السبت ٢٤ آذار (مارس) ٢٠١٢
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

المادة والصورة

الهيولي- أي المادة - والصورة هما أساس فلسفة هذا الفيلسوف الإغريقي "أرسطو" الميتافيزيقية وبهما شرح العالم، وقد رأى أن الهيولي والصورة لا تنفصلان، فلا صورة من غير هيولي ولا هيولي من غير صورة، فكل موجود في الخارج يتكون منهما، وهما ليسا منفصلين إلا في الذهن. ونحن نفكر فيهما منفصلين إلا لنفهمهما فقط. يريد أن الهيولي والصورة اعتباران متباينان في الفكر والماهية المجردة ليس إلا؛ أما في الوجود الحسي فهما متلازمان؛ تمثل الصورة ناحيته الايجابية، وتمثل الهيولي جانبه السلبي، كالاشراق والاظلام في النور الضئيل، فإن الاشراق هو الزيادة في جانب النور، والاظلام هو النقص في الاشراق، وهما واحد في النور.

ويجب الحذر من أن نفهم أن أرسطو يعني بالصورة الشكل وإنما يعني بها جميع صفات الشيء، من لون وخفة وثقل وجمال وقبح ولمعان وانطفاء وما إلى ذلك، ويعني بها كذلك العلاقة بين أجزاء الشيء بعضها ببعض، وعلاقة كل جزء بالكل. أي الصورة والشكل في التعبير العادي واحد؛ لكن الشكل في التعبير الفلسفي صفة واحدة من صفات الصورة.

وهو يرى أن الموجودات في هذا العالم متدرجة في الرقي وأنها واقعة بين نهايتين، هيولي (أي مادة) لا صورة لها، وصورة لا هيولي لها، ووظيفة الفلسفة الطبيعية عنده هي تبيين النشوء والارتقاء الذي سلكه العالم من هيولي إلى صورة.

والنشوء والارتقاء بالمعنى الذي قصده تنضيد منطقي للكائنات، خالٍِ من اعتبار تحول ذوات المراتب الدنيا إلى مراتب أعلى، ذلك أن نسبة الصورة إلى الهيولي في الكائنات نسبة تصاعدية، وهي ذات قدر معين في كل من أنواع الموجودات.

ويقول بأن العالم في سيره من الهيولي إلى الصورة يتحرك نحو غاية، فكل شيء في الوجود له غاية وله وظيفة يؤديها، ولا شيء في الوجود يتحرك إلى لا غاية..

والطبيعة تعمل خير ما يمكن للسير في هذا السبيل. وفي كل شيء دلالة على سير الطبيعة إلى غرض وغاية معقولة.. فحركات العالم ليست حركات ميكانيكية مجردة عن القصد، إنما كل حركاته- حتى الميكانيكية منها – موجهة إلى غاية.

ويجب ان لا نفهم من هذا أن كل موجود إنما يتحرك لخدمة الانسان، فالشمس تتحرك لتضيء له نهاراً والقمر ليلاً، والنبات والحيوان خلقا لطعامه، وهكذا!!

نعم، إن كل الأشياء التي هي أحط من الانسان تتجه نحو الانسان وغايتها هي الانسان بحكم أنه أعلى منها في سلم الرقي، أي أنها تنشد الكمال الإنساني، لكنها لا تبلغه، وأبعد ما يمكن أن تبلغ أن تقاربه، كما يقارب القرد الانسان لكنه لا يتحول إليه. ولكن مع هذا فكل موجود- مهما انحط – له وجود ذاتي، وله ذاتية يسعى إلى تحقيقها، وهي صون شخصه واستمرار نوعه. ومن الخطأ، في رأيه أن نظن أن الكون قد خلق من أجل خدمتنا ومتعتنا، وان كان ما فيه يخدمنا ويفيدنا ويزيد في رفاهيتنا. ويجب الحذر أيضاً أن يفهم من قولنا: إن العالم يسير إلى غاية، أنه شاعر بنفسه عارف بغايته، فالنحل مثلاً يعمل لغاية معقولة ولكنه لا يعقلها، وإنما يعملها بغريزته لا بعقله، والموجود الذي يشعر بغايته في عالم الأرض هو الانسان وحده!! واما ما عداه فسيره إلى الغاية من غير شعور وتفكير!!

ففي عملية النشوء والارتقاء تجذب "الصورة" العالم إلى الرقي دائماً، والهيولي تعوقه وتؤخره، فحركة العالم تتلخص في "جهد الصورة لتشكل الهيولي ومقاومة الهيولي للصورة" ، ولما كان للهيولي قوة المقاومة، لم تنجح الصورة دائماً بل فشلت أحياناً، وهذا هو السبب في أن الصورة لا توجد من غير هيولي، لأنها لا تستطيع ان تتغلب غلبة تامة على مقاومة الهيولي. وهذا هو السبب أيضاً في وجود "فلتات الطبيعة" وغرائب الخلقة!! والمقصود بفلتات الطبيعة المخلوقات الشاذة عن نوعها في بعض مظاهرها، ومن المدهش حقاً أن يكون في نظام هذا الفيلسوف ما يعلل عجائب المخلوقات، لا الموجودات الطبيعية فحسب!!

ففي هذه كلها فشلت الصورة في صوغ الهيولي، أو بعبارة أخرى فشلت الطبيعة في تحقيق غايتها. لهذا يجب على العلم أن يعنى بدراسة الأشياء الطبيعية العادية لا الشاذة، ففي الأشياء الطبيعية العادية يستطيع العلم أن ينظر الغاية التي تسعى إليها الأشياء، وبواسطة هذه الغاية وحدها يمكن فهم العالم..

ويقول: إن العالم سلسلة ترقٍ للمادة، من صورة إلى صورة أرقى منها. فالعالم درجات بعضها فوق بعض، فما كان من الأشياء في منزلة عالية يكون قد غلبت صورته مادته، وما كان منها في درجة سافلة يكون قد غلبت مادته صورته، حتى إذا وصلنا إلى نهاية الحضيض وصلنا إلى مادة لا صورة لها- وإذا وصلنا إلى الذروة العليا وجدنا صورة لا مادة لها- أي أن نسبة المادة إلى الصورة في الموجود هي التي تقرر مرتبته ونوعه، فكلما زادت نسبة الصورة فيه إلى هيولاه ارتفع في مرتبته، وكلما زادت نسبة هيولاه إلى صورته انحط في مرتبته.. فالكائنات العليا نظير الإنسان تغلب فيها الصورة على الهيولي، والكائنات الدنيا نظير النبات تغلب فيها الهيولي على الصورة، والذي يقرر نوع الموجود، وبالتالي مرتبته هو نتيجة التجاذب والمغالبة بين الصورة والهيولي.

والعالم يسير في ارتقاء مستمر..

والحركة والتغير مستمران ينقلان ما فيه من درجة إلى أعلى منها، تجذبه نحوها قوة الغاية !!!
وما أدراك ما الغاية!!؟؟

أما الوجود أو الخلق- كما فسره أرسطو - هو تحول ما هو بالقوة إلى الشيء بالفعل. فكل حركة وكل تغير ليس إلا خطوات التحول من القوة إلى الفعل، وبعبارة أخرى: من المادة إلى الصورة.. وليس هذا التحول من المادة إلى الصورة، أو من القوة إلى الفعل، تحولاً كيفما اتفق- أعني إن المادة أثناء تحولها إلى صورة ليست تُسيّر من الخلف بحركة ميكانيكية بحتة - إنما تُسيرها الغاية وتجذبها إليها كما يجذب المغناطيس الحديد..

وجاذب الغاية هو عامل الوجود والاستمرار..

فالطبيعة مثلاً تسعى إلى غاية حكيمة.. وكل ما يحصل في عالم الطبيعة إنما يحصل من أجل أن يحقق غاية، واجتماع المادة والصورة لتكوين الشيء إنما هو حاصل بجاذب الغاية التي تنشدها الطبيعة.

فما لم تكن الغاية حاضرة فليس هنالك قوة تحول المادة إلى صورة.

والغاية سابقة في الفكر على الوجود، ولكن من حيث الزمن،
فسكنى البيت غاية سبقت في الذهن بناء البيت ولكن في الخارج بناء البيت أولاً ثم السكنى ثانياً..

فالذي حرك العالم إلى الوجود هو الغاية!!

فما هي الغاية؟؟!!

هذه "الغاية" - وإن شئت فقل الذروة العليا للموجودات، وإن شئت فقل الصورة المجردة - هي التي يسميها هذا الفيلسوف "الله" ويقول بأنه هو الموجود حقاً، لأن له أتم صورة، وكلما قارب الشيء من كمال الصورة كان أقرب إلى الحقيقة!!

أي كلما كانت الصورة تمثل الوجود المطلق، والهيولي العدم المطلق، كانت الصورة في الشيء تمثل نصيبه من حقيقة الوجود، فقربه من الحقيقة إنما هو على نسبة استكمال صورته أو نسبة استكماله لمثاله!!

وإذا كان "الله" هو الغائية كان هو غاية الغايات، وهو الذي يسعى إليه ويقصد نحوه كل موجود- أدرك ذلك هذا الموجود أم لم يدرك - والمقصود بقولهم "يقصد نحوه" أي يتجه إليه في التماس كماله وتحقيق ذاته، فيحاول المقاربة منه بقدر ما يتيسر له وبقدر ما تؤهله جدارته!!


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى