السبت ٣١ آذار (مارس) ٢٠١٢
بقلم مصطفى أدمين

الحرق الرحيم

قبل عِشرين سنة تقريبا، أقدمتُ على حرق ثلاث مائة نسخة من كتابي الأول «الأمكنة» وذلك بمساعدة العون البلدي المكلّف بجمع أزبال المدينة، والذي لم يمتثل لما طلبت منه إلا بعد أن سألني:«بالله عليك يا ولدي، لماذا تريد حرق هذه الدفاتر؟» وفي نيّتِه أنّ (الدفاتر) التي لا تجد طريقها إلى القارئ لا بدَّ أن تجد طريقها إلى بائع المكسّرات ليُعبِّئُ فيها سلعته لأطفال المدارس الابتدائية. فقلتُ له:«هذه لا تصلح لذلك... ساعدني على حرقها وسأعطيك نقودا» فتناول عصا بوجهٍ متألّم، وشرع يدفع بكتبي إلى النار.

كان المسكين يقلّبُ النار ويستخرج منها لهباً أقوى فأقوى؛ بل كان يستخرج النار من قلب كتبي لكي تلتهم نفسها بنفسِها.
ـ لو كنتُ مكانك لأعطيتُ هذه الكتب إلى التلاميذ لكي يستفيدوا منها. قال.
ـ فعلتُ ذلك ولكنّ مدير المدرسة أعادها إليّ بدعوى أنّها «جرّيئة أكثر من اللازم وصعبة»

وأنا أكتبُ هذه النُدف النارية، ما زال رمادُ الحريق يتساقط على رأسي.

أفكار كثيرة دارت بخلدي وأحاسيس كثيرة اختلجتْ بدواخلي وأنا أتابع مشهد الإحراق... معنى الكتابة، الهدف منها، قيمتها، ألم، حسرة، يأس... وأسئلة: لمن تكتب أيّها الشقيّ؟ هل آمنتَ حقّاً بأنّ فقيرا مثلك لا قبيلةَ ولا حزب ولا مال له يمكن أن يُعترف به كاتبا فيُقرأ؟ وفي خلال تأملّي لألسنة اللهب وهي تلوي أوراقي وتجمّرها وتُسوّدها وتطرحها رمادا وبياضا؛ بان لي إنّما النار كائن مطهّر ومجدّد... لعلّ النار تجبرني على مراجعة نصوصي... أن أكتبَ أحسن وأقوى وأدْوَم، هذا ما تريده النار منّي.

كنتُ أعتقد بأنّ المغرب سيفرح بميلاد كاتب جديد واعد، وبأنّه سيتبنّاني من جديد، ويجعل لي مقاماً بين الأدباء أساتذتي؛ ولكن «المنافسة» شرسة.
ـ دعْك من هذا! ـ يقول «الأسياد» ـ نحن نفكّر ونكتب مكانك وأمّا أنتَ فما عليك سوى أن تقرأنا. نحن العرض وأنتَ الطلب. نحن الشهرة وأنتَ النكران. نحن الأساتذة دوما وأنتَ التلميذ على الدوام...

بالخذلان شعرتُ وأنا أتابع مشهد الحرق الرحيم لكتبي؛ فحتّى بنو جلدتي من بسطاء الشعب تنكّروا لي. أنا لم أعد أفهم. أين هو مبدأ «الالتزام» الذي تحدّت عنه جان بول سارتر؟ أنا لم أكن أعرف هذا الفيلسوف الأديب اليساري سارتر؛ أساتذتي في الفلسفة والعربية والتاريخ هم من عرّفوني عليه؛ فلماذا لم يقرأوني؟

وكنتُ سمعتُ بياض الحرق الرمادي يقول لي:«بالله عليك؛ احرق حرقتَك في تجد نفسَك وتعي» ولكي أحتفظ لنفسي بذكرى حرق نفسي، أخذتُ ورقة من كتابي من نصّ بعنوان «مكان الحرق» فما كدتُ أنظر إلى جسدها حتى طالتها النار.

وفي طقطقة النار الملتهمة لنصوصي، سمعت العون البلدي يقول:«لثلاثة أشهر ونصف لم يعطوني أجرتي، ولي زوجة وأطفال؛ والناس يتعبونني؛ يلقون الأزبال طوال اليوم وفي الليل... هل لا يعرفون بأنني إنسان؟... ولا أحد منهم يمدُّ لي يدَ العون... وحتى النار فأنا من يوقدها بالبنزين والكبريت...»


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى