الثلاثاء ٧ شباط (فبراير) ٢٠١٢
بقلم عيسى حموتي أور

أولاد القايد

يحكى أن في إحدى القرى النائية، مسالكها وعرة، يعيش أهلها على قليل من الفلاحة الموسمية وتربية الماعز، في عزلة تامة عن العالم الخارجي، غير مسلك ضيق لا يتسع إلا لسيارة القائد، وفي غالب الأحيان تجرفه سيول المطر، ويحمل القائد الشباب كرها وطوعا على إعادة بنائه كلما جرفته سيول الأمطار. في معزل عن أبجدية العلم، وحروف الوقاية الصحية وحتى الإسلام الذي نزل بثقله في كل بقاع العالم لم يتمكن من إنزال ولو كتاب قرآني في هذه القرية، وإذا حدث أن أبدى أحد القرويين رغبة في التعبير عن حاجة القرية إلى فقيه يعلم الأبناء ويؤم الناس، علمت بنواياه عيون القايد. قبل أن يعقد العزم على الكلام، تكون أيدي القايد الباطشة قد ساقته إلى«البيرو» ليُرى ويُذاق،العذاب الأليم جراء ما كان ينوي. ويسجن في دهليز القصر حتى يكون عبرة. وإذا لم يرعو نفي من القرية وغادرها بلا رجعة.

يعيش أهل القرية، على بدعة توارثوها، لاشك أنها سنة قديمة شرعها أحد الشهوانيين مستغلا جهل الناس وبساطتهم وسذاجتهم، وتتعلق بصلاحيات القائد، إذ له كامل الحق في افتضاض بكارة كل عروس قبل ولوجها بيت زوجها. تحمل إليه على متن سيارته، دون أن تتحرك آليا، بل عن طريق تناوب كبار القرية على دفعها رباع، رباع،إلى غاية القصر. وفي صبيحة الليلة الأولى يحمل ّأهل العريس الهدايا إلى القصر، طعام وافر من لحم وعسل وسمن، وسبع خراف من بين أجود ما يضمه القطيع. تبقى العروس بعد ذلك ضمن حريمه ليعاشرها طيلة الأسبوعين الثاني والثالث من دورتها الشهرية، ثم تزف بعد ذلك إلى بيت زوجها، في موكب بهيج تحمل على ظهر دابة،محاطة بالزغاريد، وخرقة بيضاء، عليها آثر الدم ترفرف في الفضاء، مشدودة إلى قصبة مثبتة على مطية العروس. حتى أصبحت القرية تسمى "قرية أولاد القايد"تشيع أخبارها بين القبائل الأخرى وأبناؤها محط سخرية وتنكيت، وأبطالا لكل الطرائف المرتبطة بالهنات والمثالب،لا تكاد تسمع نكثة من أحدهم أو طريفة لا تبدأ ب: كان أحد أبناء قرية أولاد القائد...

حدث يوما أن كان أحد غلمان القرية- وكان بكر العائلة- يرعى القطيع، غير بعيد عن عمار القرية، يبحث عن ألفة في حركة المكان من حوله. فإذا بالصوت المنبعث من محرك سيارة القائد يملأ سمعه. توقفت السيارة، نزل عصا القائد، نادى على الراعي، أقبل الغلام نحوه ملبيا، همس في أذنه مطولا، ومضت السيارة وعاد الغلام إلى قطيعه...

ــ أبي لقد حظيت اليوم بشرف رِؤية القائد عن قرب، وكلمني السائق

ــ اللهم اجعله خيرا يا رب، تكلم ماذا كان يريد منك؟

ــ حملني رسالة، أبلغك أياها، لكن لم أفهم منها شيئا

ــ هات أرحني ! ماذا قال؟ أعد ما سمعت بالحرف لا تنقص ولا تضف !

ــ قال: انقل لوالدك هذا الكلام في حضور والدتك

ــ أي كلام؟ تحدث !

ــ لكن أين أمي؟ نادها يا والدي، في الانتظار، أحاول تجميع ما سمعت منه
بعد وقت يسير حظرت الأم التي كانت منشغلة بحلب الماعز قبل أن توقظ النار الخامدة، كالعادة لتصب اللبن في القدر الذي كان شبه جاهز قبل جنوح الشمس إلى المغيب

ــ يقول القائد

ــ ماذا أراد منا يا بني؟ ألا يدعنا وشأننا؟

ــ " أبلغ والديك أن ابن القائد لم يعد صبيا، بل أصبح رجلا، أضحى يشتغل، ويكسب، والقائد يطمع في أن يحظى بنصيبه من عرق جبين ابنه."

التفت القروي نحو زوجته، التي التفتت بدورها إلى الناحية الأخرى تلافيا لنظرته الشزر الحبلى بالاتهامات وكأنها المسؤولة الوحيدة على الوضع النفسي المزري الذي أجبرتهم عليه حياتهم طيلة ما يزيد عن عقدين من الزمن، خاصة أن ألابن أصبح تدريجيا يعي الحياة من حوله.ساد صمت رهيب طيلة الليل، لا أحد يجرؤ على محادثة أحد. وكلما سال الابن أحد والديه: ما علاقتكما بابن القائد؟ تلقى نفس الإجابة: لا تشغل بالك يا بني فالموضوع لا يستحق أي اهتمام. لم يغمض للأب ليلتها جفن. قضاها بيضاء، يفكر في سبيل يجنب ابنه ما لا تحمد عقباه." أ أحمل إليه جديا، وهو لا يقبل إلا الخراف؟ وحتى إذا فعلت وفعل، هل سيعفيني في ما يستقبل من الزمن؟ ألن أبقى عرضة للتهديد كلما عن له ابتزازي؟ كلا، لن أنهج هذا السبيل. وتحت جنح الليل، وقبل صبيحة اليوم الموالي، كانت الأمتعة والمؤونة على ظهر الدواب استعدادا لمغادرة القرية.لم ينس التفكير في تبرير يقنع ابنه على الخصوص بالرحيل:" رأيت في المنام أن القرية تعرضت لحريق مهول أتى على الأخضر واليابس، وتلته عاصفة هوجاء، جاءت بسيل عارم جرف الأرض ومن،وما عليها، فرأيت الأبناء يقتاتون من لحم آبائهم.لم يعد لنا أمل في الحياة هنا "أيقظ الجميع، أمر طفلتيه بسوق القطيع في اتجاه المسلك المؤدي إلى الطريق المعبد الذي يتطلب بلوغه ما يزيد عن يوم كامل مشيا.

لم يقتنع الغلام،وزادت شكوكه خاصة لما ربط ما حدث أمس بما يحدث الآن و قرر البقاء في القرية حتى يفك اللغز الذي بات يقض مضجعه. وناشد والده أن يمده ببعض رؤوس الماعز حتى يضمن لنفسه بعض الطعام. رغم كل ما أبداه الرجل من محاولات ومن تعنت ومن إصرار على رحيل ابنه، ومن عدم الموافقة على طلب ابنه لم ينجح في تغيير موقف الغلام،وما له إلا أن يرضخ لطلبه وهو يوصيه أن يجتنب كل مسلك يوقع به في طريق القائد.لكن بعد برهة غير رأيه وتراجع عن فكرة الرحيل وصمم البقاء إلى جانب إبنه. موقف آخر يزكي شكوك الغلام...

أخذ يخرج باكرا، يقود قطيعه،بعيدا عن أنظار القرية وأهلها، لا يعود إلا وقت نامت القرية. وقد يقضي ليله في الجبل يتأمل الكون من حوله،كما يتأمله في وضح النهار،وهو ينظر إلى ماعزه في دأب متواصل لملء جوفه، يرى بعضه يقف على قائمتيه الخلفيتين وبالأماميتين يحاول الإمساك بفرع الشجرة ويمد عنقه في عناء طلبا لأوراق يستطيب طعمها. يراقب حركة النحل، وأذنه مشدودة إلى زقزقة طير يملأ رحابة الفضاء أو من حين لآخر يمد بصره إلى آخر وقد حلق عاليا يبدو ثابث العزم عارفا بوجهته، يتمنى لو كانت له إرادة وحرية الطائر وإلى حيث شاء يطير،وكأنه حي بي يقضان في تأملاته الفلسفية. وفجأة أدركه مطر غزير، أسرع ناحية كهف قريب ليحتمي به و ماعزه،ينظر إلى الأفق المظلم منتظرا توقف المطر،لاحظ انفراجا تدريجيا في السماء، وبرودة شديدة عمت الأجواء، وسرعان ما أخذت الثلوج تتهادى في هبوطها كأنها قطع من من مندوف القطن الناصع البياض، تتراكم على الصخر أمام عينيه عند مدخل الكهف. أخذ بدنه يرتجف وأسنانه تصطك، لا يكاد يتحكم في حركة أصابعه، فطن إلى ما قد يؤول إليه حاله، نظر من حوله ليقع بصره على كومة حطب جاف وقطع منه غليظة،وضع عليها أوراقا جافة، وكان عليه أن يقدح نارا،بعد عناء و تعب كبيرين تتطايرت شرارات متلاحقة أصابت أوراقا فاشتعلت وبعناية فائقة تعهدها إلى أن رأى اللهب يكبر و ألسنته تتسابق في الفضاء.وهو من حين لآخر يطعمها جذوة.فجأة اصاعد لهيب أزق ينمو إلى أن لامس سقف الكهف.أمام أعين الغلام الذاهلة انتصب كائنا نورانيا عملاقا بلون المرجان. ذعر الغلام حتى تحدث لغة فتحتيه السفليين الأمامية والخلفية. رغم النار الملتهبة رغم دفء المكان بقي جسمه يهتز مرتجفا إلى أن أغمي عليه...استفاق الغلام، ينظر من حوله الذي يخلو من كل شيء عدا قطيعه. أخرج قطيعه لا يفكر إلا في ذلك المخلوق النوراني و يتمنى عودته طيلة النهار،لما نزل الليل وأخذ الجو يبرد، قدح الغلام النار وجلس مركزا بصره على اللهيب، حدث أن قرع سمعه صوت من خارج الكهف،رفع بصره إلى الخارج ليبقى مشدودا إلى هالة من ضياء في الأفق البعيد أخذت تدنو في سرعة البرق وكأنه بعملاق ليلة أمس يطير به براق في اتجاه الكهف وما هي إلا ردة طرف حتى وجد جسم العملاق الأزرق منتصبا أمامه. دون هلع شديد، ودون سخاء من فتحتيه وقف يرحب بالزائر الذي طفق يلبي:

ــ "لبيك، بعثت إليك عبدا مأمورا فا نظر ما أنت فاعل قبل بزوغ الفجر.

ــ أريد تجميع وإحضار كل أبناء القرية من هم بنفس حالي(أبناء القايد).

ــ سمعا وطاعة

اختفى ليعود في لمح البصر ومعه الطلب،أخذ الشباب وغير الشباب،الكهول والشيوخ والأطفال إناثا وذكورا كأنهم يتقاطرون من سقف الكهف، حتى خال الغلام أن آباءه وأجداده والأمهات والجدات إخوة له، لكن شاءت الأقدار أن يكون الآباء والأجداد أبناء قواد سابقين مروا من هذه القرية. ما أن شرع الغلام في الكلام عما اقترفه القائد وسابقيه من القواد في حق أمهاتهم وفي حق آبائهم وفي حقهم هم بالخصوص، وما كان يبتزه من عائلاتهم بدعوى حقه في مكاسب أبنائه، حتى انبرى الكل يعبر عن الألم الذي ظل يجثم على صدره... و قبل بزوغ الفجر، وقبل أن يدرك الفجر العملاق، كانت الجماعة قد ناقشت القضية بمنتهى الجدية، وخرجت بقرار، ينص بإلحاح على تفعيل القرار وأجرأته، الليلة وبدون انتظار. وافق الجميع، على المبدأ، ثم شكلوا لجينات تنتخب كل واحدة رئيسا ترضخ لأوامره، اجتمع الرؤساء، وضعوا خطة، ثم وقفت كل لجنة تحت قيادة رئيسها تـؤدي قسم الانعتاق.وملأ المكان وهج من النور الأزرق وفي لمح البصر كان الجمع يحتل ساحة القصر، وعلا صوت عبر مكبر تملأ أصداؤه الأرجاء: أيها الأب غير الشرعي، هؤلاء أبناؤك، ثمار مرضك أيها الجبان. اليوم تمثل أمام عدالتنا...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى