الخميس ١٥ آذار (مارس) ٢٠١٢
بقلم مادونا عسكر

يكفيك مجداً أنّك إنسان

مسيرة الإنسان منذ وجوده وعبر التّاريخ، ليست سوى بحثاً عن إثبات ذاته بشتّى الطّرق. يخفق حيناً وينجح أحياناً، وهذا يتوقّف على عدّة عوامل، أهمّها: طريقة تربيته، محيطه البيئيّ والسّياسيّ، قدرته على التّفاعل مع التّغيير والتّطوّر من حوله، ومدى ذكائه وحكمته في اكتساب ما يمكن اكتسابه من قيم ومبادئ تصقل شخصيّته وتعزّز قيمته الإنسانيّة.

وفي هذه المسيرة الطّويلة أو القصيرة، وأظنّها قصيرة مهما طالت، يتلهّى الإنسان بأمور كثيرة، لا يكتشف مدى سلبيّتها إلّا بعد أن يلمس مدى تأثيرها على خبرته الشّخصيّة، ومدى تعطيلها لمسيرته الحياتيّة، كالاهتمام بنظرة الآخر له، أو حبّ الظّهور الفارغ والسّطحيّ، الخالي من أي عمق. وبالمقابل قد يحسن اختيار الإيجابيّات الحياتيّة، كالبحث المستمرّ عمّا يفيده، في مسيرته وما يصقل نموّه العقليّ والفكريّ، والنّفسيّ والرّوحيّ.

وكلّ إنسان حالة خاصّة، ولا يشبه الواحد الآخر إلّا ببعض المكتسبات، وإن تشابه الواحد مع الآخر في الظّاهر، يبقى في عمق كلّ منهما إنساناً متفرّداً متميّزاً. فنحن، في حديقة هذا العالم، زهور متنوّعة، لكلّ منّا عطره وجماله ورونقه. قطرات السّماء تروينا دون تمييز، ومع كلّ قطرة يزداد جمال كلّ منّا فينمو ويثمر ويبدع.

كي نستحقّ إنسانيّتنا، وأقول،"نستحقّ"، لأنّ الإنسانيّة استحقاق نسعى إليه ، علينا أن نبحث في ذواتنا وأعماقنا عن قيمتنا الإنسانيّة. ففي داخل كلّ منّا مشروع إنسان، ولا يكفي أن أكون عاقلاً، لأستحقّ إنسانيّتي. كما لا يكفي أن أحسن القراءة والكتابة، أو أتميّز بموهبة معيّنة، أو أعتلي اهمّ المناصب في الدّولة، أو أهم المراتب العلميّة والثّقافيّة والإجتماعيّة... كلّ هذا عظيم، ويساهم ببناء إنسانيّتي ونموّها وتطويرها، ولكن لا يجعل منّي"عظيماً".. لا يكفي أن يسبق اسمي لقباً لأكون عظيماً، ولسنا بحاجة للألقاب، ولا أفهم سبب وجودها، وسبب إضافتها على الأسماء للدّلالة على أنّ شخصاً ما عظيم أو يتمتّع بأهميّة تميّزه عن شخص آخر. إنسانيّتي،هي عظمتي، لأنّها تحمل كلّ معاني الإبداع العقليّ، كما تحمل كلّ الجمال والحبّ. ألا يكفي الجمال والحبّ والإبداع لأكون عظيماً؟.

إنّ الإنسان الأوّل -البدائيّ-، تميّز بالعظمة عندما اكتشف أنّ احتكاك حجرين يتسلّى بهما، يشعلان ناراً يتحدّى بها صقيع الشّتاء، ويحمي بها نفسه من أشدّ الحيوانات شراسةً وافتراساً، ويمتّع حاسّة ذوقه بوجبة لذيذة. كما أنّه لا بدّ أنّه افتخر بنفسه، عندما كان يُخرجُ من يديه إبداعاً ما، كمطرة ماء، أو معول يقلب فيه الأرض، أو آنيةٍ خشبيّة أو ما شابه. أو يصنع بيتاً من التّبن أو القشّ، يقيه حرّ الصّيف، وزمهرير الشّتاء. وإلى ما هنالك من أمثال لا تعدّ ولا تحصى منذ أن نشأت البشريّة حتّى يومنا هذا. فكلّ اكتشاف مهما كان صغيراً أو كبيراً، سخيفاً أو مهمّاً، ساهم في تطوير الإنسان، حتّى أنّ الطّفل الصّغير يعتزّ بنفسه، ويعبّر بكلّ قوّة وفرح، حين يكتشف أنّه يستطيع أن يفكّك لعبته ويعيد تركيبها من جديد. بالنّسبة له، هذا اكتشاف عظيم!. والإنسانيّة ليست سوى طفلٍ صغيرٍ، ينمو جسديّاً وعقليّاً ونفسيّاً وروحيّاً، ويمرّ بمراحل شتّى، ولكلّ مرحلة تأثيرها السّلبيّ والإيجابيّ، وتطبع في داخله آثاراً يحملها معه في مسيرته، كما يتعثّر بسقطات ويفتخر بانتصارات. ومن سقطة إلى سقطة، ومن نجاح إلى آخر، حتّى يصل إلى اكتمال شخصيّته الفعليّة.

لا يختلف إنسان الأمس كثيراً عن إنسان اليوم، إنّها الظّروف الّتي تختلف. ولم يكن أقلّ ذكاءً من إنسان اليوم، لا بل أعتقد أنّه كان أذكى بكثير، فبوسائل بدائيّة جدّاً كان يمتلكها وظروف قاسية استطاع أن يطوّر حياته ويؤمّن راحته. نحن اليوم نبرع في شتّى المجالات، ولا شكّ في ذلك، ولكنّني أعتقد أنّ الموضوع أسهل بكثير، إذ إنّنا نملك كلّ الوسائل التّكنولوجيّة والعصريّة لنحقّق نجاحاتنا.

الإنسان مفطور على حبّ الاكتشاف والتّعلّم والإبداع، وليست هذه الميزات مكتسبة وإنّما تولد معه، ولكنّها تحتاج إلى حسن التّدريب والتّوجيه الصّحيح. إنّ الأدباء والعلماء والمبدعين كانوا يبحثون عن الجمال والحبّ ليحقّقوا إنسانيّتهم، لذلك أبدعوا وتميّزوا واستحقّوا أن يبقَوا خالدين في عالمنا رغم غيابهم في الحضور. كما أنّ الأنبياء والمرسلين، كانوا يبحثون عن الإنسان ليظهروا جماله الحقيقيّ،" الجمال الإنسانيّ"، وتطلّب منهم الأمر، الكثير من الحبّ، فالبحث عن الجمال لا يكون إلّا بالحبّ. هم أيضاً أبدعوا، فمن يبحث عن الجمال ويزرع الحبّ يحصد الحرّيّة الإنسانيّة، وإن لم يحصد الزّارع، فلا بدّ أن يأتي من يحصد. ويتوالى عبر العصور والأزمنة زارعو الحبّ وحصّادوه، ومبدعو الجمال إلى أن تكتمل الإنسانيّة بجمالها وحبّها وحرّيّتها.

مخطئون من اعتقدوا أنّ على الإنسان أن يسعى إلى الكمال الإلهيّ. واجب الإنسان أن يسعى إلى كماله الإنسانيّ، وعندما تكتمل إنسانيّته، يستحقّ أن يُدعى " إنساناً"، وإلّا يبقى مشروع إنسان.

نقطتان أساسيّتان تلخّصان إنسانيّة الإنسان، وبهما يبلغ كمال إنسانيّته: المحبّة والحرّيّة.

"إزرع المحبّة... تحصد "إنساناً".

بتنا اليوم، إذا ما تكلمنا عن المحبّة، وكأنّنا مخلوقات غريبة، أتت من كوكب ثانٍ، تتفوّه بلغة غير مفهومة. إمّا تحاوطنا النّظرات الخبيثة من كلّ جانب وصوب، وتخفي وراءها ابتسامات سخرية، وإمّا نُنعتُ بالمعقّدين والمتخلّفين، والكارثة الكبرى أن يطلق علينا لقب "الضّعفاء"!!

المحبّة تُزرع في الإنسان من قبل أن يوجد. فهو ثمرة حبّ لشخصين قرّرا أن يرتبطا ببعضهما البعض، ببركة الحبّ المطلق، وعبّرا عن حبّهما باتّحادهما الكامل، فأتى هذا الإنسان ثمرة لهذا الحبّ. ومنذ اللّحظات الأولى يعبّر الوالدين عن فرحهما وحبّهما لهذه النّطفة على أنّها إنسان، وليس على أنّها نطفة. وتنمو النّطفة وتصبح طفلاً يعيش هانئاً في أحشاء أمّه، يستقي منها الحبّ والحنان والرّعاية، كما يستقي الغذاء. ولحظة خروجه إلى العالم الجديد، يُحاط بالكثير من الحبّ، وقد يكون مفرطاً أحياناً. فكلّ شيء يقدّم إليه بحبّ وحنان. إذاً، في داخل هذا الإنسان بذور محبّة، تنتظر من يرويها ويسقيها بعناية وانتظام، كي تنمو وتكبر وتصبح طريقة حياة.

علم التّربية يشدّد على أنّ التّربية على المحبّة تصنع إنساناً سويّاً متّزناً. كما تفجّر طاقاته وتستفزّ ملكاته الفكريّة، وتساهم في بنائه اجتماعيّاً. بالمقابل، نرى أنّ كلّ ما يعاني منه الإنسان من اضطرابات نفسية، تعود أسبابها لنقص عاطفيّ، فعلى سبيل المثال، إنّ الإنسان الّذي لم يلقى حناناً كافياً وحبّاً وفيراً من أمّه، يبحث عنه لاحقاً في كلّ السّيّدات بشكل لا واعٍ. كذلك الّذي تربّى على القسوة، والصّرامة الشّديدة والعنف، يتحوّل لاحقاً إلى طاغٍ أو مجرمٍ، بهدف حماية نفسه من أي عنف أو قسوة، وذلك انطلاقاً من خبرته الحياتيّة. هو لم يعرف الحبّ، فكيف يعيشه، أو كيف يتّخذه منهج حياة. ومثال آخر عن الإنسان الّذي يقدم على الإنتحار، فهذا الإنسان، يفتقد كثيراً إلى الحبّ، لم يتلقّاه ولم يسعَ إليه، أو سعى بشكل خاطئ، والأهمّ أنّه لم يحبّ ذاته، بل أبغضها بغضاً شديداً، حتّى قتلها... وإلى ما هنالك من اضّطرابات نفسيّة وسلوكيّة، لا يمكننا التّطرّق إليها هنا. ولكن من المهمّ أن نعي أهميّة التّربية على المحبّة، إذا أردنا أن نحيا كبشر.

عندما نتكلّم عن المحبّة، لا نعني بها الرّومانسيّة. فالمحبّة ليست عواطف ومشاعر وحسب، وإنّما هي فعل إراديّ حرّ ينبع من عقل الإنسان وقلبه. هي التّوازن بين المنطق والمشاعر، فيأتي السّلوك متّزناً. الإنسان الممتلئ من المحبّة ينطلق نحو الآخر، ويفيض بمحبّته عليه، إذ لا يمكنه امتلاكها، أو سجنها في أعماقه. ولا يظنَّنَ أحد أنّ عيش المحبّة أمر سهل، أو ينمّ عن ضعف وخنوع. إنّ عيش المحبّة يفترض التّحدّي. أن تحبّ هو أن تتحدّى كلّ ما يصادفك في طريقك من صعوبات ومشاكل وعقبات، وأن تسير بصمت نحو هدفك، غير مكترثٍ بثرثرات من هنا وهناك، لأنّك واثق أنّك منتصر بقوّتها. كذلك عيش المحبّة يفترض سلوك طريق الألم وبذل الذّات. إنّه ذلك الألم الّذي يبعث الفرح الحقيقيّ، لأنّ ألم المحبّة يشبه ألم الولادة ، فمن عمق آلامها تلد الأمّ حياة جديدة وتبذل من ذاتها، فتنقص هي لينمو آخر.

لا نستحقّ إنسانيّتنا إلّا حين تتغلغل المحبّة في أعماقنا، ولا نستحقّها، إلّا إذا استنار فكرنا بها، فنبدع لوحة الجمال الإنسانيّ. ألمحبّة جبلتنا، وصنعتنا، فأبدعتنا إنساناً. فما همّك بعد أيّها الإنسان في البحث عن عظمةٍ أو مجدٍ زائلٍ فانٍ؟ وما قيمة العظمة والمجد إن لم يولدا من رحم المحبّة؟.

أنت تحبّ ، إذن أنت إنسان. وتكون محبّتك تذكرتك إلى كلّ القلوب مهما كانت قاسية، فهي شعور جارف، كالماء المتدفّق الّذي يتسرّب رغم كلّ المحاولات لإيقافه، كالزهرة تتحدّى قسوة الصّخور، فنبتت بينها. ليست المحبّة ضعفاً ولا ذلّاً، إنّها القوّة، إنّها الحرّيّة. ولو خُيِّرْتُ بين أن أمتلك سلاح العالم كلّه وأسيطر عليه، ويسجد عند قدميّ كلّ البشر، وبين أن أسلك طريق المحبّة لأخدم بها الإنسانيّة، فسأختار المحبّة ، لأنّني لا أريد أن أكون عبداً يمتلك عبيداً. بل أريد أن أزرع بذور المحبّة في كلّ قلب، لأحصد إنساناً حرّاً .

"أنت حرّ ... إذن أنت إنسان".

غالباً ما نبحث عن الحرّيّة بشكل مبهم وغير مفهوم. إذ إنّنا لا ندرك معناها الحقيقيّ، ولا نعي أنّها مولودة في داخلنا وعلينا تنميتها وتوجيهها، كي لا تتحوّل إلى فوضى مدمّرة .

يطالب الإنسان بحرّيّته منذ نعومة أظفاره، فيسعى إليها في مجتمعه الصّغير في العائلة، ثمّ في المجتمع الكبير، وقد يطمح إلى التّحرّر من تقاليد تقيّده، أو معتقدات تعتقل فكره، أو أنظمة تقمع إنسانيّته... وكلّما ازداد مطالبة، كلّما واجه قمعاً، فيتشبّث أكثر بحقّه في الحرّيّة، ويبذل ذاته من أجلها وقد يموت في سبيلها. كلّ العظماء الّذين مرّوا في تاريخ البشريّة، استحقّوا عظمة إنسانيّتهم لأنّهم واجهوا الموت بحرّيّتهم، فجعلوا من هذا الموت فعل حرّيّة بامتياز، وانعتاق من منفى العبوديّة الّذين يعيشون فيه. اختاروا الموت أحراراً بدل أن يحيَوا مذلولين، عبيداً مكبّلين، خاضعين لجلّادين لم يفقهوا معنى الحرّيّة يوماً. وعظماء كثر لم يذكرهم التّاريخ وربّما لن يسمع بهم أحد، ولكنّ عظمتهم تكمن في إنسانيّتهم الّتي تتوق دوماً إلى الحرّيّة، ومثابرتهم على خدمة الإنسان لتثقيفه، وتربيته وتطوير فكره. أوليست الأمّ الّتي تحبّ أبناءها فتربّيهم على الاستقلاليّة والحرّيّة، أمّ عظيمة. أوليس ذلك المعلّم الّذي يزرع في طلّابه بذور الحرّيّة الفكريّة، أشبه برسول محبّة وسلام. وذلك الجنديّ القابع بين متراسه ومقابض عدوّه، ويبذل حياته في سبيل حرّيّة أبناء أرضه. وذلك المدافع عن القيم الإنسانيّة، والّذي يرزح تحت جهل الحكّام والمتسلّطين. والهارب من تنكيل الطّغاة، والمعتقل في زنزاناتهم، أوليس حرّاً وعظيماً بامتياز؟ فمعتقلاتهم ليست سوى نبعاً تتفجّر منها حرّيّته، وأسوارهم العالية مقبرة لعبوديّتهم.

كما جُبل الإنسان بالمحبّة، كذلك بالحرّيّة، ولا يميّزه عن سائر المخلوقات إلّا عقله الحرّ وقلبه النّابض بالمحبّة. والحرّيّة تنبع من أعماق الإنسان، هي انعتاق من الدّاخل، من فكره ومنطقه التّوّاقين إلى التّعبير والنّموّ والتّطوّر. وهو بحاجة إلى من يصغي إليه بغض النّظر عن الاقتناع بفكره أو لا. كما هو يحتاج إلى من يناقش أفكاره ليتمكّن من بلورتها وتصويبها وتجسيدها وتفعيلها ضمن مجتمعه، فيتطوّر ويرتقي إلى خدمة الإنسان.

يولد الإنسان حرّاً، وإن لم نعي ذلك، سنبدأ بقمعه منذ أيّامه الأولى. ودور العائلة الصّغيرة أن تربّي أبناءها على الحرّيّة . وعندما نتحدّث عن التّربية على الحرّيّة، لا نعني بها التّساهل والتّفلّت وعدم الانضباط، وإنّما التّربية على المسؤولية، وكيفيّة اتّخاذ القرار، واحترام الآخر رغم اختلافه، وقبوله كما هو ، دون انتقاده والحكم عليه ونبذه. فكلّ سلوك سليم أو غير سليم، يرسم خطواته الأولى في العائلة. إن تقبّلت شقيقك المختلف عنك بالفكر والقول والسّلوك والتّطلعات، وتعلّمت كيف تناقش فكره وتصغي له، ستقبل اختلاف أخيك في المجتمع وسوف تتعايش معه، وتحترم إنسانيّته وتعترف به فرداً مساوياً لك في الحقوق والواجبات.

نحن لا نقبل الآخر لأنّنا لم نتربّى على ذلك، ونقمع الآخر ونضّطهده لأنّنا قُمعنا واضطُهدنا بشكل أو بآخر، في عائلاتنا. ويكون ذلك عن غير وعي أو إدراك من المسؤولين عن تربيتنا، لأنّ النّوايا عادة تكون حسنة، والهدف هو التّربية الصّالحة بحسب مفهوم كلّ شخص. ولكن ينتج عن هذا اللّاإدراك، إمّا إنساناً ثائراً، ضارباً بعرض الحائط كلّ التّقاليد والأعراف، إمّا جلّاداً يقمع الآخرين بدوره، مستعبدهم ظنّاً منه أنّه يمارس تلك الحرّيّة الّتي حُرم منها.
القمع والاضطهاد لا يحتاجان إلى سلاح دمار شامل ليفتكا بالإنسان. يكفي أن نرفض الإصغاء للآخر واحترام رأيه لنكون قامعين ومضطَّهِدين. إذا رفضنا أن نتنازل عن كبريائنا والانحناء أمام عبقريّة الآخر والاعتراف له بحقّه، نحن نضطهده!

أنت حرّ عندما تقبل اختلاف الآخر، تصغي له، تناقش فكرته دون أن تقتنع بها، وتبحث معه عمّا يجمعكما، لأنّك تؤمن أنّ في الآخر إنسان حرّ مثلك. فقبول الآخر واحترام فكره لا يعني الاقتناع به، وإنّما يعني أن أعترف بوجوده وأبادر للإصغاء إليه إيماناً منّي باختلافه وحقّه في التّعبير عن خبرته الشّخصيّة وعمّا أكسبته هذه الخبرة سواء كانت نظريّة أم عمليّة، من تحليل منطقيّ وإبداع، قد يفتح لي آفاق جديدة تساهم في نموّ فكري الشّخصيّ وتطويره. كما أنّه لا يعني أن أتخلّى عن مبادئي وأذوب في فكر ومبادئ الآخر، وإنّما التّخلّي عن كبريائي وغروري ، وأعترف بمحدوديّتي، وأستقي من الآخر ما يغنيني ويبني إنسانيّتي.

نحن بأمسّ الحاجة اليوم إلى ثقافة قبول الآخر. ونشهد حروباً ضارية بسبب اختلافاتنا الفكريّة والعقائديّة. ولو تأمّلنا جيّداً من حولنا لسوف نرى أنّه لا يمكنا الاستمرار إلّا باختلاف الآخر. فكيف ننمو في هذه الحياة ضمن فكر واحد لا يتغيّر ولا يتبدّل؟ وكيف نقمع عقولنا ونحدّدها في إطارٍ فكريّ واحد. فالإنسان منذ وجد، وإن رفض اختلاف الآخر عنه وانغلق على نفسه، فهو ودون أن يدري انطبع به نتيجة اختلاطه به. وما زلنا حتّى اليوم نحمل بشكل لا إراديّ مبادئ أسلافنا وإن طوّرناها، وقولبناها فهي تبقى امتداداً لهم.

ثقافة قبول الآخر تفترض حرّيّة الفكر، والسّماح لهذا الفكر بالتّعبير عن هواجسه، وتطلّعاته، وعدم نفيه في معتقلات التّعصّب. فالتّعصّب هو اعتقال الفكر في سجون الجهل. وليس التّعصّب انتماء حقيقيّاً لعقيدة أو مبدأ أو قناعة، وإنّما هو التّمسّك بقشور لا تساهم في بناء الإنسان وإنّما في تدميره. ونرى جليّاً من حولنا المستوى الفكريّ المتدنّي الّذي وصلنا إليه من جرّاء انغلاقنا على أنفسنا. نحن نساهم في انقراض حضاراتنا. والتّعصّب مقبرة المحبّة والحرّيّة، لا ينبت إلّا الحقد والخوف من الآخر. وبانتفاء المحبّة والحرّيّة، يخضع الإنسان لعبوديّة ذاته وبالتّالي يفقد حرّيّته. الحرّيّة تبدأ بالفكر وتتسرّب إلى القلب، فينطلق الإنسان نحو الآخر، يعترف به، يقبله كما هو دون أن يقولبه.

أنت حرّ عندما لا يعيق تفكيرك أي قناعة مخالفة لقناعتك، بل تناقشها وتبلورها دون أن تقتنع بها. أنت حرّ عندما تنظر إلى الآخر على أنّه إنسان، محترِماً حقّه في الفكر والتّعبير. ليس لي أن أحكم على أحد إذا ما كان مؤمناً أو لا ، وليس من حقّي أن أزدري بإنسانيّته ، إذا ما أتت مواقفه مخالفة لمواقفي. ومن المخجل أن أنظر إلى أخي"الإنسان" نظرة الأسياد إلى العبيد. كلّنا متساوون بالإنسانيّة، ولا فضل لأحد عليها إلّا بمقدار محبّته لها ، ولا يتميّز إنسان عن آخر إلّا بالمحبّة.

أن تكون حرّاً هو أن تمتلك فكراً واسعاً ، حرّاً لا يعيقه أيّ فكر مخالف. هو أن تقول "لا"، والعالم كلّه يهتف" نعم"، إذا كانت هذه ال"لا"، قناعتك. هو أن تقول "نعم"، إذا كانت هذه ال"نعم" قرارك الحرّ. ليست المسألة أن تكون أنانيّاً وإنّما المسألة أن تكون إنسانيّاً.

أن تكون حرّاً هو أن تسمع الإساءة وتبتسم وتحصرها في عقلك ولا تسمح لها بالتّسرّب إلى مشاعرك. أن تزرع المحبّة في أحشاء الكره، وتنتزع الخير من أعماق الشّر. أن تصغي إلى فكر معارض لفكرك وتواجهه بالفكر لا بالرّصاص.

من يؤمنون بالاختلاف قليلون، ولكنّهم يشبهون شعاع شمعةٍ تتحدّى الظّلام. هم الأقوى لأنّهم وهم سائرون في هذه الحياة، لا يعثرون، يتلقّون الضّربات ولا يتوقّفون عندها، خطواتهم ثابتة لأنّهم يسلكون طريق المحبّة ويسعون إلى الحرّيّة.

إن أردت أن تحقّق إنسانيّتك، لا تتردّد في زرع الإبتسامة حيث الحزن، والإلتزام حيث الفوضى. الإصغاء حيث الضّجيج، والصّمت حيث الثّرثرة. الإهتمام حيث اللّامبالاة والمحبّة حيث البغض والحرّيّة حيث القمع. كن حرّاً طليقاً واحبب قدر ما استطعت، بالمحبّة وحدها تتحرّر، ترى جمال الآخر، تصغي له باهتمام، تسعى إليه وتبحث عمّا يجمعك به.

تلك هي طريق الإنسانيّة الحقّة، ولا تكتمل إلّا بالمحبّة الخالصة والغير مشروطة وبالحرّيّة المسؤولة والواعية. والحرّيّة هي للبنيان وليس للدّمار، للحبّ وليس للبغض، لاكتمال إنسانيّة الإنسان، كي لا يبقى مشروع إنسان. ومتى اكتملت إنسانيّة الإنسان ونظر إلى مرآة ذاته، سيهتف قائلاً:"يكفيني مجداً أنّي إنسان".


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى