الاثنين ١٢ آذار (مارس) ٢٠١٢

قرمودتي

نادية بنمسعود

يتجول الصباح وحيدا مع الصقيع.. يطل الغمام بوسامته المعهودة حاجبا شمس النافذة من الخارج..

هل يتوجب عليه دوما أن يقوم بجمع ركام جرائدها البالية.. وترتيب فراش نومه قبل أن تتسلل إليه رائحة "الغمل" التي تشعره بروتين يقطِّع حياته إلى فصول من الألم والانتظار، يتملى ملامحه المنكسرة على مرآة الزمن وتصيح: لماذا تذكرني المرآة بثقوب سوداء تزين وجهي الأبيض، وتفتح في ذاكرتي وحدة قاسية..

 يجب أن أرتدي معطفي الأسود..

 لابد لي من الخروج باكرا حتى يتسنى لي الاستمتاع بقهوتي السوداء.. سأشربها بعيدا عن هذا الحي؛ حي "الموظفين" بجيوبه المنهكة بقروض الزواج والبناء والنفاق..سأقترض قليلا من الوقت والمطر..يبدو أن الهواء النقي في طريقه إلى منزل روحي العطشى بالحب..

من شرفتها كان تطل دائما كملاك بلوري من أزمنة الجنة الفيحاء.. كان ينتظر تلويحة من يديها الصغيرتين ليهيم في مخيلته التي تفضح كبتنا المؤجل باستمرار..كانت تبتسم خجولة في طقوسها المارقة بالعشق.. أسرار العيون ..نداء القلب.. ورموش الجسد..أيام ماطرة تختفي من الذاكرة بعد أن جعل الزمن أيادينا قصيرة عن التحديق في حجم الفراغ المحيط بنا..
تحطمت مظلتها في ذلك اليوم الماطر، وأصابها البلل العليل، وتناست زخات الثلج التي أحرقت دخان قلبي في أعماق الريح ..الريح التي حملتها بعيدا، وتركتني أسير في شارع الغرام من دون روح..

لم أبال كثيرا برحيلها، هكذا يقول مع نفسه، ليبرر فشله الذريع في الثورة على من خربوا أحلامه الطازجة ذات يوم في واضحة النهار..

يحتمي دائما بزاوية تذكره بأمجاده المنهوبة من قبل جيوش البعوض، وأسراب الحاقدين والطامعين..يتطلع إلى السقف القرميدي المبني بعناية، تذهله عبقرية الصانع الذي سرق منه "قرمودته"، وجعله يعيش بقرمود إسمنتي جهة قلبه الأيسر مدى الحياة.. الزمن لا يرحم، والمطر يصر على تأخيري دائما يقول مع نفسه متأملا خشخشة أقدامه المتعبة، وخرير المياه الصدئة بموسيقى الصندل..طفلة تتمرغ في الطين المبلل في غفلة من أمها التي ما تزال تتدفأ بعطر زوجها، وترسم خطوطا بنية في الوجه البض الأبيض....أطفال لا يعرفون إلا اللعب.. لا يهابون الفيضان حتى وإن سقطت أبراج المدينة كلها.. ضفيرتان مبللتان يغطيهما وشاح قرمزي اللون، وجلباب أبيض كبياض نجمة أغسطس، أرمقها بعيني الجاحظتين، وهي ترمقني بعينيها السوداويتين.. دون تردد ضممتها إلى صدري..مسحت قطرات من المطر عن وجنتيها الطريتين، اشتد المطر والبرق، وزادت رغبتي في احتضانها أكثر. .

لا أدري كيف وجدتها في المساء ببيتي ترتب جرائدي وسجائري وفناجيني القذرة الملقاة على الأرض، وبين الفينة والأخرى تنظر إلي بثغر باسم قبل أن يداهمنا الصمت.. مدفأة صغيرة من بقايا العجلة الحديدية، وبقايا أخشاب صديقي النجار وإبريق من الزمن النحاسي المتلون بالسواد، وقطع سكر بيضاء ترسم رغوة فوق فوهته التي تتمتع بفرحة وسط حدائق النعناع الممزوجة"بالشيبة"، تلك وصفة سحرية أدفأت قلبي المنهك بالأسفار.. سأتغيب عن العمل هذا اليوم، فلست في حاجة إلى عمل، ما دام المطر يعرقل حركة السير، والفيضان وشيك، ومآسي ستعم الدور القريبة إلى المرينة"الله يستر" تقول بصوتها الرخيم الطازج، تمسك بيديها كأس الشاي، وهي تلف حول خاصرتها الباطنية القطنية، وجسدها النحيل ينير ظلمة القلب والجدران الباردة..

 عيون المدينة لا تنام، وقلبي يخفق باشتداد الفراغ..

 ماذا لو طرق أحدهم عليّ الباب؟ كيف سيكون موقفي؟ هل سيصدقون إنسانيتي..لا لن يصدقونني أبدا؟ لا يمكنني أن أترك هذه الفتاة عرضة للريح وأرصفته الماطرة..ليست مبادئي؟ ولست من الذين يستبيحون أجساد النسوة؟ من تكون هذه الفتاة؟ ولماذا هي وحيدة؟ وماذا ستقول إن كبحت رغبتي في ضمها إلي ثانية بطقوس هذه النيران التي تكتم أنفاسي؟ يا لتفاهة الموقف تقول شرقيتي؟ ويالك من بليد غبي..هل ستترك هذه النعمة دون أن تتدفأ قليلا.. حيرتها جعلتها تفقد بوصلتها، وهي تعد وجبة العشاء التي لم تكن سوى طنجرة ظغط مليئة بالجزر والبطاطس وفتات من الدجاج المتبقي، أجبرنه أن يظل بمكانها، وان لا تغضبه إن عبر عن رغبته في مساعدتها، فقد تحعلمت دائما بأن الرجل لا يتوجب عليه أن يكون جنتلمانا أكثر من السكر نفسه..حملت الصحن إلى المائدة الخشبية البسيطة، وقطّعت الخبز بالسكين، ورأيتُ الخوف يتسلل إلى عينيها، وكلنا بصمت رهيب، الصمت الذي عم المكان دون أن أستطيع تحريك دوائره التي اشتدت عليّ وكادت تخنقني ورغبت في أن أجعلها تتحدث لكنها مصممة على صمت الصمت..أخبرتها بعد ذلك إن كانت ترغب في النوم أن بإمكانها أن تحتل غرفتي الصغيرة، وسأنام بجوارها وسط المنزل؟ فوافقت بإيماءة من رأسها؟
لم أشعر إلا وأنا أنام في مكاني بعد معارك جانبية انفجرت معها هواجس الجسد وفتوة القلب، التي كادت قوتها تدفعني إلى ارتكاب حماقة تلطخ صورتي المبجلة.. بزغ الفجر، فتحَت غرفتي، تسللت إلى مكتبتي، وحملت قلما وورقة، وخطت لي بحروف بارزة: كان يجب أن أحتمي بالقرمود..ووضعتها إلى جانب رأسي وغادرت البيت..

وجع عنيف في الرأس، صداع، وضباب في عيني، وامرأة ترش عطرها في أنفي، وتقول لي" على سلامتك أولدي..نجاك الله من القرمود"..

نادية بنمسعود

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى