرحان ولا صادفَ أن التقت به، مما سهلَ الرقابة التي يقوم بها بكل إخلاص لأجل صديقه... وفي إحدى الأيام وبعدَ ترصد محكم، تقربَ منها في شارع جانبي يؤدي إلى السوق، وإذا به يستوقفها بلطف ساحر ويشير لها مبتسماً: عذراً... أردتُ فقط أن أقول كلمة واحدة لا أكثر... فهل تسمحي لي بذلك؟

 انشرحت أساريرها فجأة وكأنها لم تصدق، وهي تجيبه بعفوية وغنج... تفضل.

 أنا فرحان، طالب في كلية الهندسة، رأيتك قبل فتره قصيرة عن كثب، ولم أستطع أن أتجاهل ابتسامتكِ الساحرة وجاذبية عينيك التي تفوق الوصف، ثمَ أردف بحماس جدي: لقد انشغلت بكِ دونَ إرادة وهذا ما دفعني إلى أن استوقفكِ الآن.

 رنت منها ضحكة، اهتزَ قلبه من مكانه... وغادرته وهو ترمقه بعينيها وكأنها تغازله.

عندَ مساء نفس اليوم قابله مراد في المقهى وطلبَ منه إيضاح ما خرجَ به من نتائج... فسأله بلهفة كادت تخنقه: ها... بشَّرني؟ أأُقُدم أم أحُجم؟

 تلوح من عينيه نظرة رزانة ومسؤولية، هَمَّ بالكلام ولم ينطق، حركَ شفتيه وكأنه يبتسم... سألَ نفسه وهو يغمغم: ماذا أقولُ له؟ خطيبتك على استعداد أن تتعرف على أول شخص صادفها وبسهولة، وماذا لو فسخَ خطوبته باندفاع وجنون؟! أو أن أجعله مغمضاً وستلهو به كما تشاء كالعجينة؟! ثمَ همسَ في سره شارد اللب: لكنني أحببتها فعلاً، وهذا نصيبي وقدري...وقد بادلتني نفس الشعور وكأننا نعرف بعضنا منذُ سنين، يا ربي ماذا أفعل وهو صديقي؟!

 ماذا هل ستجعلني أنتظر كثيراً؟ أرجوك قل لي، ما الذي جرى وحصل؟

اشتعلت في قلبه أحاسيس الشباب وعنفوان الحب والشهوة فأضمرها كالسر، وأجابَ مراد برقة مصطنعة: لم يحصل شيء يا صديقي، إنها ملاك يجب أن يعبد وليسَ فقط أن يحب، ثمَ أردف بكذب:

يا رجل إنها تحبك كثيراً، حتى أنني لم أصدق بأنَ هناك فتاة في العالم أجمع تحب خطيبها كما تحبك هي، ثمَ هتفَ بانفعال: هل تصدق؟

ببرود قاتل تلقى مراد كلماته وكأنها سهام تدخل من صدره وتخرج من ظهره... فقال بجمود هالك:

كذاب!

 منْ؟... أنا؟ وهو يبلع ريقه بصعوبة.

 نعم أنت كاذب...، ثمَ استطردَ يقول بتأثر صارخ وكأنه يحتضر:

لقد خيبت أملي فيك يا صديقي، كنتُ أفكر كيفَ تكون نفسي، وهذا طموحي وطبعي، حتى أنني حدثتُ نفسي قائلاً: سأجعله يدخلُ داري وأنا آمن. لكنك خسرتني وخنتني وخدعتني من أول اختبار أضعكَ فيه. يا للأسف على شبابنا السطحي البغيض، يتباهى بالكلمات ويخدع الآخرين بالعواطف المزيفة... تباً لكَ من منافق حقير. صمتَ وهو يخفض بصره وكأنه لا يحب النظر إليه مجدداً، فقال بعدم اكتراث:

لقد اتفقت معَ سوسن على أن نختبر إخلاصك ووفاءك! وها أنت تنجح في إرغامي على تركك وقلبي يظفر بحب واحترام خطيبتي عن جداره...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى