الخميس ١٦ شباط (فبراير) ٢٠١٢
رموز «ألف ليلة وليلة»

المستدعاة في الشعر العربي الحديث

ابتسام محفوظ محمود أبو محفوظ

الموروث الشعبي والادب الحديث:
يعتبر الأدب الشعبي مراة صادقة لضمير الأمة، ووسيلة لكشف أفكارها وما يخامرها من امال وتطلعات، وما تعج به من تجارب وخبرات، والنص الأدبي الشعبي الذي تتحقق له الشعبية – وان كان فردي التأليف في البداية – هو «القادر على جمع العناصر التي تعيش بالفعل في حياة الشعب وفي ضميره، لكي يكون فيها تعبيرا متكاملا ذا مغزى يهم الجماعة، وربما اشترك في هذه العملية أكثر من فرد، فهي تتم على مراحل ولكنها عندما تتم ويستقبلها الشعب تصبح على الفور تراثا شعبيا» (1)، وبهذا فان مفهوم لفظة الشعبية يرتبط أساسا بمدى انتاجية هذا النص وقدرته على الاستمرار عبر الازمنة والتجدد عند تداوله بين أفراد الشعب على اختلاف طبقاته ومستوياته، الا أن الالتفات الى قيمة هذا الادب الشعبي لم يتأت الا مع ازدهار الدراسات النفسية الاجتماعية الانثروبولوجية في القرن الثامن عشر حيث نظر اليه على أنه «جزء متمم للبحث الأدبي، لأنه لا يمكن فصله عن دراسة الأدب المكتوب» (2)، وبهذا احتل الأدب الشعبي مكانة هامة الى جانب الأدب الرسمي .

لقد غدا الأدب الشعبي معينا ينهل منه شعراء الحداثة، وأساسا من الأسس الجمالية في شعرهم، وهذا ما يوضح ثراء هذا الأدب وقدرته على العطاء الخلاق، وليس أدل على ذلك من النماذج العالمية ك "الاوديسة و"الالياذة " و"ملحمة جلجامش" و"الف ليلة وليلة"، وغير ذلك من النماذج التي انعتقت من قيد الزمن لتكتسب صفة الخلود من خلال تعبيرها عن وجدان الشعب وروحه التواقة للجمال والابداع، وتكون في الوقت ذاته مصادر شعبية لأشهر الابداعات الأدبية في الأدب العربي والعالمي .(3)

ويذهب احسان عباس الى أن " الاتكاء على هذا التراث لا يكفل التجاوب الأوسع مع ذلك الشعر وحسب، بل يقدم أيضا شهادة على الاعتزاز بالموروث المشترك ويكشف عن خوف دخيل من ضياع رابطة تعد مقدسة عندما تتعرض أقلية ما للانصهار في تيار كبير "(4)

و الشاعر العربي الحديث يتحرك في اطار تراث عريق يمتد على مساحة زمانية ومكانية كبيرة، الأمر الذي يجعل نصوصه متنوعة متباينة، وتتحدد علاقته مع هذا التراث باعادة كتابته ومساءلته لاكتشاف العناصر الخضراء فيه واستثمارها في تشكيل رؤاه الابداعية التي تخترق الواقع وتعيد صياغته بصورة فنية مبدعة تعطي للنص الشعري أصالة ، وتحدد ذلك التراث من خلال تفاعله مع التجارب الشعرية المعاصرة،

لقد دفعتهم -الشعراء المحدثين - تجاربهم الشخصية والروحية الى أبطال الأساطير والتاريخ وتقبلهم، باحثين عن لباب الثقافة الحية في تجاربهم، مستفيدين من انجازاتهم من غير التحجر في الثوابت التي وصلوا اليها، من غير أن يكونوا تابعين أو مستهلكين لها فقط، ومن غير أن يحبسوا أنفسهم في أقفاص النظريات والايدولوجيات التي تؤدي دورها وتنسحب من المسرح لتحل أخرى محلها، أي أن هناك عملية ثورة في الثورة، كما أن هناك عملية ابداع في الابداع ضمن كل الاجتهادات الانسانية(5)

1- "نبيلة ابراهيم: أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار غريب، ط3، ص 9.

2- رينيه ويلك: نظرية الادب، دار المريخ، الرياض، 1992، ص 50

3- انظر: التناص المعرفي في شعر عز الدين المناصرة: ليديا وعد الله ص 48 -50.

4- احسان عباس: اتجاهات في الشعر العربي المعاصر: ط2 ص120.

5- أنظر عبد الوهاب البياتي : ينابيع الشمس السيرة الشعبية، دار الفرقد للطباعة والنشر، ط1، 1999ص10-11.

ان ما يربط الشاعر المعاصر بالتراث الشعبي والاسطورة " هو تلك السمات الفنية التي تتمتع بها هذه الأساطير، ومنها القدرة على التشخيص والتمثيل، ومنح الحياة للاشياء الجامدة، واستخدامها الظلال السحرية للكلمات، والصور البيانية القادرة على الاحاطة والكشف، أضف الى ذلك هذه الطاقة الخيالية الجامحة على ارتياد عالم الطبيعة والانسان "(1)

ولقد لعب هذا التراث دورا في بناء القصيدة الحديثة وابعادها عن التمحور حول الذات، ومنحها قواما انسانيا، فلم يعد الشاعر يكتب مستخدما ضمير المتكلم الخاص بالشاعر، بل اختار أصواتا أخرى بعيدة عن تجربته الذاتية المباشرة وعبر من خلال استنطاقها عن مواقفه ومواقف العصر الذي يحياه، بحيث تعبر هذه الأصوات عن الصراع الذي تحياه في ظل الظروف المتناقضة في الحياة، فينتقل الشاعر من " موقف الى موقف مقابل ومن عاطفة أو شعور الى عاطفة أو شعور مقابلين، من فكرة الى وجه أخر للفكرة " ( 2 )، لأنها انعكاس لمشهد من مشاهد الحياة التي تقوم على الصراع بين الانسان وتناقضات الحياة. وكما يقول اليوت " مركز القيمة قائم في النموذج الذي نصنعه من مشاعرنا وليس في مشاعرنا نفسها "(3)، ومن هنا لجأ الشاعر الى تعدد الاصوات في قصيدته، جاعلا لكل منها نصيبا في الصراع الدرامي، ومستنطقا لها للتعبير عن مواقفها وارائها.

وقد استطاع الشاعر الحديث أن يقيم حوارا وجسر اتصال مع العالم الذي يحيط به من خلال اغناء شعره بالأصوات الخارجية التي تكسب تجربته غيرية تبعدها عن الاستقطاب حول الذات، فتعددت أصواته دون أن يفقد صوته، مدركا أن الحياة وقائع متصارعة تسقط التفرقة الثنايئة المألوفة بين الذات والموضوع أو بين الأنا والاخر، لتحل محلها مجموعة من العلاقات
التي تدخل في صنع نسيج الحياة.

وقد تطرقت الكتب النقدية المعاصرة للكيفية التي تم بها توظيف هذا التراث بشخصياته وأحداثه وأقواله، ويعنينا في هذه الورقة البحثية أن نحدد رموز" ألف ليلة وليلة "المستدعاة في الشعر العربي الحديث، وكيفية استدعائها وتمثلها في النص الشعري وكيفية التفاعل مع الموروث الشعبي فيها، ومن هنا سيتم التركيز على أهم أشكال التفاعلات القائمة وطبيعة النصوص المتفاعل معها أو الروافد الشعبية من" ألف ليلة وليلة " للنص الشعري الحداثي وكيف تم استلهام رموزها من الموروث الشعبي العربي القديم وتوظيفه عنصرا بنائيا في النص الشعري بشكل يتماهى مع جمله الشعرية في رؤيتها وايقاعها وصورتها.

ويبدو أن الحكايات تتجاوب بسهولة مع مختلف الأذواق، اذ قرأت من قبل شعراء مختلفي النوازع والاتجاهات الايدولوجية كما سيتضح لنا بعد قليل.

1- أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة : كاملي بلحاج، دمشق، منشورات اتحداد الكتاب العرب، 2004، ص 36 .

2- عز الدين اسماعيل: الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، ط3، دار الفكر العربي، 1978، ص 297.

3- ف.أ.ماثيسن: ت.س اليوت الشاعر الناقد، ترجمة احسان عباس، المكتبة العصرية، بيروت، 1965 ص 132.

رموز"ألف ليلة وليلة" المستدعاة في الشعر العربي الحديث :

الاجواء العامة ل ألف ليلة وليلة:

استوحى أمل دنقل قصيدته " حكاية المدينة الفضية "من عالم" ألف ليلة وليلة "وتحديدا؛حكاية مدينة النحاس "المدينة التي أراد الأمير موسى والشيخ عبد الصمد النزول فيعا واجتهدوا أن يعرفوا لها بابا ويجدوا لها سبيلا فلم يصلوا الى ذلك، وفكروا في حيلة لدخول المدينة لينظروا عجائبها علهم يجدون فيها ما يقربهم الى أمير المؤمنين، فصنعوا السلالم وبدأوا بالنزول اليها فكان كل من يدخلها ويرمي بنفسه اليها ينهرس لحمه على عظمه ويموت، حتى مات منهم اثنا عشر رجلا، فقرر الشيخ عبد الصمد النزول اليها متزودا بقراءة القرأن الكريم فأبعد الله عنه كيد الشياطين وسحر السحرة .

واذا كان الشيخ عبد الصمد قد تسلح بالقران فان أمل دنقل كان متسلحا بالقلم ليكتب رأيه
وفيها يسعى الشاعر / المثقف الذي لا يملك الا قلمه الى دخول عالم المدينة الفضية للمشاركة في الحياة العامة / الحياة الحلم، وممارسة التعبير عن رأيه بحرية واتخاذ موقف علني فيها يؤهله لاحتلال مكانه الفاعل في هذا المجتمع، الا أن سياسة القمع المفروضة ترده خائبا:

كنت لا أحمل الا قلما بين ضلوعي
كنت لا أحمل الا قلمي
في يدي خمس مرايا
تعكس الضوء (الذي يسري اليها من دمي)
طارقا باب المدينة
"افتحوا الباب "
فما رد الحرس
" افتحوا الباب " أنا أطلب ظلا ....

قيل: " كلا (1)

وحين يعجز عن الدخول فعليا الى عالم المدينة يلجأ هذا المثقف الى العشب وتعاطيه يوهمه بدخول المدينة فيدخلها ويلتقي بالأميرة بدر البدور التي تأخذه الى قصر أبيها ويقص عليها حكاياه، وحين يتملك الخمر منه / الغيبوبة يقدم لها أغلى ما يملك / قلمه الذي يحمله بين الضلوع:

سكرت كاساتنا من خمر بابل
ألف خيط في دمانا يستبد " أه يا سيدتي : أنت ملك ...
أنا لا أحمل الا قلما بين ضلوعي ...
فخذيه ..انه أثمن ما عندي .. خذيه(2)

و شخصية بدر البدور من شخصيات " ألف ليلة وليلة " التي ظهرت في حكاية حب قمرالزمان وبدور، بعنوان " حكاية الملك قمر الزمان ابن الملك شهرمان " في الليلة الثامنة والتسعين بعد المئة(3) . انها حكاية الأمير الفارسي والاميرة بدور اللذين افترقا بفعل الشياطين بعد لقاء قصير مما أدى الى مرض الاثنين واعتبارهما من قبل المحيطين بهما مجانين، وقد حاول كثير من الاطباء شفاء هذا الجنون، لكن المريضين كانا يبحثان باستمرار عن العزلة مما يؤدي الى الكابة والبعد عن الناس والمرض الى درجة الاعياء . وعندما يحاول أحد الدجالين أن يجرب عليها أساليبه في المعالجة يصيبهما غضب شديد من جراء ذلك حتى يحضر أحد أقرباء الأميرة الذي يتمتع بثقافة طبية عالية ويستمع الى أقوالها، ويعرف السبب الحقيقي للمرض، وقد نجح في جمع شمل العاشقين مما أدى الى شفائهما في الحال .

1- أمل دنقل : الأعمال الكاملة، المطبعة الفنية، القاهرة، 1980 ص 195 – 196.

2- أمل دنقل : الأعمال الكاملة، ص 199.

3 – الف ليلة وليلة : الليلة 198، دار العودة، بيروت، 198ص 507.

ان أمل دنقل / الامير الفارسي قمر الزمان / المثقف المستبعد من دخول المدينة و المستبعد من اتخاذ موقعه الحقيقي قد فرق بينه وبين أميرته فلا يلتقيها الا بالحلم .

ثم يلجأ أمل دنقل الى استبدال مواقع شهريار وشهرزاد المعروفتين في "ألف ليلة وليلة " فيجعل من شهريار الضحية / المواطن المثقف، ويجعل من شهرزاد الجلاد والسلطة القمعية التي ترصد الكلمة فتلاحقها وتنتهي العلاقة بين المثقف والسلطة بالدم:

ليلة واحدة تفضي بدم
يا ترى من كان فينا شهريار ؟
أنا يا مسرور ...(1)

كما استحضر أمل دنقل أجواء" الف ليلة وليلة " في تصوير أبعاد الصراع العربي – الصهيوني، فقد صور الأرض العربية التي وقعت تحت الاحتلال في قصيدته " الأرض والجرح الذي لا ينفتح " فتاة تئن من نزع قرطها منها بعد ان ساقها اللصوص الاعداء وتركوها عطشى على الرمال، تنادي أبناءها فتضيع صرختها ويطحنها الذبول:

الارض ما زالت بأذنيها دم من قرطها المنزوع
قهقهة اللصوص تسوق هودجها، وتتركها بلا زاد
تشد أصابع العطش المميت على الرمال
تضيع صرختها بحمحمة الخيول
الأرض ملقاة على الصحراء ظامئة
وتلقي الدلو مرات وتخرجه بلا ماء
وتزحف في لهيب القيظ ...
تسأل عن عذوبة نهرها ...
والنهر سممه المغول (2)

ثم كان حدس الشاعر بحزيران نبوءة وجدانية بلغت حدا من الشفافية عرض فيها أمل دنقل رؤيته ورؤية المثقف المتنبئ بالمستقبل في ضوء الواقع الذي يحياه:

أكل عام تهوي ..........

وتدخل نجمة برج البرامك ؟(3)

في اشارة الى الهزيمة والوقوع في الاسر / البرامك، موظفا رمز البرامكة الذي ورد في حكايات " ألف ليلة وليلة " في حكاية " شكى بكى والبرمكي " فقد لعب البرامكة دورا كبيرا في حكايات الف ليلة وليلة، وهم من أصل فارسي وكانوا أصحاب نفوذ وسلطان، وقد جعل أمل دنقل منهم رمزا للقوى الاستعمارية.

1- أمل دنقل : الأعمال الكاملة ص 201.

2- أمل دنقل : الاعمال الكاملة، ص

3- أمل دنقل الاعمال الكاملة ص 82.

ويستحضر البياتي أجواء"الف ليلة وليلة": الاحلام والتنبؤ بالمستقبل، في قصيدة " المغني والأميرة " متخذا من صوت المغني / صوتا يندغم فيه الشاعر ليحمل لقمر الزمان / الامير الممثل للسلطة، حلما / نبوءة للزمن القادم يتنفض لها الأمير ويعلن حالة الاستنفار قبل أن يتحول الى حقيقة فيقول :

كان على الحصيرة
ممددا مناجيا أميرة
يا قمر الزمان أسألك الأمان فانني رأيت في الأحلام
تاجك منه يصنع الحداد
نعل حصاني، ويجز رأسك الجلاد
وتجدب الحقول في شتاء هذا العام
وتفتك الملة بالجباة والقضاة
ويحكم العصاة والاشباه
وانني رأيت في اليقظة في السماء
سجارة حمراء
مسحورة تطير في الهواء
فانتفض الأمير ثم ضحكا
وقال شيئا للجلاد وبكى
فاصطفقت وأغلقت أبواب
وانقلبت أنية الطعام والشراب
وسكت القيثار
وانطفأالقنديل ثم أسدل الستار (1)

وفي قصيدته " شيء من ألف ليلة " يجعل البياتي من أجواء الف ليلة وليلة حلما يهرب اليه من الواقع المأزوم متخذا من مصباح علاء الدين سلما يرتقي عليه للمدينة الحلم ولكنه يصطدم بالواقع الشاحب الحزين واخباره القديمة الجديدة في صورة تدعو الى السخرية ، وادانة وسائل الاعلام متخذا من شهرزاد شاهدا على هذا الحلم فيتداخل صوتها بصوت الشاعر :

أطير كل ليلة على جوادي الأسود المجنح المسحور
الى بلاد لم تزوريها ولم تنتظري وحيدة في بابها المهجور
أحمل ناري ورمادي نحو سفح جبل الخرافة
أحمل مصباح علاء الدين
أغرق في الفجر المغني الشاحب الحزين
أمد سلما من الأصوات
أرقى به لبابل
مغنيا وساحر
أبحث في جنانها المعلقة
عن زهرة زرقاء

1- عبد الوهاب البياتي : ديوان عن الموت والثورة ، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر،ص 126 – 127

ولا أرى غير عواميد الضياء ورصيف الشاعر المهجور
وسائل يلتف في أسماله مقرور
يطرق باب البلد المهجور
وفي يدي جريدة
قديمة جديدة
ويضحك جاري ساخرا ويسكت المذياع
ويدرك الصباح شهرزاد (1)

والشاعر – بصوت شهرزاد - يدين السلطة القمعية ورموزها من المنجمين والمخبرين والكتبة وحاملي الاختام وشاهدي الزور ومن يلعق نعل الملك الجديد ويرقص على الحبال:

يخاف منه قائد الجند ويستتشيره الوزير
بوقا لمن يعلق الجرس كلبا من الخزف يلعق نعل الملك الجديد
رأيته في مدن الاسفلت والأصفار والحديد
داعية ومخبرا وكاتبا
وراقصا على الحبال لاعبا
طردته فعاد
نفخت في عيونه الرماد
وأدرك شهرزاد الصباح (2)

وهذا الواقع المدان يتنظر السندباد / حلم التغيير وأداته محملا بالبرق / الثورة والنبوءة والبشارة، وكلما لاح فجر التغيير يخبو من جديد، اذ أن السندباد صار وحيد ا، فيدين هذا السكون وهذا التراجع في اتنظار الغائب من جديد:

كان على شطانها مركب سندباد
يشعل في رايته الهواء
محملا بالبرق والرعود
وكنت يا حبيبتي انتظر المد لكي أبحر من جديد
أمد سلما من الأصوات لأرم العماد
وعندما اكتشفتها فاجأني الرقاد
فنمت تحت السور
انتظر الغائب من دمشق
وأدرك الصباح شهرزاد (3)

1- عبد الوهاب البياتي: ديوان عن الموت والثورة ص 126 – 127

2- عبد الوهاب البياتي: ديوان عن الموت والثورة ص 126 – 127.

3-السابق ص 135-137.

2 – الشخصيات:

شهريار وشهرزاد:

أما شهريار فقد بدأت حكايات " ألف ليلة وليلة " به عندما صورته ملكا من ملوك ساسان، يحكم سمرقند العجم، وقد حكم بالعدل بين عباده عشرين عاما الى أن أراد أن يزور مملكة أخيه، فتجهز للسفر فلما كان منتصف الليل تذكر حاجة نسيها في قصره فرجع ودخل قصره فوجد امرأته في أحضان عبده الأسود فثارت ثائرته وقتلهما، والى أن يتزوج كل ليلة بعذراء ثم يسلم عنقها الى السيف في الصباح حتى جاءت شهرزاد - ابنة الوزير الكبرى – وكانت قد قرأت الكتب والتواريخ وسير الملوك المتقدمين وأخبار الأمم الماضين، وهي تعرف المصير الذي ينتظرها، فحاولت أن تثير فضوله، وأن تنمي فيه حبه للمعرفة، وعلى مدى ألف لبلة وليلة قصت عليه حكاياها فكشفت له عن عوالم جديدة عالجته نفسيا بهذه الجلسات العلاجية حتى أيقظت فيه –بعد ألف ليلة وليلة – ذلك الحس الانساني القابع في أعماقه عندما أحضرت اليه أولاده الثلاثة الذين أنجبتهم منه، فبدأ ينظر للحياة نظرة جديدة ملؤها الثقة في الانسان والتفاؤل في الحياة.

كانت شهرزاد بجانب قدرتها العجيبة على صنع التشويق الفني صاحبة خيال لا حد له، فقد استطاعت بخيالها هذا أن تطوف الشرق والغرب، وتصور الملوك والصعاليك والتجار وأرباب الحرف والبحارة واللصوص، كما صورت المرأة زوجة وأختا وعاشقة، ووفية وخائنة وساذجة غريرة وربة مكر ودهاء، وصورت العادات والتقاليد وشعائر الأديان، وانتقلت من عالم الانس الى عالم الجن والعوالم المسحورة والحوريات العين والخوارق والمعجزات (1).

و تعد شهرزاد من أبرز رموز ألف ليلة وليلة المستدعاة في الشعر الحديث، تطالعنا بأنها التي تهذب طباع شهريار الرجل، وتستثير نوازعه الانسانية الخيرة لتنسيه تعطشه للدماء،وهي تارة أخرى رمز للثورة والخصب والنور.

يقول عبد الوهاب البياتي في ديوانه "الموت في الحياة":

الموت في الحياه
نوم بلا بعث ولا رقاد
فلتنفخي،أيتها الساحرة، الرماد
لعل شهرزاد
تمد من ضريحها يدا الى النبي والشاعر في الميلاد
لعل نار ارم العماد
تلمع في صحراء هذي المدن المطلية الجدران بالسواد
لعل سندباد
يشعل في صيحته جزائر الهند وأرخبيل بحر الروم
يحمل في مركبه للأمم المغلوبة البشارة
وعشبه وناره
الى الذين دفنوا أحياء في المغارة
وقاتلوا مع الملايين التي تئن في أغلالها، ووقعوا في الأسر
وأعدموا في الفجر

11- أنس داود : الاسطورة في الشعر العربي المعاصر، ص 126 – 127.

وهم يغنون أغاني النصر
نجوت من مذابح المغول
سرت مع الأنهار في القفار والحقول
عبرت ألف سور
وجئتكم يا أخوتي، بهذه الزهور
رأيت في مزابل الشرق وفي أسواقه الملوك
والعور والابواق والديوك
مخصية تصيح
رأيت فلك نوح
وأمما مغلوبة تصيح
وشعراء عدد الذباب
عادوا بتيجان من الورق
من رحلة الضياع والقلق
وحالمين يحرثون البحر
قبل طلوع الفجر
 
رأيت: شهرزاد
جارية في مدن الرماد
تباع في المزاد
رأيت : بؤس الشرق
ونجمة الميلاد في دمشق
رأيت : مجد فقراء الأرض في الفيتنام
وفي خيام اللاجئين : سيد الالام
منتظرا خيل صلاح الدين
وصيحة الفرسان في حطين (1)

وفي قصيدته "ما لم يقل عن شهرزاد" نجد الشاعر تيسير السبول يتخذ من شهرزاد رمزا للأمة العربية التي تشقى في سبيل خدمة شهريار، وشهريار هنا رمز للظلم والاستبداد ورمز للسلطة الغاشمة التي تتحكم بالاخرين. يقول:

شهرزاد
لم أسرت حكاياك الى أمس دفين
عبر سرداب من الأوهام يفضي ليقين
فاذا بي مثقل أحمل في جنبي سرا
ليس يدري عن خفيات لياليك الطويلة
....................................

1- عبد الوهاب البياتي: ديوان " الموت في الحياة، منشورات دار الاداب، بيروت ص 112 – 116

وحببناك
حببناك كثيرا وسهرنا ليلة في اثر ليلة
لهفة تسأل عما كان من أمر أخيرا
وعفا من بعد ألف شهريار
ففرحنا
في بلادي حيث عين الطفل والشيخ سواء
دعوة تحيا على وعد انتصار(1)

فشهرزاد التي وقع الناس في حبها ليست تلك المرأة القوية القادرة على مواجهة شهريار بل هي امرأة أفنت عمرها في سبيل الخلاص منه، ان شهرزاد أو الامة العربية في حالة خوف دائم:

ألف ليلة
حلمك الأوحد ان تبقي لليلة
فاذا ما الديك صاح
معلنا للكون ميلاد صباح
نمت والموت سويا في فراش
...........................
شهرزادي خدعة ظللت الاذان عمرا
ورست في خاطر التاريخ دهرا(2)

ولم يبق هناك من سبيل الى الخلاص الا الانتظار السلبي الذي يدينه الشاعر:

وسنبقى كلما دل على الأفق شتاء
نتسلى بحكاياك الشجية
ونغني لانتصار
لم يكن يوما ولا يرجى انتصار تحت عيني شهريار(3)

وشهرزاد في قصيدة عبد الرحيم عمر " كيف ماتت شهرزاد " رمز للأمة الخائفة المسلوبة الارادة، يتسلط عليها شهريار بسيفه وقوته وسلطته الغاشمة:

متنا ... حيينا ألف ليلة
قدم على شط النجاة ويجذب الأخرى العباب
وسلاحنا اذلال كلمة
صغنا بها حلو الحياة ومرها قصصا حكايا
وبذلنا الدامي قدرنا أن نداري شهريار
وان نسكن فيه اثمه
يا شهرزاد وليلك الاتي مليء بالمخاطر
لا أنت قادرة على أن ترتضي الزيف القديم
ولا رضيت بقول شاعر
يا شهرزاد

1- تسير السبول: الاعمال الكاملة، 162 .

2- السابق نفسه.

3- السابق نفسه.

يا أمة ايمانها ما كان الا نبض كلمة
ونعيمها وجحيمها ترجبع نغمة
يا أمة وثنية الارباب أنت صنعت
نفسك تارة معبودة كبرى وأخرى جارية
أرأيت غير الرعب في ليل الحكايا الاتية
فالسيف أسلطه على جبينك ألف ليلة (1)

وهي عند يوسف الخال لم تعد قادرة على بعث الحياة من جديد، لأنها لم تستطع انقاذ البشر من الموت الذي خيم على كل شيئ، فشهرزاد الروح أو الحياة قذ انتهت ولم يعد لها أثر، ولم يبق منها الا الجسد الذي صار كالورق الذي يهر لكن دون جدوى، فالشاعر قد دخل " في تناص عكسي مع حكاية شهرزاد، فجاء توظيفه لها مخالفا للأصل، اذ لم تأت شهرزاد كما عرفت في " ألف ليلة وليلة " رمزا للحياة والسعادة والحرية والمستقبل بل صارت في قصيدة الخال جسدا ورمزا للشهوة والاثارة الجنسية والفتنة والغواية، فهي لا تستطيع أن تفعل شيئا، لأن الشاعر جردها من كل الصفات الحيوية التي ذكرت بها في حكايتها الأصلية، وقد أراد لها الشاعر ذلك ليعبر من خلالها عن الموت الشامل الذي أصاب الأمة ورموزها الخالدة، فهي رمز على فراغ الشرق وكسله وعبوديته وشهويته "(2)، وفي ذلك يقول الشاعر :

عرفت ابراهيم، جاري العزيز من زمان
عرفته بئرا يفيض ماؤها
وسائر البشر
تمر لا تشرب منها، لا ولا
ترمي بها، ترمي بها حجرا (3)

وتزداد مأـساة الشاعر فلا يرى الا الاسباح:

وفي الطريق ألف شبح وشبح
وها هي الوجوه خزف، قماقم
والخاتم البيك صدئ
والبسط الريح استحالت طائرا
عجلة تدور والزمن واحد
وشهرزاد جسد
كالورق الذي يهر، جسد
والسر في الجذور
وعبثا نصيح : نحن كالرياح
حرة تجيئ من مكانها وحرة ترةح
لنا التراب بيت رحم وكفن
والموت وحده البقاء (4)

1- ديوان عبد الرحيم عمر : الأعمال الشعرية، مكتبة عمان، عمان، 1989 ص 184- 185.

2- أنظر : أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة : كاملي بلحاج، دمشق، منشورات اتحداد الكتاب العرب، 2004، ص 50 )

3- يوسف الخال : الأعمال الشعرية الكاملة 1979، دار العودة، بيروت ط2، 1979 ص 203

4 – السابق ص 210 .

السندباد:

وقد ظهرت شخصية السندباد في الليلة الثانية والستين بعد الخمسمئة من ليالي " ألف ليلة وليلة " يبدأ السندباد البحري في قص أولى سفراته على سماره وجلسائه وعلى السندباد البري بقوله : " اعلموا يا سادة يا كرام أنه كان لي أب تاجر وكان من أكابر الناس والتجار وكان عنده مال كثير، ونوال جزيل، وقد مات وأنا ولد صغير، وخلف لي مالا وعقارا وضياعا، فلما كبرت وضعت يدي على الجميع، وقد أكلت أكلا مليحا، وشربت شربا مليحا، وعاشرت الشباب، وتجملت بلبس الثياب، واعتقدت أن ذلك يودم لي ..ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمن، ثم اني رجعت الى عقلي، وأفقت من غفلتي، فوجدت مالي قد مال وحالي قد حال، وقد ذهب جميع ما كان معي .. وقد خطر لي السفر الى بلاد الناس.
وتذكرت كلام بعض الشعراء:

بقدر الكد تكتسب المعالي
ومن طلب العلا سهر الليالي
يغوص البحر من طلب اللالئ
ويحظى بالسيادة والنوال
ومن طلب العلا من غير كد
أضاع العمر في طلب المحال

ثم يتجهز السندباد للرحلة الاولى، ثم تتوالى رحلاته بعد ذلك لينتهي منها في الليلة التاسعة والتسعين بعد الخمسمئة قائلا : " ...ثم دخلت حارتي وجئت داري وقابلت أهلي وأصحابي وأحبائي، وخزنت جميع ما كان معي من البضائع وخواصلي، وقد حسب أهلي مدة غيابي عنهم في السفرة السابعة فوجدوها سبعا وعشرين سنة حتى قطعوا الرجاء مني، فلما جئتهم وأخبرتهم بجميع ما ما كان من أمري وما جرى لي صاروا كلهم يتعجبون من ذلك الأمر عجبا كبيرا وهنؤوني بالسلامة، ثم اني تبت الى الله تعالى عن السفر في البر والبحر بعد هذه السفرة السابعة التي هي غاية السفرات وقاطعة الشهوات، وشكرت الله سبحانه وتعالى وحمدته وأثنيت عليه حيث أعادني الى أهلي وبلادي وأوطاني "(1) فقد بهرته عجائب الدنيا واشتد توقه الى المعرفة حتى أصبح جواب افاق لا يستقر له حال في بلاد، فاذا جلس من رحلاته كان في جعبته طرائف السمر التي لا تنفد وأحاديث العجائب التي لا تنتهي.

وكان الدافع وراء رحلاته التجارة والمغامرة والفضول، يؤكد ذلك قوله: " فاشتاقت نفسي الى الفرجة في البلاد والى ركوب البحر وعشرة التجار وسماع الأخبار (2) بالاضافة الى الطمع الذي تؤكده القصةذاتها في قوله : " وهذا الذي أقاسيه من طمعي " (3)

والسندباد كما تصوره " ألف ليلة وليلة " هو ذلك البطل الأسطوري المغامر الذي لا يهدأ له بال، لا يكاد ينتهي من رحلة حتى يشرع في أخرى، لذا فهو يمتاز عن غيره من الابطال برحلاته الطويلة عبر البحار والجزر وارتياده أفاقا غريبة وعوالم مجهولة وعلى الرغم من تلك الأخطار والمخاوف المهلكة التي كانت تسد طريقه وتدفع به الى الموت بالغرق أو الاختطاف أو الأسر في الجزر النايئة فانه كان يعود دائما من رحلاته ظافرا منتصرا محملا بالأموا والكنوز العجيبة(4)
وقد استهوت هذه الشخصية بما فيها من قلق وتطلع شعراء العصر الحديث ووجدوا في مخاطرات السندباد " معنى الانعتاق من الواقع والتمرد عليه، والرغبة في تنفس هواء جديد، وتلك روح الشاعرالعظيم الذي تحفزه الرغبة على الكشف واستكناه الوجود ويلهبه توق دائم الى تغيير الواقع وتجاوز الممكن الى ما يجب أن يكون فيضرب بتجربته الشعرية في أكباد الحقيقة لأنه رحالة أبدي المغامرة(5)

1- ألف ليلة وليلة، دار العودة، بيروت، الليلة 562.

2- السابق نفسه.

3- السابق نفسه.

4- أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة : كاملي بلحاج، ص 90-91.

5- انظر أنس داود : الاسطورة في الشعر العربي المعاصر، ص 308.

ولقد كان نموذجا للتطلع الى المعرفة والتشوق الى اختراق المجهول أراد أن يجوب العام، وأن يتخطى واقعه الاجتماعي بكل عوائقه المستعصية (1)

وقد اتخذت شخصية السندباد من الناحية الرمزية بعدين : بعدا فرديا يجلي الشاعر من خلاله فرادته الشخصية، وبعدا جماعيا تتفرع قيمته في حقل التجربة الانسانية التي تتمثل في رحابةحضورها عبر الزمان والمكان،(2)

ويذهب أنس داود الى أن الشاعر صلاح عبد الصبور يعد أول من استخدم هذا الرمز وتقمصه وتحدث من خلاله، وان كان الشاعر علي محمود طه قد أشار اليه دون أن يفصح برمز السندباد في ديوانه " الملاح التائه " الذي يجوب بحار الفكر والمعاناة بحثا عن رؤية شعرية (3) اذ يقول الشاعرعلي محمود طه:

يا فتية الفولجا تحية شاعر
رقت له في شدوه الأشعار
ملاح وادي النيل الا أنه
أغرته بالتيه السيق بحار
أبدا يطوف حائرا بشراعه
يرمي به أفق ةتقذف دار (4)

الا أن السندباد دخل كنموذج فني الى عالم الشعر على يدي الشاعرين : صلاح عبد الصبور وخليل حاوي، ففي قصيدة صلاح عبد الصبور " رحلة في الليل " من ديوانه الاول " الناس في بلادي " يجعل السندباد البؤرة الأساسية التي تحكم جميع خيوط القصيدة دلاليا وبنائيا فالسندباد هو الشاعر وتبدأ القصيدة بعنوان فرعي يحمل اسم " بحر الحداد " وكلمة بحر تلازم السندباد بشكل لا يمكن الفصل بينهما لأنه المجال الذي كان السندباد يصنع من خلاله مغامراته، واذا كان السندباد مصدر الغنى والمال فان بحر عبد الصبور هو بحر الحداد والضياع والعدم والظلمة قد مات فيه الرخ، سبيل النجاة والخلاص، بهذه المفارقة، ومن داخل اسطورة السندباد نفسها يبدأ صلاح عبد الصبور بنسج خيوط أسطورة جديدة تنسجم مع تجربته وتطلعه الى غد تولد فيه نفسه من جديد.

في اخر المساء يمتلى الوساد بالورق
كوجه فأر ميت طلاسم الخطوط
وينضح الجبين بالعرق
ويلتوي الدخان أخطبوط
في اخر المساء عاد السندباد
ليرسي السفين
وفي الصباح يعقد الندمان مجلس الندم
ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم

1- انس داود : الاسطورة في الشعر العربي المعاصر، ص 138

2- أنظر كاملي بلحاج :أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة، ص 92 .

3 - انس داود : الاسطورة في الشعر العربي المعاصر، ص 138

4 - علي محمود طه : ديوان " زهر وخمر" ص 62
السندباد:

وفي الصباح يعقد الندمان مجلس الندم
ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم

السندباد:

(لا تحك للرفيق عن مخاطر الطريق) (ان قلت للصاحي انتشيت قال: كيف؟
( السندباد كالاعصار ان يهدأ يمت)\

الندامى:

هذا محال سندباد أن نجوب في البلاد
انا هنا نضاجع النساء
ونغرس الكروم
ونعصر النبيذ للشتاء
ونقرأ ( الكتاب ) في الصباح والمساء
وحينما تعود نعدو نحو مجلس الندم
تحكي لنا حكاية الضياع في بحر العدم (1)

والسندباد هنا ليس ذاك البطل الذي تحركه الأشواق الى ركوب البحر انه هنا شخصية تروي للندامى حكاية السندباد البحري علها تحرك فيهم رغبة التمرد والانعتاق من القيود ولكن هيهات انهم قاعدون عاجوزن لم يستطع السندباد أن يبث فيهم الرغبة في التغيير من جديد وفي ذلك اشارة من الشاعر الى الواقع المهزوم الذي اثر الاستقرار وألف الثبات واكتفى أفراده بالسماع عن الابطال والشخصيات دون محاكاتهم أو التأثر بهم .ويشير انس داود الى ان الشاعرهنا استخدم قناع السندباد ليناظر بين رحلة السندباد ورحلة الشاعر وجسد الخلق الفني باعتباره رحيلا عبر المجهول واكتشافا للجديد من حقائق النفس والحياة (2)، لقد وجد صلاح عبد الصبور في أسطورة السندباد التي اتخذ منها قناعا لبسط أفكاره وتأملاته الفلسفية على مدى تطور حياته الشعرية التي يمكن تقسيمها الى ثلاث مراحل ، كان السندباد في كل مرحلة يظهر بوجه معين.

تبدأ المرحلة الأولى بديوانه الأول " الناس في بلادي " يتجلى السندباد في رحلة الشاعر في سبيل الابداع الشعري الذي يرحل كما رحل السندباد رغبة في الكشف عن عوالم شعرية أخرى تمكنه من الانفلات من قبضة التقليد واعادة ما أبدعه القدماء:

صنعت مركبا من الدخان والمداد والورق
ربانها أمهر من قاد سفينا في خضم
وفوق قمة السفين يخفق العلم
وجه حبيبي خيمة من نور
وجه حبيبي بيرقي المنشور
جبت الليالي باحثا في جوفها عن لؤلؤة
وعدت في الجراب بضعة من المحار
وكومة من الحصى وقبضة من الجمار
وما وجدت اللؤلؤة
سيدتي اليك قلبي واغفري لي أبيض كاللؤلؤة (3)

1- صلاح عبد الصبور: الديوان، دار العودة، بيروت ط4، 1983، ص 7.

2- أنس داود : الاسطورة في الشعر العربي الحديث ص 316.

3- صلاح عبد الصبور : الديوان ص 68.
فالشاعر يمزج بين عناصر الرحلة عند ه وعند السندباد: كاللؤلؤ والسفين والمحار والليالي ونحوها دون أن يصرح بالأسطورة أو الشخصية، وجملة القول أن رحلة السندباد هي رمز لرحلة الشاعر في سبيل المعرفة والابداع ... رحلة البحث عن الحرف المضئ والكلمة النابضة بالحياة بصورة لا يمكن الاستغناء عنها:

السندباد كالاعصار ان يهدأ يمت (1)

وفي المرحلة الثانية كان الشاعر / السندباد مهزوما ضعيفا تبددت مغامراته وانتهت طموحاته، فلا شيء في حياة انسان هذا العصر غير السأم، ذلك أن الانسان في المجتمع المعاصر حينما يريد أن يكون له شخصيته المستقلة وفكره المتميز عن فكر المجتمع الذي تسيطر عليه السلطة الغشوم يودي بنفسه الى المحن وقد يودي بها الى الموت ولا طاقة للانسان المعاصر على أن يواجه محنة الاستشهاد:

ملاحنا هوى الى قاع السفين، واستكان
وجاش بالبكا بلا دمع ... بلا لسان
ملاحنا مات قبيل الموت، حين ودع الأصجاب
...والأحباب والزمان والمكان (2)

ولعل الهرب من محنة الاستشهاد – كما يشير أنس داود – هي المأساة الحقيقية لسندباد عصرنا لكل مفك وفنان لأنه يريد العيش في سلام دون أن يريق قطرة دم فتكون النتيجة الموت دون مصارعة التيار(3)، وفي ذلك يقول صلاح عبد الصبور:

يا شيخنا الملاح قلبك الجريء كان ثابتا
فما له استطير
أشار بالأصابع الملوية الأعناق نحو المشرق البعيد
ثم قال :
هذي جبال الملح والقصدير
فكل مركب تجيئها تدور
تحطمها الصخور
..................
ملاح هذا العصر سيد البحار
لأنه يعيش دون أن يريق نقطة من دم
لانه يموت قبل أن يصارع التيار (4)

" ان روح الهزيمة والانكسار اللتين ركز عليهما الشاعر ليست من سمات سندباد ألف ليلة وليلة، وانما هي من سمات الانسان العربي المعاصر الممزق بين الحضارات فاقدا بطولته ونخوته وطموحه " (5 )

1- صلاح عبد الصبور : الديوان ص 11.

2 - صلاح عبد الصبور : الديوان ص .152

3 – أنس داود : الاسطورة في الشعر العربي الحديث ص 320.

4 - صلاح عبد الصبور : الديوان ص 152.

5 - : كاملي بلحاج :أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة،،ص 98 )

أما السندباد في مرحلته الثالثة عند عبد الصبور فاننا نجدها في قصيدته " الخروج " في ديوانه " أحلام الفارس القديم " التي يحاول فيها الشاعر أن يشق طريقه الى عالمه النفسي ويرحل في أغوار ذاته، متخذا من هجرة الرسول عليه السلام اطارا تاريخيا مناسبا يتحرك داخل معالمه ذلك السندباد الجديد الخارج من ماضيه المتجه نحو عالم اخر، انه يتحول من الرحيل في العالم الخارجي الى الرحيل في عالمه النفسي ... فكان ما في الهجرة من دلالة على التحول أقدر النظائر على الايحاء لنا بمدلول تجربة صلاح الجديدة :

سوخي اذن في الرمل سيقان الندم
لا تتبعيني نحو مهجري ..نشدتك الجحيم
وانطفئي مصابيح السماء
كي لا ترى سوانح الالم
ثيابي السوداء
ان عذاب رحلتي طهارتي
والموت في الصحراء بعثي المقيم (1)

"لقد قدم صلاح عبد الصبور في قصيدته "الخروج" نموذجه الاسطوري الاثير "السندباد" وهو يتحول عن الرحلة في الخارج الى الرحلة في الداخل .... من المجتمع الى الانسان (2).
أما خليل حاوي فقد اتخذ السندباد علما على تجربته الشعرية منذ مطلع ديوانه الأول" نهر الرماد" في قصيدته "البحار والدرويش":

بعد أن عانى دوار البحر،
والضوء المداجي، عبر عتمات الطريق
ومدى المجهول ينشق عن المجهول، عن موت محيق
بعد أن راوغه الريح رماه
الريح للشرق العريق
حط في أرض حكى عنها الرواة (3)

واعتبر نفسه راحلا أبديا في سبيل المعرفة، وقد أفصح أحيانا عن اسم " السندباد " واكتفى أحيانا أخرى بالحديث عن الرحلة والمغامرة ومشقات التطلع والبحث، وقد حاول -عبر هذا الرحيل – أن يعثر على اللغة الفطرية البكر(4)

ففي قصيدته " الناي والريح " من ديوانه الثاني بيحث خليل حاوي عن لغة الانسان الاولى التي تحمل كل أثار الاحساس المفعم بمشاهد الوجود وطريقه الى تلك اللغة طريق صعب:

دربي الى البدوية السمراء
واحات العجين البكر
والفجوات أودية الهجير
وزوابع الرمل المرير

1 - صلاح عبد الصبور: الديوان ص
.
2 - انس داود: الاسطورة في الشعر العربي المعاصر ص 326.

3 – خليل حاوي:الديوان، دار العودة، بيروت ص41-42.

4 - انس داود: الاسطورة في الشعر العربي المعاصر، ص 258 .

تعصى وليس يروضها
غير الذي يتقمص الجمل الصبور
وبقلبه طفل يكور جنة
غير الذي يقتات من ثمر عجيب
نصف من الجنات يسقط في السلال
يأتي بلا تعب حلال
نصف من العرق الصبيب
الشوك ينبت في شقوق أظافري
الشوق في شفتي يمرج باللهيب (1)

فالشاعر _خليل حاوي – قد بدأ بالرحيل من أجل المعرفة والبحث عن ماهية الوجود وانتهى بذوبانه في نهر الجوع والتطلع الى ازدهار الحياة ونضارتها عبر جيل عربي جديد:

يعبرون الجسر في الصبح خفافا
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد
من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق
الى الشرق الجديد (2)

(وفي ديوانه الثاني" الناي والريح " واصل خليل حاوي الايمان بالبعث العربي المبشر بالعودة الى الماضي الحلم:

داري التي تحطمت ..
تنهض من أنقاضها
نختلج الأخشاب، تلتم وتحيا قبة خضراء في الربيع
ما كان لي أن أحتفي بالشمس ..
لو لم أركم تغتسلون – بالصبح – في النيل، وفي الأردن،
والفرات من دمغة الخطيئة (3)_

أما في ديوانه الأخير " بيادر الجوع " فقد بدا كسير القلب والروح، يائسا من الانبعاث الذاتي العربي:

ماذا سوى كهف يجوع
فم يبور
ويد مجوفة تخط وتمسح الخط المجوف في فتور
هذي العقارب لا تدور
رباه كيف تمط أرجلها الدقائق، تستحيل الى عصور (4)

1- خليل حاوي : الديوان ص 202-205.

2 – السابق ص 169

3 – السابق ص 272.

4 – السابق ص 314.

ثم اتخذ من السندباد نموذجا يتبناه الشاعر في قصيدته " السندباد في رحلته الثامنة " حتى عد من أكثر الشعراء توظيفا لشخصية سندباد، لانه وجد فيها قيما ورموزا صالحة للتعبير عن شتى أبعاد تجربته الروحية والشعرية، لا سيما تلك الفترة الحاسمة من فترات تطوره الفكري، وهي فترة البحث عن الذات عبر مجموعة من المغامرات الوجودية فمغامرة الشاعر الفنية تحمل طابع مغامرات السندباد، وتتقمص شخصيته،

فالشاعر يتوحد بالمجتمع رافضا التقوقع الاقليمي، ويتجلى هذا التوحد في قصيدته " السندباد في رحلته الثامنة " من ديوانه " الناي والريح " لترسم هذه الرحلة من بدايتها الى نهايتها وتختصر المسافة وكأنها القصيدة التي اكتملت عندها الرؤية.

يقدم الشاعر لقصيدته هذه باستهلال يشير فيه الى الاسطورة المحورية الموظفة فيها وهي أسطورة السندباد، حيث أن السندباد عندما عاد الى بغداد في " ألف ليلة وليلة " بعد رحلته السابعة، ابتنى دارا فسيحة واشترى عبدانا وجواري وراقت له الأحوال أزمع ألا يجيب ذلك الهاتف الملح الذي يدوي في أعماقه بالرحيل، وخلد الى السكينة مستعيدا مع سماره طرائف رحلته(1)

غير أن السندباد عند خليل حاوي عصف به الحنين الى الابحار مرة ثانية فراح يبحر في دنيا ذاته، يستجلي معالمها العميقة بشفافية واضحة أظهرت ملامج ذلك البحار المجهول فاذا به السندباد البحري بكل ما يحمله هذا المغامر في التراث الشعبي من ملامح وسمات، فقد استطاع الشاعر أن يعثر في هذه الشخصية على الصوت التراثي الذي سينهض بعبء التعبير عن كل ما حاولت شخصية البحار أن تعبر عنه في نهر الرماد، بعد أن اكتسب أبعادا وأعماقا فكرية ووجودية جديدة (2

تنقسم القصيدة الى محورين رئيسيين مختلفين في الاتجاه، الاول تمثله دار السندباد القديمة الممتلئة بالسموم والشرور والاتجاه الثاني تمثله دار السندباد الجديدة، أما الدار القديمة فيقول فيها:

وكان في الدار رواق
رصعت جدرانه الرسوم
موسى يرى
ازميل نار صاعق الشرر يحفر في الصخر وصايا ربه العشر :
الزفت والكبريت والملح على سدوم
هذا على الجدار
علىجدار اخر اطار
وكاهن في هيكل البعل
يربي افعوان فاجرا وبوم
يفتض سر الخصب في البراري السكارى
يهلل السكارى
وتخصب الارحام والكروم
تفور الخمرة في الجرار
على جدار اخر اطار (3)

1 - انظر خليل حاوي : الديوان ص 253.

2- أنظر: أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة: كاملي بلحاج، دمشق، منشورات اتحداد الكتاب العرب، 2004، ص 50)

3 - خليل حاوي :الديوان، ص258.

في هذه الدار قضى السندباد طفولته يرضع من تلك السموم حتى سرت في عروقه، وفي ذلك يقول: رحلاتي السبع وما كنزته /من نعمة الرحمن والتجارة / يوم صرعت الغول والشيطان/
يوم انشقت الأكفان عن جسمي / ولاح الشق في المغارة

بلوت ذاك الرواق
طفلا جرت في دمه الغازات والسموم
وانطبعت في صدره الرسوم
وكنت فيه والصحاب العتاق
ثم يستفيق السندباد من غفلته فيلجأ الى داره يزيل عنها فجورها :
سلخت ذاك الرواق
خليته مأوى عتيقا للصحاب العتاق
طهرت داري من صدى أشباحهم
في الليل والنهار
من غل نفسي خنجري
ليني ولين الحية الرشيقة،
عشت على انتظار
لعله ان مر أغويه
فما مر
وما أرسل صوبي رعده، وبروقه (1)

وعلى الرغم من هذا ظلت الدارمختنقة بالصمت والغبار كأنها صحراء كلس مالح بوار لأن ما كان ينتظره السندباد لما يأتي بعد، وأصبح الانبعاث أمرا يتطلب التضحيات الجسام فيرفع السندباد يديه الى السماء يشكو الضيق ويطلب الصبح والامطار لكن هيهات:

طلبت صحو الصبح والامطار، ربي
فلماذا اعتكرت داري
لما اختنقت بالصمت والغبار
صحراء كلس بوار
..........................
وكأن في داري التقت
وانسكبت أفنية الأوساخ في المدينة
تفور في الليل والنهار
يعود طعم الكلس والبوار(2)

الا أن السندباد لم يستسلم بل راح يهدم الدار، لأنه مسكون برغبة التغيير والاندفاع نحو الامام:

وذات ليل أرغت العتمة
واجترت ضلوع السقف والجدار
كيف انطوى السقف وانطوى الجدار
كالخرقة المبتلة العتيقة
وكالشراع المرتمي
على بحار العتمة السحيقة
حف الرياح السود يحفيه
وموج أسود يعلكه يرميه للرياح(3)

1- خليل حاوي الديوان ص 266 )

2- السابق، ص 270.

3- السابق، ص 271 .

في المقطع الرابع يدخل السندباد حلما يرى فيه أن الرؤية بالتغيير قد تحققت، فأصبحت الدار جنة تموج بالثلج والزهر والثمار:

صحراء كلس مالح، بوار
تمرج بالثلج وبالزهر وبالثمار
داري التي تحطمت
تنهض من أنقاضها
تختلج الأخشاب
تلتم تحت قبة خضراء في الربيع (1)

وعندما يصحو من الحلم، يصمم على تحقيقه فعليا ليخرج من زمن الانتظار الى زمن الفعل الحقيقي، فيتحقق بعضه:

أفرغت داري مرة ثانية
أحيا على جمر طري طيب وجوع
كأن أعضائي طيور عبرت بحار
وحدي على انتظار
.......
واليوم والرؤيا تغني في دمي
برعشة البرق صحو الصباح
وفطرة الطير التي تشتم
ما في نية الغابات والرياح
تحس ما في رحم الفصل
ترته قبل أن يولد في الفصول (2)

وفي المقطع التاسع تتحقق البشارة ويطل السندباد على داره الجديدة التي تشكل المحور الرئيسي الثاني في القصيدة:

تحتل عيني بروج مدخنات
واله بعضه بعل خصيب
بعضه جبار فحم ونار
مليون دار مثل داري ودار
تزهو باطفال غصون الكروم
والزيتون جمر الربيع (3)

1 - خليل حاوي : الديوان ص 272.

2 - السابق، ص 288

3 – السابق، ص 290.

لقد وصل السندباد أخيرا الى الانبعاث لكنه تلقى من العذاب ما تلقى، واذا كان سندباد" ألف ليلة وليلة " قد عاد الى بغداد من سفراته محملا بالجواهر والكنوز فان سندباد القصيدة – وان دخل في تقاطع واضح مع سندباد الاسطورة – ظل يشق طريقه الى وجدانه فكانت رحلاته بحثا في أعماق ذاته وتاريخ حضارته لا للحصول على الكنوز وانما لاكتشاف ما بقي في هذا الذات من قيم تساعد على تجاوز المحنة وتخطي الانحطاط . وهنا يكمن الفرق بين سندباد " ألف ليلة وليلة " وسندباد القصيدة، كلاهما يرحل في الزمن الأول نحو الخارج أو المستقبل لأن هاجس الرحلة لديه هو المسيطر، والثاني نحو الداخل أو الماضي لأان زاد الرحلى لا يتم في رأيه الابذلك، والسفر نحو المستقبل لا يتم الا بالانطلاق من الماضي، وأن تغيير الواقع لا يتم دون هدم الافكار المهترئة تمهيدا لبناء جديد. وبذلك هدم خليل حاوي الحضارة القديمة وأقام الحضارة الجديدة، وان تم ذلك بعد معاناة وانتظار طويلين في بناء دائري تتشابك عناصره وتتفاعل مع بعضها البعض،(1)

لقد اتخذ من السندباد قناعا له، اذ يتفاعل صوته مع صوت السندباد حيث الغى المسافة التي تفصل بينهما وألقى نفسه في خضم الموقف الدرامي هادفا الى تطهير ذاته في انتظار النبءة أو الوحي.

ولربما كانت هذه المعاناة التي مر بها خليل حاوي " هي تلك التي ساقته الى الايمان بالحضارة على أنها فعل تقدم، وأن اله التقدم هو اله الانسان الحقيقي " (2

لقد تم التغيير عند خليل حاوي انطلاقا من ذات السندباد وبالتالي من ذات الجماعة عن طريق التطهر واجتناب المفاسد . وخليل حاوي نفسه يعلق على رمز السندباد بقوله : "وما يحكى عن السندباد أنه راح يبحث في دنا ذاته فكان يقع هنا وهناك على أكداس من الأمتعة العتيقة والمفاهيم الرثة، رمى بها جميعا في البحر، ولم يأسف على خسارة، تعرى حتى بلغ بالعري الى جوهر فطرته ثم عاد يحمل الينا كنزا لا شبيه له بين الكنوز التي اقتنصها في رحلاته السالفة " ( 3)

وفي قصيدته " الموت في المنفى " يوظف البياتي رمز السندباد فيقول:

بدم القلب، بطاقات الرماد
كتبت
أين كنوز السندباد
منك، يا زاد المعاد
أه لو أحرقت أشعاري
وأغرقت الليالي بالمداد لكتبت مرة أخرى بطاقات الرماد
أين أمضي، وطني ناء وكفاك على رأسي تراب
أين أمضي، فاريب مات على أبواب بغداد سراب
يا غراب البين لا تنعب
فأيامي رحيل واغتراب (4)

1- انظر : أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة : كاملي بلحاج ص 110 -114 )

2- ايليا حاوي: خليل حاوي في سطور من سيرته و شعره، دار الثقافة، ص 135-136).

3 - خليل حاوي : الديوان 253ص

4 – عبد الوهاب البياتي: ديوان عن الموت والثورة ص 99- 103 )

وقناع السندباد البحري الذي اقتبسه البياتي هو مثله جواب أفاق يقطع البحار ويتعرض للمغامرات، ولا ييأس لأنه مفعم بالأمل انه الشاعر نفسه في طموحه وعذابه وأمله في انتصار الثورة، لكنه ييأس أخيرا فيشعر بخيبة الأمل ويرى أن فجر الحرية بعيد الشروق اذ يقول:

جنية البحر على الصخرة تبكي: مات السندباد
وها أنا أراه
بورق الجرائد الصفراء مدفونا، ولا أراه
مركبه يباع في المزاد
وسيفه يكسره الحداد
عبد الوهاب البياتي : ديوان عن عن الموت والثورة ص)

ويقول البياتي:

قمري الحزين
البحر مات
وغيبت أمواجه السوداء قلع السندباد
ولم يعد ابناؤه يتصايحون مع النوارس والصدى
المبحوح عاد
الكنز في المجرى دفين
في اخر البستان تحت شجرة الليمون خبأه هناك السندباد
لكنه خاو، وها أن الرماد
والثلج والظلمات والاوراق تطمره وتطمر بالضباب الكائنات (1)
وهو رمز الثائر الذي يحمل لواء التغيير، فيقول البياتي " :
السندباد من هنا مر ؟ ومرت هذه العصور
وهو على مسحاته يدور
والشاه في بلاطه مخمور
يغرق في الحرير والاطياب
ويطعم الكلاب (2)

والسندباد هو القصيدة والحرف الذي يحمل القضية وفي ذلك يقول البياتي:

كل ما أكتبه
يا سندبادي
كل ما أكتبه محض حروف
فأنا اعتصر الحرف وورقائي مع الصبح هتوف

1 – عبد الوهاب البياتي: ديوان عن الموت والثورة ص - 165 – 166.

2 – عبد الوهاب البياتي: ديوان عن الموت والثورة ص - 138 .

وأنا يا سندبادي
متعب قلبي عزوف ...
أه لا توقظ جراحاتي ودعني حول أمواتي أطوف
أيها الحرف
الذي علمني جوب البحار
سندبادي مات مقتولا على مركب نار
أين من يأخذ ثأر السندباد
أيها السيف الذي للغمد عاد
دمنا كان المداد
أيها الريح الذي يحمل مركب
سندبادي
أيها الحرف المعذب
أينما تذهب أذهب (1)

والسندباد هو الفلسطيني الذي كتب عليه أن يجوب المنافي وفي ذلك يقول البياتي:

من يشتري ؟ الله يرحمكم
ويرحم أجمعين
أباءكم، يا محسنون
اللاجئ العربي والانسان والحرف المبين برغيف خبز
ان اعراقي تجف وتضحكون
السندباد أنا
كنوزي في قلوب صغاركم
للسندباد بزي شحاذ حزين (2)

علاء الدين ومصباحه:

وصفت " ألف ليلة وليلة علاء الدين بأنه " محظوظ لأنه استطاع أن يحقق بالفانوس السحري جميع رغباته، لكنه يمتاز ايضا بالاتزان لأنه يستعمل الفانوس باعتدال، وهذا هو سلوك التواضع مع الحظ والسعادة وهكذا يمتدح السلطان مثلا " بعد نظر علاء الدين " لأنه يعرف كيف يعتدل في الاستفادةمن ثروته. لقد امتز علاء الدين في " ألف ليلة وليلة " بالخشوع والطهر والكرم في اعطاء الناس وبخاصة عندما وصل الى قمة سعادته، وهذا السلوك هو الذي جعله يصمد أمام تقلبات الدنيا وهو الذي أنقذه فيما بعد أن لديه من الفضائل ما يكفي لجعل الحظ حليفه(3)

1 – عبد الوهاب البياتي: ديوان النار والكلمات ص 17–21.

2 – عبد الوهاب البياتي: ديوان النار والكلمات ص37.

3 – كاترينا مومزن: غوته والف ليلة وليلة، ترجمة: أحمد الحمو، منشورات وزارة التعليم العالي، الجمهورية العربية السورية، ص 130.

كان مصباح علاء الدين الطريق الى تحقيق الحلم، حلم الثورة.
بقول البياتي في قصيدة بعنوان:" مصباح علاء الدين":

صغيرتي ناديه
رأيت في سماء عينيك
رأيت الله والانسان
وجدت مصباح علاء الدين
والجزائر والمرجان
قلت لشعري: كن
فلبى عبده
وكان
غدا بمصباح علاء الدين . من جزائر المرجان
أعود يا صغيرتي اليك بالأزهار
من نهاية البستان(1)

وفي قصيدة أخرى بعنوان " الطلسم " عند البياتي نجد مصباح علاء الدين يشارك في اكمال لوحة الجهل والتخلف اللذين سادا مدينته، الصورة التي ارتسمت أمامه صورة الواقع المحطم الذي يخيم عليه اليأس والفقر والسوداوية فصور العقم الذي ساد الاشياء دون أن يبحث عن السبب الكامن وراء هذا العقم ولكنه عثر –من خلاله –على مبرر اجتماعي للتمرد:

أحرقني برق العشق، صغيرا
أحرقني الصمت / الطلسم / السحر
الاسود في قاع مدينتنا / مصباح علاء الدين
أنين الأشجار المقتولة في السرداب
صيحات الجني المحبوس / نداء الباعة في الأسواق
موت الأطفال / العشاق / هديل حمام الأبراج
أحرقني البؤس / الضوء / التجوال
بحذاء مثقوب تحت الأمطار أيام الأعياد (2)

بساط الريح:

أو البساط السحري الذي يتصف بقدرته على نقل الاسخاص الجالسين عليه فورا الى المكان الذي يتمنون أن يكونوا فيه، وقد وردت قصة هذا البساط في حكايات " ألف ليلة وليلة " في حكاية الأمير أحمد والجنية بري بانو "

في هذا الخاتم
جني محبوس يستنجد بي
لو تنجده يحملنا فوق بساط الريح
الى غرناطة
عمياء أنا

1- عبد الوهاب البياتي : ديوان النار والكلمات، دار الكاتب العربي، ص 111)

2 - عبد الوهاب البياتي : ديوان بستان عائشة ، المؤسسة العربيةللدراسات والنشر ط3، 1994 ص 81-83.

لكني أحلى من ولادة
أنظم شعرا في نومي
لكني أنسى ما أنظمه
رجل يشبه سيف الدولة
عانقني ...
لكني كنت أحلق
فوق مروج الشعر سحابة(1)

1- عبد الوهاب البياتي: ديوان البحر بعيد أسمعه يتنهد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1998، ص 12 – 13.

توظيف الرمز الشعبي في بناء القصيدة:

ثمة ثلاث مراحل في الاستفادة من التراث الشعبي في القصيدة العربية المعاصرة هي:

1 - الاشارة: وهو استقاء الاشارات من التراث الشعبي، ويظهر هذا عند شعراء مدرسة الاحياء ومدرسة الد يوان .

ففي قصيدة شهرزاد يذكر العقاد ما لسحر حديث شهرزاد، في اشارة بسيطة لتأثيرها في تغيير طبيعة شهريار فيقول:

انما السحر ايتان فمن
يملكها يملك الملوك عبيدا
يستبي القول ساحرات الغواني
والغواني تسبي القئول المجيدا (1)

2 – الرمز الخاص:

وهو الذي يسيطر بشكل مركزي في عمل أدبي واحد، مثل المطر في قصيدة " أنشودة الوطن " للسياب .أو الرمز الذي يظهر من حين الى أخر في نتاج أديب ما ويتطور في أعماله المختلفة حتى يكتسب أهمية خاصة في مجمل هذه الأعمال، ويصبح له دلالة مميزة في داخلها، مثل جيكور عند السياب .(2) .

3 - الرمز العام / النموذج أو القناع:

وهو الرمز الذي ينتقل من شاعر الى اخر ويكتسب دلالة جديدة في كل سياق مختلف . باكتشاف جوانب أو ابعاد جديدة من دلالات الرمز، أو استخدام الدلالات الموجودة فيه بطريقة جديدة،فيجعل منه نموذجا أو قناعا وهو " أن يتحدث الشاعر عن نفسه وعن وطنه من خلال نموذج تراثي يتخذه الشاعر نموذجا ليعطي لفنه بعد الاحياء التراثي، بالعودة الى الاساطير، وبعد الموضوعية، حيث يبعد عن تلقائية القصيدة الغنائية التي تترجم مباشرة عن الذات الشاعرة، ومن ثم يكون النموذج الاسطوري واسطة فنية قادرة على الايحاء للقارئ بهذين البعدين: التاريخي .. الذي يخبىء وراء النموذج الأ سطورى حياة حافلة بالذكريات، من خلال الأساطير والحكايات الشعبية التي نسجت منه،والتي ترسب مجموعة من المشاعر في النفس الإنسانية. فيكون استدعاءالنموذج قادراً على ابتعاث هذه المشاعر،واثارة الكامن منها في أعماق النفس الإنسانية، حيث يقدم النموذج لنا بحياته الخاصة، وحركته الذاتية، وخصائصه النفسية والفكرية ..فننظر اليه نظر تنا الى وجود مستقل عن ذات المبدع، وفي هذا ما يوحى لنا بموضوعية فكرة، وعمق مشاعرة ... وقد يشف هذا القناع في بعض جوانب تصويره عن الذات،وقد يبقى الشاعر بمنأى عنه موفراً له المزيد من الخصائص الموضوعية (3 ).

وهو ما يشار اليه بالعناصر الدرامية في القصيدة، ويميل الى استحضار مجموعة أحداث ووقائع من رموز " ألف ليلة وليلة" والتفاعل معها باستخدامها قناعا أي اسما " يتحدث من خلاله الشاعر متجردا من ذاتيته "(4 ) كأسلوب قصصي يتنامى مع النص الشعري بتفاعل صوت الشاعر مع صوت الشخصية المقنعة وزمنها، فنقرأ نصين مزدوجين: نصا تراثيا يختص بالرمز التراثي، ونصا حداثيا متفاعلا معه يحمل رؤيته وهمومه الخاصة

1 – العقاد : الديوان ، نشر اسوان 1976ص75.

2 – أنظر هاني نصرالله : البروج الرمزية دراسة في رموز السياب الشخصية والخاصة جدارا للكتا ب العالمي، عمان، الاردن ط1، 2006، ص 38-39.

3 - انظر أنس داود : الاسطورة في الشعر العربي الحديث ص 231.

4 - عبد الوهاب البياتي : تجربتي الشعرية ص 34 .

فيصل الشاعر بين ما مضى وما سيأتي، ويتخذه الشاعر الحديث ليضفي على صوته نبرة موضوعية شبه محايدة تبتعد عن التدفق المباشر للذات(1 )، وهو محاولة لخلق موقف درامي بعيدا عن التحدث بضمير المتكلم حتى يظن أن السخصية هي التي تتحدث الينا، الا أننا ندرك شيئا فشيئا أننا نستمع الى صوت الشاعر الضمني مع صوت الشخصية المباشر بحيث ينتج صوت القناع الذي هو محصلة لتفاعل كلا الصوتين: صوت الشاعر وصوت الشخصية التراثية " فأراد – الشاعر - أن يستبطن مشاعر هذه الشخصيات في أعمق حالات وجودها وتجاربها وأن يعبر عن النهائي واللانهائي، وعن التجاوز والتخطي لما هو كائن الى ما سيكون "(2).

وقد وجدت في مجتمعنا العربي نزعات كثيرة تحاول الخروج من قيم الماضي الفكرية والاجتماعية، ومحاولة تحطيم العزلة التي فرضها علينا الاستعمار والاتصال بالعالم وسبر الوجود العربي والرحلة داخل النفس العربية لاستخراج كنزها الدفين مجسدين هذه النزعات في نموذج فني مستخرج من التراث الشعبي العربي وهذا النموذج هو السندباد الذي ارتفع شعارا فنيا على كل التجارب الفنية لخليل حاوي وصلاح عبد الصبور في المراحل الثلاث التي أشرت اليها انفا، كما كانت زرقاء اليمامة نموذجا فنيا عند أمل دنقل.

والرمز هنا ليس من صنع الشاعر، لكنه – الشاعر – استدعاه من اطاره الزمني والنوعي والمكاني، ثم عمل على التوليف بينه وبين العناصر الأخرى في الصورة الشعرية " ان توظيف الشاعر لهذا الرمز يقتضي منه الوعي بدوره الحضاري، والوعي أيضا بكيفية تفجير ما في الرموز من طاقة ايحائية معبرة عن التجربة الشخصية و الانسانية (3)، وهذا يقتضي من الشاعر أنسنة الرموز، فهي بوضعيتها المعروفة اكتسبت معنى في الذاكرة الانسانية لكنها حين توظف رمزيا في القصيدة لاترتيط باطارها التاريخي فقط بل تتسع لتصبح حالة " فالقيمة كامنة في لحظة التجربة ذاتها وليست راجعة الى صفة الديمومة التي لهذه الرموز ولا الى قدمها "(4) كما على الشاعر أن يعمل على تفجير "علاقة عضوية بين الرمز وعناصر الصورة الشعرية الاخرى " (5)، بل بين الرمز وأجزاء القصيدة الأخرىبحيث لا يبدو مقحما على القصيدة أو طارئا عليها بل هو جزء بنائي فيها.

1-انظر جابر عصفور: أقنعة الشعر المعاصر، مجلة فصول، ع 4 م1، 1981.

2- عبد الوهاب البياتي: تجربتي الشعرية ص 36.

وانظر كذلك بحث "عبد الرحمن بسيسو :أقنعة "ألف ليلة وليلة في الشعر العربي الحديث "اذ تناول مفهوم قصيدة القناع وطبقها على نماذج من الشعر الحديث.

3- كاميليا عبد الفتاح: القصيدة العربية المعاصرة دراسة تحليلية في البنية الفكرية والفنية، دار المطبوعات الجامعية، الاسكندرية، 2006، ص 539).

4 - عز الدين اسماعيل: الشعر العربي المعاصر : قضاياه زظواهره الفنية والمعنوية، دار العودة، بيروت، 1973، ص 199-200).

6 - السابق ص 540.

ولعلنا هنا نقف عند قناع السندباد عند خليل حاوي كنموذج للقناع يتكلم الشاعر من خلاله في قصيدته "وجوه السندباد" وندرسها بنائيا .

ان حضور اسم السندباد قد استحضر الحلات السبع المروية في "ألف ليلة وليلة" فيندغم السندباد التراثي بالسندباد الجديد، ويتمخض عن هذا الاندغام ميلاد سندباد ثالث. تنبني القصيدة مثلما هو الأمر في حكايات السندباد على منطق الرحلة والمغامرة، وفي اطار هذا المنطق نفسه تتكشف الاليات الحاكمة لجدلية : الانسان – التجربة – الانسان – الزمن، ويبدو أن هذا المنطق هو الذي صاغ عناوين المقاطع التسعة التي تتكون منها القصيدة، وتكون التجربة، فثمة عناوين تؤشر الى محطات أساسية زمانية – مكانية في تجربة هذا السندباد القديم: الجديد وهي:، سجين في قطار، مع الغجر، بعد الحمى، جنة الضجر،، الأقنعة، القرينة، جسر واترلو، في عتمة الرحم . وثمة مقاطع ثلاثة أخرى يتداخل فيها الكشف عن ملامح وجه السندباد قبل التجربة بالكشف عن الملامح التي خطتها التجربة والغربة وتحفيرات الزمان على وجهه الأول لتجعله وجها منسوجا من الاف الوجوه للدلالة على الكثرة كما هو حال " ألف ليلة وليلة "، وهذه المقاطع الثلاث هي : وجهان، الوجهان، الوجه السرمدي (1).

تبدأ القصيدة في بث نفسها الينا من خلال صوت القناع – السندباد – ناطقا بضمير المتكلم المفرد:

لم تر الغربة في وجهي
ولي رسم بعينبها
طري ما تغير
أمن في مطرح لا يعتريه
ما اعترى وجهي
الذي جارت عليه
دمغة العمر السفيه
كيف – ربي – لا ترى
ما زور العمر وحفر
كيف مر العمر من بعدي
وما مر (2)

تبدأ القصيدة في لحظة العودة الى الوطن بعد انقضاء تجربة حياتية بالغة المرارة والتعقيد، ولدتها رحلة السندباد المسافر من أجل السفر، ويكون المطار هو المحطة التي يهبط فيها العائد الى الوطن، ويقيم عنوان المقطع " وجهان " تمايزا بين وجهي السندباد بل تضادا بين وجهه قبل التيه ووجهه في التيه وبعد عودته منه.

أما خطيبته فترى الزمن كما هو، ثم تتحول لتصبح رمزا للوطن الذي يموت الزمن فيه، ويتحول السندباد الى رمز للانسان المعاصر في انفراط شخصيته وضياعه وتشظي هويته.

واذا كان سندباد " ألف ليلة وليلة قد عاد بالكنوز فان سندباد القصيدة مرشح للعودة بالخسارة، وتصير القصيدة – التجربة – هي الكنز الذي خرج منه السندباد – قناع الشاعر من رحلة التيه المضني.

وفي المقطع الثاني من القصيدة "سجين في قطار" تتعمق رمزية القناع فنشعر بهويته المستلبة الضائعة فيشرع وجهه للرحيل، لكنه يحن بعد ذلك التشظي الى دفء البيت والحوار الاليف، وذلك من خلال أحلام اليقظة التي تستحضر واقعا مغايرا للذي يرفضه الانسان فيستدعي واقع الحضارة الشرقية أو واقع الحياة في وطنه الذي انسلخ عنه فيعود اليه:

مرة ليلته الأولى

ومر يومه الأول

1- أنظر عبد الرحمن بسيسو: أقنعة " ألف ليلة وليلة" في الشعر العربي الحديث.

2 – خليل حاوي: الاعمال الكاملة ص 221.

في أرض غريبة
مرة كانت لياليه الرتيبة
طالما عض على الجوع
على الشهوة حرى
وانطوى يعلك ذكرى
........................
لودعاه عابر للبيت
للدفء، لكأس مترعة
سوف يحكي ما حكى المذياع
........................
اسندي الانقاض بالانقاض
شديها ......على صدري اطمئني
سوف تخضر
غدا تخضر في أعضاء طفل
عمره منك ومني
دمنا في دمه يسترجع
الخصب المغني (1)

وفي قصيدة" العرندس " لمعين بسيسو تبدى العرندس رديفا لغويا لأحدب " ألف ليلة وليلة " اذ تظهر شخصية الأحدب في " حكاية الخياط والأحدب واليهودي والنصراني " (2)، باعتبارها شخصية ساخرة، أو شخصية ترمز الى فكرة الانبعاث والموت اأسلوب حكائي ساخر، ومنذ أن يبتلع السمكة، فتقف في حلقه الى أن يعود الى الحياة في نهاية الحكاية، حين يلكمه الوزيرلكمة قوية على ظهره، فتقفز السمكة من حلقه،، ويعود الى الحياة.

وقد تجلت صورته في قدرته على الحضور في كل زمان ومكان حتى في موته لاثارة أجواء القلق عند اؤلئك الذين تسيدوا وأمسكوا زمام حركة الحياة:

أنا العرندس
أتيتكم على جناح نورس
ما دام هذا العصر عصركم
أيها الذئاب
عصر الدفوف والطبوا والابواق
أبوكمو أنا العرندس
أتيتكم على جناح نورس (3 )

1. خليل حاوي: الاعمال الكاملة ص 231.

2 - انظر هذه الحكاية في " ألف ليلة وليلة ج1 ص 97 .

3- معين بسيسو: الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، ط1، 1979، ص 449 .

ومن الشعراء الذين وظفوا رمز السندباد بهذه الطريقة الشاعر عبد الرحيم عمر في قصيدته " سندباد يواجه التحدي " اذ يعمد الشاعر الى تحميل الرمز رؤية داخلية فيرمز بالسندباد الى ذلك الشخص الذي يواجه التحدي فيقاوم رافضا كل أنواع الظلم والضطهاد:

اقفر الوادي، وأنت الان في مأزقك الدامي وحيد
يا غريب الدار
لا ماء ولا زاد وهذي قسوة الصحراء
تلقيك الى رائعة الموت طعينا من جديد
اخرجي يا أرض من عينيه غيبي
ان يكن ذلك فميدي
واغربي يا صور القسوة في البرية الاولى
وغيضي يا كنوز القاع، ذوبي يا حجارة
فهو في اصراره الفذ العنيد
لت تزل تأسره تلك الطهارة
ثائرا تشغله أوطانه
صابرا لا تنتهي أحزانه
وهو حتى اللحظة الحيرى له ايمانه
الصافي وناب في الموت في حبل الوريد (1)

وفي قصيدته "من حكايا السندباد" ينقل عبد الرحيم عمر صورة رمزية يظهر فيها السندباد رمزا للمغترب الذي يعود من رحلاته صفر اليدين اذ لا يجد المكاسب التي يحلم بها، بل يتحول ذلك الحلم الى رحلة اغتراب قاسية:

يقول:

كانت الأعين ترنو
ما الذي عاد به يوم المعاد
من كنوز الارض هذا السندباد
وتهادى الرخ فوق الافق مزهو الجناح
سافرا من عزة الجو ومن هوج الجناح ثم أهوى بجناحيه والقى ببقايا سندباد (2)

1- عبد الرحيم عمر : الاعمال الشعرية ص 373 -376.

2- ديوان عبد الرحيم عمر : اغنيات للصمت، ص 63-67.

الخاتمة:

وهكذا نلاحظ من خلال هذه النماذج الشعرية –التي رجعت اليها – مدى تغلغل هذه الرموز في الشعر الحديث، اذ اعتمدوا كثيرا عاى حكايات شهرزاد لاسناد نقدهم الأدبي والاجتماعي، أو لاضفاء شيئ من الخيال الرقيق المرهف الى كتاباتهم، أو لتصوير بعض الاراء والافكار تصويرا حيا، معولين في كل ذلك على معرفة القارئ العربي لهذه الليالي وهذه الشخصيات، فقد كانت شخصيات: شهرزاد وشهريار والستدباد ومصباح علاء الدين وغيرهم حاضرة بقوة في الشعر العربي الحديث .

وعليه نستطيع أن نخلص الى نتيجة موضوعية دون مبالغة أو توتر تفيد بتغلغل" ألف ليلة وليلة " في الأدب الحديث، من خلال هذا الاستقبال الأدبي الحافل للحكايات وتوظيفها على النحو الذي قرأنا، اذ شكلت لهم رافدا مهما يستقون منه نماذجهم وصورهم، وامتزجت مع أخيلتهم ورؤاهم، ودفعتهم نحو عوالم الابداع الأدبي، وساعدتهم على الانفكاك من أسر الواقع البغيض، وحررتهم من العادي والمألوف، ودفعتهم للانطلاق نحو فضاء التغيير، وحفزتهم على الاقتراب من المتلقي الذي تعيش الليالي في أعماقه، بأسلوب يبتعد عن المباشرة والذاتية.

المصادر والمراجع:

 ألف ليلة وليلة: دار العودة، بيروت، لبنان .

 ابراهيم (نبيلة): أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار غريب، ط3 .

 اسماعيل(عز الدين): الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، ط3، دار الفكر العربي، 1978.

بسيسو (عبد الرحمن): أقنعة " ألف ليلة وليلة " في الشعر العربي الحديث.

 بسيسو(معين): الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، ط1، 1979.

 بلحاج (كاملي): أثر التراث في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة (قراءة في المكونات والأصول)، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2004 .

 البياتي ( عبد الوهاب):

 ديوان عن الموت والثورة ، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر .

 ديوان الموت في الحياة، منشورات دار الاداب، بيروت.

 ينابيع الشمس السيرة الشعبية، دار الفرقد للطباعة، ط1، دمشق، 1999.

 الخال (يوسف ) : الأعمال الشعرية الكاملة 1979، دار العودة، بيروت ط2، 1979 .

 حاوي (ايليا ) : خليل حاوي في سطور من سيرته و شعره، دار الثقافة.

 داود ( أنس ) : الاسطورة في الشعر العربي الحديث، مكتبة عين شمس، القاهرة .

 دنقل ( أمل) : الأعمال الكاملة. المطبعة الفنية، القاهرة، 1980.

 السبول (تيسير ) : الاعمال الكاملة، أزمنة للنشر والتوزيع، ط2، 1998.

 عباس ( احسان): اتجاهات في الشعر العربي المعاصر : ط2 .

 عبد الفتاح ( كاميليا ) : القصيدة العربية المعاصرة دراسة تحليلية في البنية الفكرية والفنية، دار المطبوعات الجامعية، الاسكندرية، 2006 )

 عصفور(جابر): أقنعة الشعر المعاصر، مجلة فصول، ع 4 م1، 1981 .

العقاد (محمود عباس): الديوان، نشر اسوان 1976.

 عمر (عبد الرحيم): الأعمال الشعرية، مكتبة عمان، عمان، 1989.

 ماثيسن ( ف. أ.) : ت.س اليوت الشاعر الناقد، ترجمة احسان عباس، المكتبة العصرية، بيروت، 1965.

نصرالله (هاني): البروج الرمزية دراسة في رموز السياب الشخصية والخاصة جدارا للكتا ب العالمي، عمان، الاردن ط1، 2006.

 ويلكة (رينيه): نظرية الادب، دار المريخ، الرياض، 1992. .

 وعد الله (ليلديا): التناص المعرفي في شعر عز الدين المناصرة،دار مجدلاوي، عمان 2005.

ابتسام محفوظ محمود أبو محفوظ

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى