الأحد ٢٦ شباط (فبراير) ٢٠١٢
بقلم فتاحي حسناء

عن شيء يتكرر

في سن الثامنة عشرة كانت، وكانت كبرى إخوتها، وبين عطالة الأب وخدمة الأم في البيوت، كان الأفق يغيب والمستقبل يأخذ لونا رماديا، فلا حاجة للدراسة، الميسورون هم وحدهم من يكملوا تعليمهم، كانت لا زالت في آخر سنة في الإعدادي، وفي مثل سنها حصلوا على البكالوريا. شبان الحي يتوددون لها، وأغلبهم من التلاميذ أو العاطلين أو المتسكعين، أما ألأساتذة وإداريي الإعدادية، فيحاولون تلقف ثمرة من ثمارها قبل أن تغادر، كانوا يعرفون أنها آخر سنة لها في المؤسسة ليتم طردها بعد ذلك.

أما هي فكانت تعرف أن المدرسة ليست ملعبها، ولا بيت الأسرة الذي يعبق بالصراعات ليلا ونهارا، مخدعها. فكانت تتأرجح بين ما تصبو إليه من أمال في حياة حرة ومرفهة، والعوائق التي تحول دون ذلك، من نقير الأم ومراقبة الجيران، وهذا الحي الجانبي المنبوذ الذي علق في أطراف المدينة الكبيرة، ولا أحد من الرجال المحترمين يأتيه، كل من فيه يتوفرون بالكاد على قوتهم اليومي. تعرفت نوال على فتاة في العشرين من عمرها، تعمل في محل لبيع مواد التجميل والإكسسوارات، وكانت تقضي عندها الساعات الطوال وهما يتحدثان، وكانا يتقاسمان أشياء كثيرة، ويتفقان على أشياء كثيرة. ويوما بعد يوم، توطدت علاقة الصديقتين، وصارتا يقضيان أوقاتا طويلة مع بعضهما، ويخرجان معا. وكان صاحب المحل التي تشتغل فيه صديقة نوال، يرافقهما في بعض الأحيان، ويقضيان فترة الزوال والمساء في أحد المقاهي وسط المدينة، فكبرت دائرة معارفهما، وتعرفتا على فتيات أخريات، والتقيتا شبابا جدد، واتضحت لهما الرؤيا، وشرعتا في التردد على منزل شاب من المجموعة، يلتقي فيه الأصدقاء، شبانا وفتيات، وبعد ذلك أنضم لهم رجال من مختلف الأعمار، واتسعت دائرة اللقاءات، وصارت الأشياء أكثر وضوحا، وأحست نوال أنها خطت الخطوة الأولى في المشوار التي تسعى لأخذه، وأصبحت تدخل البيت متأخرة في المساء، و قالت لأمها أنها تشتغل في محل لبيع الملابس الجاهزة وسط المدينة، وأن العمل يبدأ مباشرة بعد الزوال، وأن صديقتها هي من ساعدتها على إيجاد العمل وأن في جميع الأحوال هي لا تنوي الاستمرار في الدراسة. ولا الأم كانت تعتزم ذلك. وأصبحت نوال تعطي كل صباح لأمها مصروفا يوميا، فتنفست الأم الصعداء وقالت في نفسها، أنه أصبح في البيت من يشتغل ويساعدها على المصاريف. لم تعد نوال تذهب إلى المدرسة، وصارت تستفيق متأخرة في الصباح، ولا تلفي تضيع الوقت وتتجول في الحجرتين الصغيرتين التي تقيم فيهما الأسرة في السطح، إلى أن يحين موعدها الاعتيادي، فتخرج. صارت تقلها سيارة الأجرة لحد باب المنزل، وتغير شكلها كثيرا، حتى طريقة لباسها، وأصبحت لا تُرى إلا وهي تتحدث في هاتفها النقال، وكثُر الحديث عنها في وسط الحي، وصار الشبان والفتيات و النساء وحتى العجائز يلوكون سيرة ابنة السعدية، هكذا كانوا ينادون نوال، ولا ينسبوها لأبيها، لأن منذ أن استقرت الأسرة في ذلك السطح من اثنتي عشرة سنة مضت، وهم لا يعرفون مسئولا عن الأسرة إلا الأم. كانت السعدية قد تزوجت من أب نوال، وكان عاملا في شركة بناء صغيرة، وتعرض لحادث في ورشة بناء، فكسرت ساقه، والجزء الأسفل لظهره، تكلف صاحب العمل بالعلاج، وفي غياب التأمين وصندوق الضمان الاجتماعي، لم يحصل على تعويض.
استعاد صحته وأضحى يمشي و يتحرك كما كان، لكنه لم يعد يقوى على القيام بأعمال شاقة، وجرب عدة أشغال صغيرة فلم يفلح، واستحلى البطالة، فاستبطل. فتركت السعدية المنزل الذي كانا يكتريانه، واستقرت في ذلك السطح، وخرجت للعمل.

ذات مساء، بينما كانت السعدية تعد العشاء، أسرتها لم تكن تعرف وجبة الغذاء، فهي تخرج من البيت على الساعة السابعة صباحا، لتعود إليه في الخامسة بعد الزوال، والأب والأولاد يسدون الرمق بما وُجد، وقد لا يسدونه. كان صوت طنجرة الطبخ السريعة يصمُّ أذني السعدية، فلم تسمع ما يدور تحت بٍباب المنزل، إلى أن علا الصوت، وصار الجيران يتصايحون وينادونها، فنزلت مسرعة بملابس البيت تتخطى درجتين أو ثلاثة لأنها صارت تسمع صوت نوال وهي تبكي، وحين و صلت الباب لم تستطع الوصول إلى نوال فقد كانت جموع الجيران تغطيها والنساء يحولون بينها و بين أخيها الصغير الذي كان ممسكا بعصا غليظة يضرب بها رجلي نوال. أزاحت الأم الجيران من أمامها، وهي تصرخ، وشدّت على ابنها من عنقه، وجرته إلى الوراء ففلتت نوال ودخلت المنزل وطلعت الدرج. أضحى الابن الذي كان يصغر نوال بسنتين يصيح ويشتم، ويوجه الاتهامات لأمه أمام الملأ، والرجال والنساء يحاولون تهدئته، و أخيرا صعدت السعدية السطح و تركته يزمجر. وجدت نوال تبكي و تتخبط فوق الفراش المنحدر للغرفة الوحيدة في البيت -عدا غرفة الوالدين- وما إن لمحت أمها في عتبة باب السطح، حتى شرعت تصرخ وتتشنج ويخرج من شفتيها كلام متقطع يُفهم منه أنها هي التي تصرف عليه وتتكبدُّ ما تتكبدّه ليأكلَ هو، و يأتي في آخر المطاف ليقول في حقها كلاما آثما. ظلت السعدية واقفة مشدوهة لا تلوي على شيء ونوال لم تتوقف عن الصراخ، والأب قابع في الغرفة المجاورة، كالغائب الحاضر. بعد هنيهة عاود الأخ الظهور على باب السطح، ولا زال يزمجر فتقدمت الأم وغطت الباب أمامه، وظل يصيح في حالة هستيرية: أن ابنتها جلبت له العار وجعلته أضحوكة بين أصدقائه، ومرغت بكرامته الأرض وأنه لن يستعيد سمعته إلا إذا منعها من الخروج، وأبعدها عن ما تقوم به ذلك أن أحد أصدقاء ابن الجيران، رآها في حانة ليلية مع رجلين و فتاة، وأن ابن الجيران تتبعها و تأكد أن ليس هناك محلا للملابس ولا غير ذلك، وأنها تذهب مباشرة من البيت إلى المقهى و بعدها إلى الحانة وبعد ذلك يصعدون سيارة، وحاول تتبعهم فلم يفلح. حاولت السعدية إسكاته ففشلت. فشرعت في صفعه و هي تصيح أنها هي -الأم- رجل البيت وهي المسئولة، وإذا كان لأحد أن يحبس نوال في البيت ستكون هي. وتهاوى الابن أمام غضب أمه، و جلس منهك القوى على الدرج، فنادت السعدية على ابن الجيران الذي يسكن تحت في الطابق العلوي, و لما جاءها طلبت منه أن يأخذ ابنها معه ريثما يهدأ.

لم تكن السعدية تجهل ما تقوم به ابنتها، حتى وإن لم ترى فهي تحس، حتى وإن لم تصارحها نوال فهي تعرف، ولكن لم يكن لها خيار، فهي لم تكن باستطاعتها من قبل أن تغطي المصاريف دون أن تلجأ إلى السلف من الجيران أو من مشغلتها، وفي بعض الأحيان تضطر إلى تغيير العمل عندما تتكاثر عليها ديون مشغليها، والآن وعندما أصبح بمقدورها إقفال الثغرات الضرورية، ولم تعد تصغر أمام الدائنين، يأتي هذا الفرخ الصغير ليحدثها عن العار، أليس الجوع عارا؟ أليس الاقتراض لشراء ما يسد الرمق أضحوكة؟ أو ليس خروج الأم للعمل، في حين يسند الأب جدار البيت عند مدخل الحي طيلة النهار، إهدارا للكرامة؟

صباح الغد، وقبل أن تخرج الأم للعمل، بادرتها نوال وهي لا تزال في فراشها، هل ستترك ذاك الأبله يعيد كل ليلة المسرحية ذاتها، أمرتها أمها أن تتجه إلى عملها كالعادة وأن لا تهتم بشيء آخر. وفي طريقها إلى الباب الخارجي، مرت بباب البيت التحتي، ونقرته نقرات خفيفة، وبسرعة فتح ابنها الباب، فأمرته باللحاق بها، و سارا جنبا إلى جنب حتى موقف الحافلة، ولم ينبسا بشيء إلى أن وقفت السعدية قبالة ابنها و وجهت له نظرة قاسية وهي تقول له ما معناه أنها هي من يقرر في البيت لأنها هي التي تعول أفراده، و هي توافق على عمل نوال، ومن أراد أن يبقى تحت سقف البيت، عليه أن يرضخ لإرادتها، ومن لم يرضى، فليبحث عن سقف آخر. لم يجب الطفل، فعاودت سؤاله إن كان كلامها واضحا، فلم ينطق، و لم تصدر منه حركة. حينها رأت الحافلة قادمة، فتركته واختفت بين الأجساد المكدسة أمام الباب الخلفي للمركبة.

مرت سنة كاملة ونوال مستمرة في شغلها، ولم يعد يزعجها أحد إلا بعض المتسكعين من أبناء الحي، والذين يطالبونها بحقهم فيها، فهم أهلها وعائلتها فلماذا تبخل عليهم، ولم الآخرون وهم لا؟ ناهيك عن ما تلوكه نساء وفتيات الحي من كلام في حضرتها، ينغص عليها و جودها. لم تكن لتهتم بالكلام، أما تعرّض المتسكعين لها، فقد اتفقت مع حارس السيارات الليلي، ليمنع عنها المتسكعين مقابل أجرة أسبوعية.
كانت نوال قد بلغت السن القانوني للرشد فأعدت بطاقتها الوطنية، وبعد ذلك قامت بتجهيز جواز سفرها. ولم تنتظر طويلا، فقد انتزع لها أحد الرجال من دائرة معارفها الكبيرة، عقد عمل كمربية في إحدى الدول الشقيقة والغنية. حدثت الأم في الأمر، فأخذت السعدية نفسا طويلا في أعماقها، و قالت لابنتها أنه إذا سار هذا الأمر على مايرام، سنتخفف من عبء من الأعباء الكثيرة التي تكسر ظهورنا.

سافرت نوال، وأصبحت الأم تتلقى منها راتبا دوريا، تنفق منه ما تنفق، وتضع الباقي في صندوق للتوفير، و لم تتوقف السعدية عن العمل، ولم تنتبه لكلام الجارات اللواتي يقلن لها أن ترحم نفسها من العمل، وتحث نوال على أن تبعث لها أكثر لأنها و بلا شك تحصل هناك على مال كثير، وأنها عما قريب ستعود و في ذراعها زوج غني يطلع بهم فوق سطح الأرض.
فعلا، لم تمر تسعة أشهر، وعادت نوال إلى سطح البيت في ليلة صيفية حارة، لم يكن فيها قمر يضيء سماء السطح، وكانت السعدية وابنتها الصغرى يعدان العشاء في الهواء الطلق خارج غُرفِ السطح التي تكتم أنفاس ساكنيها بفعل الحرارة التي تجمِّعها طيلة النهار وبفعل البناء الأسمنتي والبلاستيكي. لم تصدق السعدية عيناها ولا الطفلة الصغيرة، وهي ترى شبح نوال يدخل عليها بلباس أسود ذو التقطيعة الخاصة بالبلد الذي سافرت إليه. ظلت السعدية شاخصة نحو نوال، فتهاوى عليها الجسم النحيل الذابل، وقبل خديها، وجلست نوال وقبلت أختها، وخاطبت أمها قائلة: عدت ولكن ليس كما رحلت، ذهبت علبة سحرية تدر المال, ورجعت صندوقا صدئا، الله وحده يعلم كيف ستتخلصين من محتوياته. نهضت السعدية وأدخلت نوال إلى الغرفة وأخبرت الأب والجيران أن نوال عادت في عطلة قصيرة من عملها. في الصباح، اعتذرت الأم من عملها، وأخذت نوال إلى الخارج، جلستا في حديقة صغيرة بعيدة عن البيت. أخبرتها ابنتها أنها عندما وصلت هناك، اشتغلت نادلة في ملهى ليلي للشخص الذي استقبلها هي و مجموعة الفتيات اللواتي ذهبن معها، ومن ضمنهن صديقتها البائعة في المحل. بعد فترة قصيرة، أصبحت من راقصات الملهى و في آخر كل ليلة، يلتقطها أحد الزبناء ليدفع لصاحب الملهى أتعابها أما هي فكانت تأخذ أجرا شهريا ولا يتركها تتصرف إلا في قسط قليل منه، و يرسل الباقي بشكل دوري إلى أهلها، كما أن كل أوراقها ومتعلقاتها كانت بحوزة صاحب الملهى. وكان يتردد على المحل رجل غني في الستينيات من عمره، رافقته عدة مرات إلى شقته، أغرم بها وصار يطلبها كل ليلة، بعدها، تفاوض مع صاحب الملهى، ودفع له مبلغ من المال ليعوضه على خسارته الناجمة عن تركها للعمل، وأخذ أوراقها منه ومتعلقاتها، وأصبحت نوال ملكا للرجل الستيني، تقبع في شقته، لا ترى أحدا غيره، يأتيها عندما تهُفُّ نفسه إليها، وما تبقى من الوقت تقضيه في العلبة الإسمنتية الواسعة بين ترتيبها وتحضير الأكل ومشاهدة التلفزيون، حتى المُزيّنة كانت تأتيها إلى البيت. كان مالك أمر نوال متزوج من اثنتين، وله أولاد من الزوجتين، وكان أحد أبنائه هو من يجيئها بما تحتاجه من مئونة إذا كان والده مشغولا أو متعبا. مع الوقت فكرت نوال في الحمل، وظنت أنه يمكن أن يغير الطفل حالها وتتحول من أٌّمَةٍ إلى زوجة، ولم تخبر السيد إلى أن ظهر حملها جليا، فجن جنونه ذلك اليوم، وصارت تنبعث من عينيه نظرة نارية تصاحبها زمجرة وهدير من تهديداته بأنه سيتخلص منها ومن اللقيط الذي تحمله. في الغد، عند الزوال، جاءها ومعه ابنه الذي تعرفه وامرأتان يضعان النقاب، عرفت من شكل عينيهما أنهما يتجاوزان الأربعينيات. شدتها واحدة من ذراعها، وحملاها الاثنتان إلى السرير بمساعدة الابن، حقنوها بمخدر، وحاولوا إجهاضها بطريقة تقليدية، لأن الجنين كان قد تجاوز الأربع اشهر ومن الصعب إنزاله سريريا. استعصى الجنين على النزول، رغم ما حقنوه بها وما أدخلوا في فمها من محلولات من الأعشاب. وهي تستفيق من المخدر، لم تفتح عينيها، وظلت تترقب ما تسمعه وما تتحسسه من حركات في البيت، كان باب الغرفة مفتوحا وسمعت السيد يقول: فلنتركها إلى الغد، إذا لم نحصل على نتيجة، سآتي بمن يفتح بطنها ويخرجه، وسأجد من المختصين من يقدر على ذلك المهم أن لا نذهب بها إلى مستشفى. فتهيئوا للخروج، وسأل الابن: وإذا استفاقت، ألن تحاول الخروج؟ فرد الأب أنها لا تملك مفتاحا، وكل النوافذ مغلقة بآلة التحكم عن بعد وسآخذها معي. غير أن نوال كانت قد قامت بنسخ المفاتيح في غفلة من السيد. انتظرت إلى أن ابتعدوا عن البيت، وقامت وغيرت ملابسها، وأخذت بعض المهدئات التي كانت بحوزتها، والمجوهرات القليلة التي كانت تملكها، وبعض المال التي كانت تختلسه منه في لحظات مجونه، ووضعت النقاب على وجهها، واتجهت إلى سفارة بلدها. لم تجد حلا سريعا لمشكلتها، فالحالات مثلها التي تُستقبل يوميا لا تعدّ، وهي كانت تتألم بفعل الأدوية التي أعطوها لها، بالإضافة إلى أنها مطاردة، ويمكن للسيد أن يقدم ضدها بلاغا بالسرقة. فلم تجد إلا أحد الحراس في مبنى السفارة، حكت له قصتها، وتوسلت إليه، وبكت تحت قدميه وأعطته مجوهراتها، فتدبر لها ورقة سماح بالمرور، ورافقها إلى المطار، فدفعت ثمن تذكرة في أول طائرة تقلها إلى المدينة، مسقط رأسها.

السعدية كانت تتمتع بسمعة جيدة في الحي، بالإضافة إلى تعقلها وحلاوة لسانها، فهي تحمل عبء أسرة بكاملها، حتى الزوج، لم تفكر مرة في طرده أو الطلاق منه، رغم بطالته. رجاحة عقلها، جعلتها تقصد ابراهيم، موزع صغير ومستهلك للمخدرات، طردته زوجة أبيه من ما يقرب من خمسة عشرة سنة، وهو الآن يقطن الكراج (مرأب للإيواء) المقابل لبيت السعدية مع بعض المتسكعين والباعة المتجولين، مقابل أجر شهري يدفعونه لمالك المحل. تحدثت بمفردها مع ابراهيم، وعرضت عليه الزواج من نوال وتسجيل المولود باسمه مقابل تحملها هي مصاريف الزواج، والإقامة والعيش إلى أن تضع نوال حملها، فتخرج الزوجة للعمل، ووعدته أن لا تطلب منه هي أو نوال درهما واحدا. وعززت قولها، أنها هي نفسها –الأم- لم تطلب أبدا من زوجها أن يتحمل مسؤولياته اتجاه أبنائه، فكيف لنوال أن تطلب منه أن يتحمل عبء مولودها؟

عندما علمت نوال بالاتفاق الذي تم بين أمها والزوج المنتظر، خرجت لتتمشى قليلا، أخذت الحافلة، وصلت إلى وسط المدينة، مرت بالمقهى التي كانت تلتقي فيه بمعارفها القدامى، لم تجد أحدا ممن تعرفهم، الأماكن تغير زوارها كما يبدل المرء ثيابه، ومرت بالحانة المألوفة، ولم تدخل. وتمشت على قدميها طويلا ولم تحس إلا وهي تصل شاطئ المدينة، فعبرت السور الصغير للشاطئ، وصارت تدكّ رمال البحر بقدميها، للحظة، فكرت أن تدخل البحر بملابسها ولا تتوقف إلى أن تتلقفها الأمواج، لم تؤتيها الشجاعة. وصارت تفكر: عندما بدأت الخروج إلى الوسط وصار الرجال يطلبونها، وهي تحصل على المال، ظنت أنها عبرت إلى الضفة الأخرى، حيث يغيب الجوع و العنف والفقر. الآن، تحس أن الفقر عالق بها ولا يريد أن ينزلق من عليها.
هو الفقر، يتغذى من نوال ومن أمثالها، ولأنه يخشى على نفسه من الانقراض، فيدافع عن وجوده بشراسة، ولا يسمح أن يضيع مكسبا من مكتسباته، فإنه يلتصق بأصحابه، ويُورِّثَهم إياه، ومن ثمة ينتقل إلى خَلَفِهم، فيدخل في تكوين جيناتهم، ويصيرون مِلْكا له على مر الأجيال. إنه هو الفقر، مبدع المآسي، مستنقع الآفات ومرتع الألم.

ما إن استقرت نوال مع زوجها في غرفة اكترتها لهما الأم ووضعت مولودها، وبحثت لها السعدية عن عمل في بيت إحدى معارف مُتسخدِميها، حتى شرعت ابنتها الصغرى في سلك المشوار الذي أخذته نوال قبلها. فلم تعارض ولم تمانع وقالت في نفسها أن مسلسل حياتها موعود بتكرار حلقاته، فنوال تكرر حلقات مسلسلها هي، والأخت الصغرى تكرر مسلسل حلقات نوال، ليصل الاثنتان فيما بعد إلى النهاية المحتومة، مأساة السعدية -الأم- صحيح كل واحدة تسلك طريقها الخاص، لكن ليعبرن فيما بعد نحومستنقع واحد.

في نفس التوقيت سمعت نوال خبر وفاة صديقتها -البائعة في المحل- وكانت قد انقطعت أخبارهما عن بعض، فذهبت إلى منزلها، وعلمت أنها توفيت في حادثة سير غريبة، وأنهم لم يستطيعوا استرداد جثمانها لعدم توفرهم على المبلغ المطلوب، فدفنت هناك، في البلد الشقيق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى