الاثنين ٢ نيسان (أبريل) ٢٠١٢

وداعاً أيها الفلاح الفصيح

سهير المصادفة

إذا ما أتيت إلى القاهرة زائراً واتجهت إلى "مربع الرعب" كما نطلّق عليه تندراً منذ بداية تسعينيات القرن الماضى، هذا المربع الذى تتحدد أضلاعه بـ مقهى البستان، وأتيليه القاهرة، وحزب التجمع أيام كان يحتضن المثقفين، والنادى اليونانى أو مطعم الجريون أيهما أقرب إلى ذائقتك، فإنك ــ لا محالة ــ ستلتقى أو ستسمع اسم "عم محمد كامل" ملتصقاً هكذا منطوقاً بأكبر قدرٍ من الحب والحميمية والاحترام والرهبة فى الوقت نفسه، وإذا ما التقيته لأوَّل مرة سيطالعك وجهٌ ممتلئٌ بتجاعيدٍ وكأنها وُجدت هكذا ومنذ الأزل ودونما أدنى علاقة لها بالزمن، ولو توطدت علاقتك به ككاتب ــ ومن المؤكد أن هذا ما سيحدث سواء جرّاء إعجابه بأحد كتبك أو نقده اللاذع لأحدها ــ فستكتشف أن هذه التجاعيد ستنفرج واحدة إثر الأخرى وتُسر لكَ بأسرارها.. بحكاياها .. بتاريخ تكوينها .. بنوادر بالغة العذوبة والطرافة عن مبدعين كبارٍ رحلوا قبل أن تتعرف عليهم، عن رواية ركيكة ينصحك بألا تقرأها ثم يضحك بصوتٍ عالٍ وهو يعيد على مسامعك مداخلته فى ندوةٍ حضرها بالأمس لتدشين هذه الرواية عنوةً، وقد يشيح بيده قائلاً : ( كله كلام فارغ ) أو يعقب بجملته الأثيرة : ( مستعجلين على النشر أوى)، سيخبرك عن مرض أحد المبدعين أو إحدى المبدعات الفجائى وقد لا يتركك إلا فى أحد عنابر المستشفيات وأنت تستعد للمغادرة بعد عيادة المريض ناظراً إليه بكلِّ امتنان وهو يصارع حافلات القاهرة المجنونة ليعبر الشارع، سيأتى لكَ بآخر ما أخرجته مطابع مصر والعالم العربى وأهم ما قرأه طوال الفترة التى غاب عنك فيها، وقد يندهش متعجباً وهو يمد إليك يده بالكتاب كهدية ويسألك بنبرة متهكمة أبوية : لم تره ..هه ؟

سيتصل بكَ فى الصباح الباكر أو فى منتصف الليل، ليأمرك أن تشترى غداً هذه الجريدة أو تلك المجلة لأن بها مقالة عنك أو لك أو حوار معك، وسيحلو فى أذنك سؤاله : (إيه الجمال ده ؟) وقد ينهرك أحياناً بسؤالٍ مفاجئ .. مثلاً : لماذا تفتحين النار فى هذا الوقت على أذنابٍ شرسة، الله يلعن السياسة، أما كان من الأجدر أن تنتهى من كتابة روايتك الثالثة أو حتى تتحفينا بقصيدة ؟

سيحاول مصالحتك على أحد المبدعين أو إحدى المبدعات إذا ما اشتم رائحة خلافٍ فى الأجواء، وسيصفق بيديه صائحاً بصوتٍ تقطر منه الحكمة، ماذا يفعل المرء مع المبدعين بذواتهم المتضخمة هذه ؟ إنهم يتعاملون مع أنفسهم وكأنهم آلهة يجب أن يدور الكون كله حولها ويبدو أن هذاهو قدرهم، ثم قد يهمس فى أذنك : وفى الحقيقة الصحافة (مزوداها معاكى شوية اليومين دول) كل يومٍ خبر عن الرواية الجديدة أو مقالة أو حفل توقيع .

سينتقل من ملتقى ثقافى إلى آخر مبشراً بميلاد كاتبٍ جديدٍ أو معلناً رأيه فى كتابٍ فرغ لتوه من قراءته، أو فاضحاً الممارسات الثقافية التى تعزل مبدعاً جيداً لصالح مبدعٍ متواضع القيمة .
ستتعرف دون أن يدلك أحدُ وعلى الفورعلى"عم محمد كامل" فهو له لونٌ كلون اليمام فقير ولا يحمل فى جيبه الأيمن أكثر من بضعة صور يحرص على التقاطها مع مَنْ يحبهم من المبدعين ويزهو بعلاقته بهم، وفى جيبه الأيسرعددٌ من المقالات التى كُتبت عنه بأقلام أصدقائنا المبدعين كظاهرةٍ متفردةٍ فى الواقع الثقافى المصرى بعد أن نجح النظام السابق العقيم فى تصديع كل الجسور التى قد تربط بين الكاتب وقارئه، وربما بعض"البومبون" فهو على كل حالٍ كلّ ما يستطيع إهداءه للكُتاب فى الندوات .

ستتعرف على "عم محمد كامل" على الفور فهو له صوتٌ كصوت الفلاح المصرى الفصيح.. أجشٌ وعالٍ ومتقطّعٌ من فرط الصدق والإنفعال وحاد النبرات لأنه لم ينكسر تحت وطأة حاجةٍ أو مصلحةٍ أو هدفٍ شخصىٍ سوى إيجاد كتابٍ جيدٍ يقرأه فى آخر المساء.

ستتعرف على "عم محمد كامل" على الفور لأنه ببساطة شديدة يعرفك حقّ المعرفة وسيتوجه إليك مباشرة بسؤالٍ من أسئلته المباغتة مثل : أين كنتَ عندما كتبت هذه القصيدة ؟ أو يهتف لكى يسمعه الآخرون : واللهِ مبدعٌ كبير، ووجهك فى الحقيقة كما تصورته تماماً، ثم يبحث عن أقرب كاميرا ويطلب من صاحبها التقاط صورة لكما معاً .

كان مريضاً للغاية فى آخر معرضٍ للكتاب حضره فى حياته، وكنت قلقة عليه أدير الموائد المستديرة يومياً فألمحه وهو يطير من قاعةٍ إلى أخرى مشاركاً تارةً ومستمعاً تارة ومشاغباً تارة، اتصل بى ذات مساء وأنا منخرطة فى مناقشة أحد المحاور وصاح: سأكون فى أمسية "موسى حوامدة"، كنت أعرف أنه منذ الصباح الباكر فى المعرض ومعنى حضوره للأمسيات الشعرية أيضاً أنه سيرحل بعد أن يغلق معرض الكتاب أبوابه، أصمت فيقرأ صمتى ويهتف بفرحٍ حقيقى: مَنْ يدرى متى سنستمع إلي شاعر كبير مرة ثانية؟

إذا ما أتيت إلى القاهرة زائراً وعُقدت لكَ أكثر من ندوة فى محافلها الأدبية فلا تندهش كثيراً عندما يتحدث روادها عن افتقادهم لـ صوت "عم محمد كامل" أو عن إحساسهم القوى بوجود روحٍ تراقب مَنْ سيقدم مداخلة جادة ومَنْ سينافق الكاتب دون أن يشعر برهبة إلصاق وصفه الشهير به جامعاً إياه مع "كدابين الزفة" .

وإذا ما أتيت إلى القاهرة زائراً ولم تتعرف على "عم محمد كامل" فليس لهذا إلا تفسيراً واحداً .. لقد فعلها الموت واختطفه من كتبه التى أخلص لها وأحبها فأحبته وأحبه حباً جماً كاتبوها .

سهير المصادفة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى