الأحد ٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم حسين الهنداوي

فلاسفة التنوير والإسلام

يجمع مؤرخو الفلسفة الغربية الحديثة على موضعة فترة ما يعرف بـ «فلسفة التنوير» في حدود القرن الثامن عشر، وبشكل أدق في المسافة الزمنية الممتدة ما بين 1670 وقيام الثورة الفرنسية في 1789، التي يصطلحون على اعتبارها «بنت» «فلسفة التنوير».

كما يتفقون على ان فرنسا والمانيا، مع اعطاء الاولى مكانة اكبر نسبياً، هما الوطن المشترك لولادة وازدهار تلك الفلسفة. فبالرغم من ان افكارها او بعضها وجدت اصداء وحضوراً في عموم اوربا تلك، من الجزر البريطانية الى روسيا القيصرية، بدرجات متباينة من الاصالة والقوة، بيد ان فرنسا والمانيا، وبشكل أقل انكلترا، كانت نطاقها الأكثر خصباً وحيوية على صعيد ثراء العطاء النظري كما على صعيد التأثيرات الفعلية.

وتتمثل «فلسفة التنوير» جوهرياً بتيار فكري جديد ومتمرد، تملكته كلياً نزعة عقلية ونقدية كونية انسانية، اخذت لديه مكانة معيار مطلق الصدق ووحيد. الامر الذي قاده الى اعلان تبنّيه الجريء لموضوعة ان الفكر ينبغي ان يكون حراً مهماً كانت النتائج. من هنا ولدت حتمية تصادمه العنيف احياناً مع سلطة الاكليروس في مجال المعرفة والاخلاق، ومع استبداد تحالف النبالة- الاقطاع في مجال السياسة والحقوق. فلقد شُغفت حركة التنوير بمغامرة السعي العقلي لدحض أي عقيدة دوغمائية وأيّ يقين قِيَمي موروث مهما كانت الشرعية او المصداقية التي يستندان اليها والشكل التاريخي الذي يتلبسانه، كما لو ان هذا الإستئصال بدا، في المحصلة الاخيرة، الطريق الوحيد لتحرير الإنسان من الأحكام الجاهزة والقناعات الثابتة والقيم الاعتباطية والعبودية الفكرية والسياسية بشكل عام، و«الطريق الوحيد نحو المجد الحقيقي» كما قال ارنست كاسيرر في كتاب له عن «فلسفة التنوير»

ومع ذلك فان حركة التنوير لم تطمح ابداً ان تكون مجرد حركة هدّامة او متمردة. انما ارادت ايضاً، بل خصوصاً، ان تقيم على انقاض ما تهدمه، صرحاً جديداً من المفاهيم والقيم الواقعية والسامية في آن، معتقدة ان الانسان بانعتاقه من اسر ومحدودية الافكار الجامدة الموروثة، سينطلق نحو امتلاك وعي انساني وكوني حقاً.

بلاشك ان انبثاق «فلسفة التنوير» اقترن تاريخياً وجغرافياً بولادة البرجوازية الليبرالية كقوة اجتماعية جديدة وصاعدة عبرت هذه الفلسفة الى هذا الحد او ذاك عن طموحاتها الذاتية، المحلية والعالمية، التي ما كان لها ان تتحقق دونما تحرير المؤسسات والرؤوس من الاغلال التقليدية التي صمدت لقرون طويلة على شكل يقائن مطلقة، ومقدسة احياناً، الامر الذي فرض تبعاً حصول ذلك الحدث السياسي الكبير المتجسد بالثورة البرجوازية الفرنسية. غير انه من التعسف بالمقابل، تحجيم «فلسفة التنوير» لتصبح مجرد حركة اجتماعية او اقتصادية او محض غطاء ايديولوجي لهذه الحركة او تلك، مهما كانت عظيمة الاهمية من وجهة نظر التاريخ الفعلي. انما لابد كذلك من الاعتراف ببعدها الجوهري الآخر، الابستمولوجي، الذي يقف وراء حصول ذلك الحدث الأعظم اهميةً من الثورة الفرنسية، بما لا يقاس، والمتمثل في احلال قطيعة جذرية داخل الفكر الاوربي بين «القديم» و«الحديث» على صعيد القيم المعرفية” وبين “المقدس” و”المفهوم” على صعيد الفلسفة.

فعبر إحلالها العقل محل الوحي، والاستفهام محل الايمان، والحرية والتسامح محل العبودية والتعصب، مثّلت «فلسفة التنوير» ثورة كبرى ضد مزاعم الحق المقدس، الالهي او الوضعي، في تجاوز سيادة العقل او في تكبيل نزوعه نحو الحرية والكونية والحقيقة. ثورة لولا انتصارها لما امكن لأوربا ان تنتقل من عهد المسلمات الراكدة الى عهدها كـ «عالم حديث».

والحال، ان تطور الموقف الغربي من الثقافات الانسانية الاخرى يندرج في هذا الاطار كلياً برأينا. فبفضل الروحية الجديدة التي اشاعتها «فلسفة التنوير»، وبفضلها اساساً، بدأ المفكر الاوربي “الفرنسي والالماني خاصة”، يشعر بالتحرر من الموروث اللاهوتي- السياسي- المعرفي المتعلق بالحضارات الاخرى لاسيما الشرقية منها. ففي القرن الثامن عشر، «كانت شعوب الشرق هي من يجتذب الاهتمام مطالبة لثقافاتها الدينية بالحق بالمساواة». فطوال عصر التنوير كان الاهتمام بالشرق والسعي للدفاع عن كامل حقوقه في اخذ مكانة مركزية لائقة في التاريخ الكوني، يقترنان دائماً بسجال نقدي عنيف ضد المعتقدات المسيحية وتبعياتها وانعكاساتها على القيم الاخلاقية والمفاهيم السياسية والاداب والفنون والعلوم، الى الحد الذي اعلن فيه مفكرون غربيون عديدون اصرارهم الشديد على ضرورة شطب مصداقية مجمل الأحداث التاريخية المؤسسة على نصوص “الكتاب المقدس”، واستبدالها بأخرى مؤسسة على المدونات المصرية او الحوليات الصينية او كلاهما معاً. كما عمل آخرون على اثبات ايجابيات استقلال الاخلاق عن العقيدة الدينية المسيحية عبر التذكير ببساطة ونقاء الاخلاق الكونفوشيوسية او بطبيعة وبراءة قيم البادية العربية مثلاً.

كما غدت الاستعانة بالشرق والعودة الى عطاءاته الحضارية المختلفة، وسيلة مثلى لدى مفكري التنوير لدحض المفهوم الاكليروسي الذي كان يبدو مطلق الصدق والقائل بأن المسيحية هي الدين الحقيقي الوحيد. وكذلك لتفنيد مزاعم الملكيات الاوربية المطلقة، بوربونية او غيرها، بانها انظمة الحكم الاسمى. لذا لم يعد نادراً نعت هذا الطقس الكاثوليكي او ذاك بالسوء او الافراط في القسوة او الفجاجة، ولم يعد غريباً اجراء المقارنة بين البشاعات والمظالم المنسوبة عادة لـ «المستبد الشرقي» وبين ما يماثلها من بشاعات ومظالم في هذه او تلك من الملكيات المطلقة، لكن المسيحية جداً، في اوربا.

من جهة اخرى كانت فكرة المساواة المطلقة بين البشر من الافكار الاساسية التي قامت عليها وبشرت بها «فلسفة التنوير»، داعمة اياها بمذهب ما سمي بـ«الدين الطبيعي» الذي يرى ان هناك ديناً اصلياً انبثقت منه كافة الديانات المعروفة في تاريخ الانسان بما فيها الديانات الكبرى كاليهودية والمسيحية والاسلام. وعليه فـ«اليهود والمسيحيون والمسلمون والوثنيون.. هم جميعاً ليسوا الا اتباع ديانات تفرعت او انشقت او انحرفت عن ذلك الدين الطبيعي الاول».
هذه هي بكلمة الأسس والظروف التي استندت لها «فلسفة التنوير» في معركتها للإطاحة بواحدة من أهم المسلّمات المقدسة في الفكر المسيحي التقليدي، ونقصد موقفه من الاديان الاخرى. لكن الاسلام خاصة كان وبامتيازٍ الدين الاجنبي الذي تمحورت حوله تلك المعركة اكثر من غيره لسببين رئيسيين هما قوة وسعة الاواصر الروحية والثقافية بين العالمين الغربي المسيحي والشرقي الاسلامي رغم حدة التصادم بينهما من جهة، والحضور الفعلي، المتواصل والحيوي، للإسلام في الحياة الاوربية، الفكرية والسياسية وغيرها، من خلال وجود الامبراطورية العثمانية التي، اذا كانت قد تخلت نهائياً عن غزو المانيا منذ فشل حصارها الاخير لفينّا بقيادة قره مصطفى باشا في 1683، فانها ظلت السيد المطلق في بلاد البلقان والشرق الأوسط، وامتلكت شبكة مهمة من العلاقات الدبلوماسية والتجارية والثقافية مع دول غربية مهمة كفرنسا مثلاً.

بكلمة أخرى لم يكن الاسلام ديناً مجهولاً او غريباً بالنسبة لمفكري التنوير، انما كان، الى جانب اليهودية، معروفاً بشكل جيد نسبياً على صعيدي عقائده الاساسية وتاريخه العام.
بيد ان هناك سبباً اخر لعب دورا مهما في دفع مفكري التنوير الى اختيار الاسلام اداة في صراعهم ضد طبقة الاكليروس، وهو متانة وعراقة التراث الفكري- اللاهوتي الذي دأبت الاخيرة على ترويجه ضد الاسلام. لذا وقبل معرفة حجم وابعاد جهد التنوير لتدمير ذلك التراث لا مناص من تكوين فكرة عامة عن عناصره الجوهرية والمحطات الكبرى في صيرورته، مركزين هنا على مضمونه الفكري وحده.

تهافت المنظور اللاهوتي

 وباختصار شديد، لئن كان المنظور اللاهوتي المسيحي التقليدي حول الديانة اليهودية قد تأسس منذ البدء على عدد من النصوص التي وردت في «العهد الجديد» من «الكتاب المقدس»، فان الامر يختلف كلياً فيما يتعلق بمنظورها حول الاسلام. وذلك بداهة لأن الاخير لم يدخل العالم الا بعد ما ينيف على ستة قرون بعد انتقال المسيح منه، وبعد ثلاثة قرون من انتصار ديانته بشكل ساحق على الوثنية الاغريقية- الرومانية وتتويجها الظافر ديانة رسمية وحيدة للامبراطورية الرومانية. اذن، ليس في النصوص المقدسة للاناجيل انما في كتابات المفكرين واللاهوتين لما بعد القرن السادس، ينبغي البحث عن جنين التصورات المسيحية اللاحقة حول ظاهرة الاسلام كدين جديد. فلقد كان ينبغي مضيّ زمن طويل كي تتبلور اولى ردود الفعل الفكرية في هذا الصدد. وساهم في ذلك التريث، او العجز برأينا عدد من العوامل الموضوعية والتاريخية المهمة التي اقترنت بتلك الآونة من القرن السابع الميلادي.

يتمثل العامل الاول في كون شبه جزيرة العرب، مهبط الديانة الجديدة، لم تكن تتمتع بأهمية استراتيجية تذكر في نظر ساسة الامبراطورية الرومانية، كما لم تكن تمثل اغراء انياً في حسابات زعماء الاكليروس. انما بدت في احسن الاحوال مجرد قطعة صحراء نائية وعرة تفصل بين عالمها وبين عالم عدوها المنافس، والقوي بعد، المتجسد بالامبراطورية الساسانية. صحيح جداً ان الرومان لم يتخلوا نهائياً عن هدفهم الاستراتيجي القديم بوضع المناطق الجنوبية والغربية من جزيرة العرب تحت سيطرتهم المباشرة بهدف ضمان سلامة طرق تجارتهم مع الهند “«طريق الحرير والعطور»“، وتعزيز هيمنتهم على البحر الاحمر وسواحله الافريقية التابعة لهم من مصر الى الحبشة، لكن انشغالهم في الحروب ضد الساسانيين من جهة الشرق وضد القبائل الوثنية الجرمانية من جهة الشمال، ارغمهم على تأجيل ذلك الطموح بانتظار فرصة افضل، مدركين سلفاً ربما الصعوبات والاخطار التي واجهت الاسكندر المقدوني امام القبائل العربية. لذلك لم يجد الرومان في السابق حاجة لارسال اعداد مهمة من قواتهم لترابط في المنطقة مقتصرين على قوات صغيرة لحماية طرق التجارة فيها.

نستنتج اذن، ومثلما هو الحال بالنسبة للامبراطورية الساسانية، تصرفت الامبراطورية الرومانية بلا ادنى اهتمام عسكري ازاء الجزيرة العربية. كما ان الحقيقة الفعلية إذّاك تشير الى ان تلك الصحراء المنكفئة والقاسية حتى على نفسها والمعزولة نسبياً عن العالم الخارجي المحيط بها، كانت مواطن قبائل بدوية كثيرة العدد تمتلك انماطاً بسيطة من الحضارة وعقيدة وثنية شبه بدائية، وتعيش تاريخياً من التدمير الذاتي المتواصل في حروب محلية ونزاعات طاحنة لا تنتهي فيما بينها، وغزوات لا تبقي على شيء ولا تذر، وكل ذلك من اجل مجرد العيش لا اكثر، الى درجة لم تجد معها الامبراطوريتان الرومانية والساسانية حتى ضرورة معرفة ما يجري هناك من تطورات واحداث مقتصرتين في معرفة العرب وجزيرتهم على القليل من النتف الغامضة والمتضاربة التي سجلها المؤرخون القدامى كهيرودوت وسواه.

لهذا ربما لا يوجد، وحتى بعد ظهور الاسلام بسنوات عدة وانتشاره السريع في تلك الانحاء، لا يوجد ما يشير الى تكوّن شعور لديهما بالقلق ازاء العرب. وذلك، على الارجح، لأن لا أحد في الامبراطوريتين كان يتصور امكانية نجاح زعيم محلي ما بتوحيد قبائل على تلك الحالة من التناحر التقليدي، ناهيك عن تحويلها الى قوة ضاربة قد تخرج لتهدد وجود اعظم قوتين عسكريتين في العالم القديم.

العامل الثاني هو ان جزيرة العرب كانت تبدو دائماً على هيئة معضلة عويصة في نظر الكنيسة الرومانية كمؤسسة روحية وكقوة سياسية على حد سواء. بلاشك ان زعماء الاكليروس سعوا مبكراً الى اجتذاب العرب الى دينهم ونجحوا الى درجة كبيرة في بعض المناطق كما يبدو، حيث عرفت الديانة المسيحية انتشاراً واسعاً بين عدد من القبائل العربية الكبيرة ومنذ القرن الثالث الميلادي. غير ان هذا النجاح لم يكن نهائياً. انما وبعد ان كانوا مصدر قوة لها، سرعان ما انقلب العرب ليصبحوا مصدراً للقلق والمشاكل، منذ ان اصبحت المسيحية، الى حد كبير، اطاراً روحياً خاصاً بالعالم الحضاري الروماني- الاغريقي وحده. فتماهي المسيحية مع شمال حوض المتوسط ادى في الواقع، تدريجياً، الى ابتعادها ثقافياً ولاهوتياً ايضاً عن عالمها الاول الشرقي، ثم الى القطيعة والتناقض معه اثر قيامها في 413 باصدار مرسوم يدين كنيسة الشرق المسماة بـ«النسطورية»، متهمة اياها بالانحراف الديني والهرطقة وغيرها من التهم المبشّرة او المرفقة بموجة واسعة من الاضطهاد والتنكيل. ولانهم «نسطوريون» اجمالاً رفض اولئك المسيحيون العرب الالتحاق بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية مما عرضهم الى ذلك العقاب احياناً الامر الذي حوّل القطيعة الى طلاق نهائي.

وتدل الوقائع التاريخية المتوفرة، على ندرتها، ان الديانة اليهودية استطاعت لفترة من الزمن ان تستفيد بشكل ملموس من ذلك الفراغ الديني الحاصل. يؤكد ذلك توسع انتشارها الى درجة التمكن من تأسيس عدة ممالك يهودية في جنوب الجزيرة العربية وفي اليمن خاصة. لكن لوهلة قصيرة جداً من الزمن. اذ ان تلك الممالك ما لبثت ان اضمحلت منذ 510 بفعل عزلتها الجغرافية ومحدودية انفتاحها على غير اليهود، قبل ان تزول من الوجود نهائياً في 525 اثر اندحارها امام حملة عسكرية كبيرة ارسلها ملوك الحبشة المسيحية التابعة لامبراطورية الرومان.

لكن تلك القوة المسيحية المنتصرة سرعان ما اندحرت هي كذلك امام مقاومة القبائل العربية في تلك اللحظة نفسها التي اعتقدت فيها الكنيسة ان الفرصة مؤاتية لاعادة نشر ديانتها على كل الجزيرة وسكانها.

بعد كل هذه الاخفاقات، نستطيع ربما ان نفهم اكثر السبب في ان جزيرة العرب لم تعد تشكل اغزاء يستحق العناء في نظر الكنيسة. يضاف الى هذا واقع ان الامبراطورية الرومانية، والبابوية تالياً، كانتا في غمرة نشوة سلسلة انتصاراتهما الكبيرة على الدولة الساسانية التي حققتها جوستنيان. والتي سمحت لهما بانتزاع مناطق واسعة وغنية بالثروات، الغت بداهة الاهمية الاستراتيجية الضئيلة التي كانت تمتلكها جزية العرب، لاسيما بعد نجاح الرومان في كسب ولاء ملوك الهند واخضاع معظم الدويلات الجرمانية في الشمال وتحويل البحر الابيض المتوسط الى بحيرة مسيحية رومانية لا يهددها شيء بينما يتمركز فيها كل ما هو حيّ ومشتهى في العالم القديم.

بعد كل ما تقدم، نستطيع ان نفهم الان لماذا شعرت الكنيسة الرومانية بالدهشة امام سرعة وضخامة الفتوحات الاسلامية وبالعجز التام عن الصمود بوجهها في الشرق. ويعبر جلياً عن حقيقة تلك الدهشة ذهاب المفكر المسيحي والغربي عموماً الى نعت سرعة تلك الفتوحات بـ«المعجزة». اذ لا شيء كان يعلن آنذاك ان بناء عدة قرون من الحضارة المسيحية المتوسطية هو الان في طريقه الى الدمار او الانهيار المفاجئ على يد قوة تخرج من صحارى جزيرة العرب، بل لا احد يتخيل ذلك قطعاً. كما لا شيء كان ينذر بان القوة الرومانية العظيمة ستتعرض للهزيمة بل الكارثة في تلك اللحظة تحديداً من مجدها العسكري الزاهي حيث كانت اساطيلها تمخر عباب المتوسط من بحر ايجة الى مصر وشمال افريقيا ومن سوريا الى ايطاليا وفرنسا واسبانيا فارضة سيادتها المطلقة على كل حركة فيها. كما كان الرومان وحدهم من كانت الكنيسة الرومانية تعترف به ملكاً على الدنيا.

صفوة القول اذن، ان انطلاق الاسلام هو العامل الحاسم في تقهقر الكنيسة وتدمير عالمها المزدهر السابق. بل وهو العامل الجوهري الذي زجها في متاهات القرون الوسطة المعتمة. وهذا على أية حال ما يراه عدد من كبار المفكرين الغربين انفسهم مهنري بيرين الذي لخص رأيه في هذا الصدد بجملة: «لولا محمد لما ولد شارلمان»

بكلمة اخرى، ان الاسلام بقضائه على الامبراطورية الرومانية المسيحية، المتوسطية كلياً قبلئذ، احدث جملة من التغيرات العميقة في خارطة ما يعرف بـ«العالم القديم»، اهمها اثنان رئيسيان. يتمثل الاول في احداث قطيعة حاسمة وشاملة بين الشرق والغرب، انهت وجود ذلك العالم القديم المتوحد حول الابيض المتوسط، بانشطاره فعلياً الى عالمين اثنين، مسيحي واسلامي، يفصل بينهما الابيض المتوسط نفسه فصلاً حاداً، عالمان متضادان في كل شيء ومتصارعان في كل مجال.

وفي الواقع، ومهما صدقت المبالغة بحجم الانتصارات التي حققها شارلمان ضد المسلمين، ان تلك الانتصارات ظلت مقتصرة على البر الاوربي وحده، وعلى جزء منه فقط اذا توخينا الدقة، نظراً لأنها لم تمتد ادنى امتداد الى المناطق الاخرى، من العالم المسيحي، التي فتحها العرب المسلمون. انما على العكس شهدت هذه المناطق، لاسيما جنوب وشرق المتوسط، نجاح المسلمين في تتبيت وتجذير وجودهم فيها لا العسكري والسياسي حسب بل الديني واللغوي والثقافي ايضاً، ما أدى الى انبثاق عالم حضاري جديد لا علاقة استمرارية له مع الحضارة المتوسطية السابقة على الرغم من انتهاله او استلهامه كثيراً من معطياتها في شتى الميادين وبحرية كاملة.

اما التغيير الرئيسي الآخر، فيتجسد في توفير الضرورة الموضوعية التي دفعت الكنيسة الرومانية الى اللجوء ثم التطابق التام مع القبائل الجرمانية، الوثنية سابقاً، متماهية معها في عالم مسيحي جديد هو الاخر، عالم غربي محض، دخل من جانبه في مرحلة تطور حضاري مغاير تماماً لذلك التطور الذي كانت الحضارة المسيحية السابقة قد عرفته لحد ذلك الوقت، يبدأ مع مطلع القرون الوسطى وينتهي بنهايتها، أي بانبثاق اوربا الحديثة العلمانية والمتوسطية جوهرياً.

مفهوم جديد للظاهرة الدينية

لقد كان العرض الذي تقدم ضرورياً جداً برأينا، في التمهيد لفهم ماهية الدور الاستثنائي الذي لعبه فلاسفة التنوير في اغناء المنظور الغربي حول الاسلام وظواهره المختلفة. فهذه الحركة التي استحوذ عليها هاجس تصفية الحساب بالكامل مع مفاهيم القرون الوسطية، كان لا مفر امامها من الاصطدام بالتركة الفكرية الثقيلة المتجسدة في التصورات المسيحية حول الاسلام والتي امتلكت، لوحدها ربما، تاريخياً معقداً من التطور يوازي الى حد مثير تاريخ الحضارة المسيحية الوسيطة ذاتها منذ مطلعه حتى لحظته الختامية. فعلى الرغم من ان الامبراطورية العربية الاسلامية الكلاسيكية كانت قد انهارت منذ زمن طويل قبل العصر الحديث، ظل الفكر المسيحي الوسيط يواظب بحيوية مدهشة على تفعيل تصوراته التقليدية عن الاسلام مأخوذاً هذه المرة كـ«اتراك» وكامبراطورية عثمانية دون اعتبار بالمقابل لحقيقة ان تلك الامبراطورية نقلت هوية الثقافة والسياسية فيها من عربية الى تركية وقلبت المعطيات الحضارية رأساً على عقب بيد ان ذلك المنظور التقليدي لم يمكث على ما كان عليه في المرحلة الاولى من تطوره. انما عرف جملة من التحولات العميقة مبلورة في خضم سيرورتها مادة هائلة، كمّاً ونوعاً، من العناصر الجديدة اللاهوتية والفكرية وحتى السايكولوجية لم تترك مجالاً يفلت منها رغم انها، وتماماً ككرة الثلج، لم تفارق جوهرها الفعلي الاول ابداً حتى مجيء عصر التنوير.

من ناحية اخرى وكما هو الحال في مجال كهذا، تبدو هذه المادة الهائلة اشبه بخزين من الحجج والمواقف، الدينية والعقلية وحتى اللاعقلية، جاهز للتوظيف على الفور ليس ضد الاسلام وحده، كما كان الامر حتى نهاية الحملات الصليبية، بل وضد غيره ايضاً من الاديان الاجنبية او من التيارات والفرق والنخب «المنحرفة» او «المتمردة» او «المخالفة» لكن المسيحية دائماً. فأثناء الحروب الدينية الاوربية، كانت الكاثوليكية والبروتستانتية تتراشقان الادانة فيما بينهما وكل يستخدم ذات الحجج التي كان الفكر المسيحي قد بلورها حيال الاسلام فيما مضى.والاكثر من ذلك هتاك، بين زعماء واساقفة الاكليروس الكاثوليكي، من ذهب الى حد اتهام البروتستانتية المسيحية بانها مجرد... فرقة اسلامية. ولعل النموذج الصارخ في هذا المجال قيام البندكتي الانجليزي وليم رينولدز، استاذ اللاهوت في جامعة رانس، بتأليف كتاب في العام 1600 تألف من 1106 صفحات لاثبات انتساب البروتستانتية الى “الديانة المحمدية”!

ولعل التوظيف الاخير لتلك المادة كان سبباً مباشراً في اندفاع عدد من فلاسفة التنوير في نقد ورفض تلك التركة الفكرية الضخمة التي وجدوا انفسهم يصطدمون بها في خضم صراعهم مع الاكليروس لاسيما وانها تتضارب مع معرفتهم المتنامية حول الاسلام. وانها لحقيقة معروفة ان معظم كبار مفكري التنوير ولدوا ونشأوا في عالم الثقافة البروتستانتية وتشبعوا بالكثير من المفاهيم الاخلاقية والسياسية والدينية التي نادت بها الى درجة تسمح لنا بالقول انه لولا ظهور البروتستانتية لما ظهرت «فلسفة التنوير» على الرغم من تضادهما العنيف في بعض المجالات وعلى الرغم من النقد الجذري الذي وجهته حركة التنوير ضد الدين المسيحي عموماً في مجرى حملات ممثليها على الارث الفكري والسياسي الوسيط.

ومهما يكن الامر، لقد احدثت حركة التنوير ومثلت انقلاباً كبيراً على عالم من الافكار حول الاسلام كان صلباً ومهماً في كل الغرب قبلئذ. وعالم الافكار هذا تأسس بدءا على شعور الكنيسة الرومانية بفاجعة فقدان عالمها المتوسطي واضطرارها الى اللجوء الى «زاوية من الارض» كما يقول الفيلسوف الالماني هيغل، مقطوعة بغتة وقسرا عن تاريخها وعن اصولها واماكنها المقدسة في فلسطين. ومذهولة بصدمتها الرهيبة تلك، لم تكن النخبة المثقفة المسيحية، اللاهوتية حصراً آنذاك، ان تمتلك القدرة ولا الوعي ولا المزاج ولا الجرأة ربما، التي تسمح لنا بتأمل هادي وعميق للأزمة التي حلت بالعالم المسيحي بسبب ظهور الاسلام، تستطيع من خلاله العثور على تفسير يأخذ بنظر الاعتبار الظروف التاريخية الخاصة بها والاسباب الموضوعية في حصولها. ومن هنا يتأتى اقتصارها على اطلاق سيل من الادانات ضد الاسلام خلاصتها اعتبار هذا الدين بدعة خبيثة، وهرطقة من صنع الشيطان اوحى بها لعربي من قريش هدفها القضاء على المسيحية باعتبارها الدين الالهي الحق. وقد عبر هذا التصور عن نفسه باطلاق مفهوم «المسيح المضاد Anthicrist المطور سلفاً في اللاهوت المسيحي ضد العتاة من اعدائه. ففي المرحلة الاولى كانت الادانة والرفض هو موقف اللاهوتين المسيحين الجوهري من الاسلام الذي صار بنظرهم رمزاً على القضايا الكاذبة ورديفا للزيف الى درجة انهم كانوا اذا ارادوا بطلان رأي ما، يقولون «هذا رأي محمدي»!.

اما تفسير كيف تسمح الارادة الالهية بحلول هذا «الدين» «الشيطاني» في العالم الدنيوي، فسيأتي لاحقاً حيث سيعتبر الاسم بمثابة غضب الهي على المسيحيين عقاباً على ابتعادهم عن الكنيسة. فهذا التصور نجده قد استخدم بشكل واسع في الجدل الحاد والادانات المتبادلة بين الكنيسة البيزنطية والكنيسة الكاثوليكية، بعد اعتراف هذه الزعامة السياسية المطلقة لشارلمان على المسيحيين، وكل منهما تجعل الاخرى سبباً للغضب الالهي المشار اليه. كما استخدمه لوثر مراراً ضد البابا حيث يرى ان ظهور الاسلام هو «عقاب من الله ضد اخطاء الكنيسة».

بالطبع، كما يرى المؤرخ اللبناني يواكيم مبارك، في تاريخ العلاقات المسيحية- الاسلامية، «ليس هناك حكم لاهوتي حول الاسلام لا يكون هو ايضاً، هو خصوصاً، متأثراً بأحوال تاريخية محددة». بيد ان هذا الاستنتاج يصدق على تطور المفهوم المسيحي حول الاسلام ككل بالقدر الذي ظل مؤسساً على ايمان لاهوتي مسبق تعبر عنه مقولة منسوبة الى المسيح نفسه تنص على «ان جميع الانبياء كانوا انبياء حتى مجيئي. الا انه لا نبي من بعدي أبداً»“1”.

هذا اليقين اللاهوتي المسيحي قاد اسقفا سوريا هو يوحنا الدمشقي “655-749” ليكون اول مفكر مسيحي رأى في الاسلام نوعاً من «الهرطقة» ضد الكنيسة، اذ اثبت فعلاً ان مؤلفه الموسوم بـ «الهرطقة Haeresibus» الذي كرسه للاسلام موثوق النسب له. وعلى أية حال، فان هذه الذريعة التبسطية ظلت سائدة حتى منتصف القرن الثاني عشر كمحور وحيد للمنظور المسيحي حول الاسلام. فعلى الرغم من ان هذا المنظور سجل تطوراً ملموساً في الاطاحة بالمعتقدات اللاهوتية الاسلامية الرئيسية والاعتراف ضمناً بأهمية واصالة المعطيات الفلسفية والفنية والعلمية والحضارية الاخرى كعناصر اساسية في تاريخ العقل الانساني، الا ان الصورة الشعبية واللاهوتية لنبي الاسلام ظلت صورة «ساحر» و«نبي زائف»


مشاركة منتدى

  • لماذا يدعم الحاكم الوارث السياسي حركة التنوير و الحكامة الديمقراطية ،ان كانت حثما ستحرمه من الجلوس فوق عرش سيادة القانون،و يجعله مثله مثل جميع المواطنين و تحرمه من اموال البلاط الملكي ؟ لماذا تدعم النخبة العربية حركة التنوير و الحكامة الديمقراطية،امن كانت حثما ستحرمها من كعكة المنافع الريعية و استدامة المناصب الادارية العليا و اموال الصناديق السوداء و الاراضي المخزنية ،و يجعلها مثلها مثل النخبة الغربية ؟ لماذا تدعم البورجوازية المتعفنة حركة التنوير و الحكامة الديمقراطية ،ان كانت حثما ستحرمها من شراء ضمائر و ذمم الموظفين الحكوميين؟

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى