السبت ١١ شباط (فبراير) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

دمحم

أحداث القصة هي حلم وقع في ليل حالك الظلام؛ وحفاظا على وحدة القصة وشروطها، أجبرت على اختيار دمحم البطل الأوحد لها. حلم القصة يحاكي تقدم الزمن بدمحم إلى زمن ما بعدَ ذلكَ التاريخ الذي يحيا فيه، بألف ومائه وخمسينَ عاماً تقريباً. أما عن مكان القصة ووقوع أحداثها ومن خلال سيرتها... نتوقع أن تكون شبه جزيرة الفضاء، ولأكونَ صادقاً معَ القارئ... لم أتمكن من استبيان معالم المكان بسبب الظلام الحالك الذي كانَ يغلف موقع الحدث في الحلم.

نائمَ دمحم بعمق عجيب، بعدَ أن قضى نهاره الطويل مشغولاً بينَ جنده وتعليمه إياهم فن القتال، وبينَ الصلاة التي من خلالها يشرح لأصحابه فوائد الإيمان ومضار الكفر وبخفة دم نادرة... والوقت الذي تبقى وزعه على زوجاته العشر بعدالة ترضي الرب وتجعله سعيداً وراضياً من الذينَ خلقهم بمثل صفات ومميزات دمحم؛ لذلكَ نام الأخير في تلكَ الليلة السوداء بلون الجير... نوماً منْ يراه يقول بأنَ هذا الرجل قد ودعَ الحياة منذُ ليلتين.

لقد كانَ دمحم قوي البنية وكأنه من الفولاذ، عاشَ وترعرع منذ الطفولة في الخلاء، ولا يعلم عن ذويه الشيء الكثير، سوى اسمه الذي يفتخر به؛ غريب الطباع والميول، لا يحب الصحبة إلا ما ندر، ولا يثق بمن حوله بسهوله... عملَ في بداية حياته قاطع طريق... فأحب السيف والدرع والخنجر كثيراً... وعندما فكرَ يوماً بتغيير مهنته، عملَ حداداً؛ يصنع السيوف والدروع والخناجر التي أحبهما كأولاده... فتعلق بتلكَ الأشياء بشكل مريب ويدعو إلى التساؤل في بعض الأحيان، إذ لا يسير في قريته إلا بصحبة سيف يتحزم به، أو خنجر يتسلى من خلاله بقتل البرص أينما يشاهده... في حين لا ينام إلا والدرع تحت رأسه كالوسادة... وبعدَ أن تعرّفَ على أبي ركب حارس زعيم البر الشخصي؛ تغيرت هوايات دمحم فجأة، وبدأ يفكر بالفوز والزعامة؛ فأتفق معَ أبي ركب أن يقفوا ضد الزعيم... ليؤسسوا لهم ولاية تحل محل حكومة الزعيم الكافر بالنسبة لهم... وسرعان ما أنضمَ لهم السكير رمع أبن أبي باطخا.

لم تمضِ إلا عشرون سنة من الجهاد والقتال ضد أعوان الزعيم ورعيته... حتى تسنى لدمحم أن يكون البطل الأوحد والزعيم المأثور في بقاع البر كلها، وأصبحَ رمع مستشاراً حربياً له، وأبو ركب ممول عملياته الحربية... وها هو دمحم ينام الليلة على سريره كالميت؛ لكنه يحلم...

تقدمَ به الزمن، حيث المدنية والحضارة والتكنولوجيا... والنساء السافرات والرجال الحليقون في الجزء الغربي من البر... والمحجبات والرجال بالذقون واللحى في الجزء الشرقي... تذكر نفسه دونَ سبب واضح، عندما كانَ قاطعاً للطريق ومن ثمَ حداداً، يأكل من عمله وبعرق جبينه! وهو يتلفت يميناً وشمالاً، كالتائه... فقالَ في سره: لأرَ أهل العراق أولاً، أصحاب الحضارة الأولى ومن ثمَ أذهب لمصر بلد الفراعنة التي لم تقهر إلا على يد زميلي وعزيز قلبي وأبن عمتي أسوم...

مرَّ أحدهم على دربه( وهو من عرب العراق) فاستوقفه دمحم وهو يسأله بغرور مازجه الامتعاض: ما شاءَ الله... شيءٌ مفرح وشيءٌ مخزٍ؛ ما هذا التناقض؟ ثمَ أردفَ بكدر: ما أراه من تحفظ ولبس يسرُ العين ويبهج القلب، ولكن لماذا هذا الخراب والدمار؟

 إنه إدراك النفس البشرية( والكلام يطفر من فم المستطرق دونَ تحكم كنثار الريق عندَ العطس) ثمَ تابعَ قائلاً: كل فرد فهم الدين وأحكامه على هواه وكما يرغب، لذلكَ ترى ما يفرح وما هو يخزي؛ ولكن يبقى الأمر نسبيا، فهذا انطباعنا نحن وقد لا يتوافق معَ انطباعهم... ثمَ استطرد يسأله بانفعال: ولكن منْ تكون أنتْ؟ وتسأل وكأنك من عالم قديم بائد؟

 أنا دمحم.

 دمحم! يضحك هازئاً... اسمٌ غريب منعَ من التداول به منذ عهدٍ بعيد، كالعملة الملكية والدينار الذهبي

 وأنا كذلك... جئتُ من زمنٍ بعيد، ثمَ أردفَ بفضول: أريد أن أعرف ماذا يحلّ بالعالم؟

 كما ترى... زمنٌ أغبر، ولونه بلون التراب.

 ولكن ماذا حدث؟

 الدين يا رجل وفهمه الخاطئ... والعلم؛ وما أدراكَ بالعلم( يجيبه المستطرق بنغمه، وكأنه يغني)

يتردد دمحم قليلاً... ثمَ يبادره بالسؤال: أرجو أن تفصح أكثر... فأنا لم آتي إلى هنا إلا لأعرف.

 ماذا أقول، وهو يتلفت يميناً وشمالاً، كالخائف؛ وقال مستدركاً: الحقيقة التي أراها أمامي ماثلة كقرص الشمس، هي أنَ الدين قسّمَ البشر وجعلهم أعداء وهم أخوه، ثمَ تحركَ العلم باتجاه العقل المادي، ففسر الدين وحلله في مختبراته، فلم يجد الله ولا رسله، فشهرَ ألحاده... وهذه هي النتيجة كما ترى، تناقض صارخ كضوء النهار وسواد الليل، والعياذُ بالله.

 ماذا قلت؟

 قلتُ ماذا؟

 صرخَ دمحم به والغضب يتطاير كالشرر من عينيه وهو يسأله بحنق: تقول إنهم لم يجدوا الرسل ولا الله! ثمَ واصل بغيض... والله عال، نحنُ نقاتل ونموت لنرى الشرك يعود مرة أخرى وفريق آخر ينشر الذعر والرعب في قلوب الناس وهم يصرخون الله أكبر، ثمَ هتفَ باشمئزاز: يا لهم من شياطين وكفره...

 ردَ عليه المستطرق باستغراب وحيره: هم يقولون عنا وربما عنكم هذا أيضاً... شياطين وكفرة!

حسبي الله ونعم الوكيل... قالَ دمحم ذلكَ وغادرَ المكان دونَ أن يلتفت وهو يدمدم: لو بقيتُ قاطعاً للطريق... لهانَ الأمر وكانَ أكثر رحمة، من هذه الصور التي أراها أمامي... ثمَ همسَ في سره بعدم رضا: ماذا فعلت يا دمحم بنفسك وبالناس من بعدك؟ وتابعَ متمماً على نفس الوتيرة بصوت منخفض: لكنني لستُ الوحيد المسؤول عن هذه المأساة... ثمَ أردفَ قائلاً بأسى وتأثر: هناك من الرجال الذينَ سبقوني في هذا المضمار؛ وأنا لم آتِ بشيء غريب أو حديث؛ سوى ما أضفته من جديد التقاليد والأعراف، وحتى هذه لم أبتدعها؛ بل قرأتها في فلسفة الإغريق... وكلُ ما فعلته، هو جعلتها تتناسب وميولنا في البر الشرقي الذي نقطنه.

عبرَ دمحم نحو ضفة مصر وهو يشعر بالغثيان والقهر... لِما آلت إليه الحياة من بعده؛ فصادفته امرأة بنقاب كامل، فأستوقفها بوجل: أرجو أن أفهم منكِ إن كنتِ من هذه الضفة؟

نهرتهُ بقسوة وهي تشتمه: كافر، لا يراعي حرمة النساء.

استغفرَ ربه وضرب كفاً بكف، وقالَ في سره( حياتنا التي نحياها أفضل بكثير مما أراه، وحتى النساء عندنا فيها من الشهامة والإباء مما يجعلها لا تغضب هكذا عن غباء وبسرعة وهي لا تعلم) ثمَ رأى رجلاً فقيراً بلباس بلدي مرقع ليبدو وكأنه شحاذ؛ فاستوقفه دمحم برجاء وسأله برفق مبالغ فيه:

 هل أنتَ من هذه الضفة؟

 نعم، أنا من هنا؛ ولكن ماذا تريد؟

 أحبُ أن أعرف ما آلت إليه أحوال الناس من بعدي.

 من بعدك؟

 أستدركَ خطُأهُ مصححاً: أقصد ما يعانيه الناس الآن.

 نعم... كما ترى عيناك... الجوع يأكل الناس، والفساد متغلغل في الأجساد.

 ولكن لماذا حصل كل هذا؟ وما هذا الدمار الذي يحتل المدينة؟

 الدين يا رجل يا طيب...

 الدين!

 نعم، الدين الذي فهم على أنه التقشف والجوع والرجوع إلى حياة الغاب...ثمَ استطرد بعتاب: يريدون السلطة على حساب المجتمع، وأي سلطة؟ تلكَ التي تقطع الأيادي والألسن!

 لكنني لم أدعِ هذا ولم أحرض الناس على مثل هذا البلاء.

 أجابه الفقير مستغرباً: ومن أنت كي تقول هذا الكلام؟

 أنا،... أنا دمحم.

 دمحم! عجيب أمركَ يا أبنَ أخي؛ ثمَ تركه وذهب وهو يدمدم بارتياع: يا لطف السماء ارحمينا وانجدينا من شرور الشياطين وغدرهم...ثمَ هتفَ بصوت غير مسموع: اللهم ثبت عقلنا، وأرجع لهم رشدهم.

توجمَ دمحم مما رأى وسمع، فقالَ يخاطب نفسه بانكسار، وكأنه ينتشلُ روحاً من الجحيم: ما هذا يا ربَّ؟ فالبر الشرقي غارق في الظلمة والتخلف... فلماذا إذن نعمل ونقتل وندعو؟ بينما أرى البر الغربي مفعم بالحياة والحرية، وقلوب الناس سعيدة وعيونهم ملأى.

في هذه اللحظة استيقظ دمحم من نومه مثقلاً بالنعاس مفزوعاً والرعب يركبه، مهموماً ووجهه مكفهر، فصاحَ بأعلى صوته: ( في حين تجمعت نساؤه العشر حوله على صوت صياحه، وهنّ ينظرنَّ له بعين الرأفة والحب والذهول)

آه... الحسرة تكاد تقتلني، اللعنة علينا وما جنت أيادينا؛ لقد أحتلَّ البر الشرقي من بلادنا أناس لا يعرفون لحكمة الرب طريقا... ثمَ أردفَ متسائلاً بما يشبه الغضب: ماذا يريدون هؤلاء من الناس؟ إعلاء كلمة الرب؟ أم الاستحواذ على السلطة وبأي ثمن؟! وواصل بهمة وهو يداري خيبته: أغبياء وخونه... أسماؤنا على لسانهم، بينما الطمع والجشع والزعامة... كل ما يفكرون به؛ قبحهم الله... وليسامحنا الرب على كل ما جئنا به وما جاء به السابقون من قبلي؛ ثمَ هتفَ من صميه: كل شيء يتغير، لا شيء يبقى على حاله في هذه الدنيا... ونكسَ رأسه متفكراً مهموماً... فغابَ عن الجميع وكأنه نامَ مرة أخرى؛ عندها توجهت إليه تشئاع وهي أصغر نسائه واقتربت منه برقة وغنج وهي تخاطبه بصوت منخفض، كالهمس وتسقط كلماتها في إذنه بعذوبة وحرارة: الليلة القادمة هي ليلتي... فأستعد لها ولا تكدر نفسك وتأتيني مجهد التفكير والجسد... وهي تغمز له بإغراء، وتمسك أذنه اليمنى وتلويها كالطفل عندما يعاقب برفق، ثمَ خفضت رأسها نحو صدره وقبلته وهي مازالت تهمس برنه صافيه: لا تنسى... سأكون في انتظارك، كجمرة في موقد متأجج النيران...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى