الاثنين ٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
من مخزون الأدب،

ومضات شعرية مضيئة في نظر معاصر

وجيه عيسى

بحمده تعالى، فقد لقيت لغة الضاد من يحميها ويذود عنها، في عصر مليء بالأحداث المشبوهة، واللكنات الغريبة والدخيلة، على طيب ألفاظها وعباراتها، وجمال نثرها وعراقة شعرها، بجميع ألوانه وأنواعه وأشكاله ومضامينه. وقد تمثل هذا الدفاع الملتزم، بشخصية ديناميكية فعالة وناشطة، وعلى مستوى من الإدراك والإحساس والعقلانية، وحسن التقدير والفهم والحراك الأدبي؛ لبقاء القيم والأخلاق والفخر والعزة والكرامة، للغة العربية وأمجادها بحروفها وكلماتها وعباراتها وصرفها ونحوها، نثرًا وشعرًا، بلاغة ومجازًا، خطابًا ونقدًا، وحفظًا لماضٍ تليد، يرفع الهامات ويُفْعمُ القلوب في الصدور، نشوة وفرحًا وسرورا...،ألا وهو الشاعر الكبير، أبو السيّد# البروفيسور فاروق مواسي، حفظه الله وأبقاه ذخرًا للعرب والعروبة، وبخاصة أمينًا على طهر لغة الضاد ونقائها وصفوها، من كل شائبةٍ وإشكال، وقد مدحه الشاعر حنا أبو حنا ارتجالاً إذ قال#:

إِلى فاروق صُوَّبت العيونُ
غداةَ تَلَبّد الجو الحزين
فمن للضّاد يدفع عن حِماها
سوى الفاروق زانته الفنون

صدق الشاعر أبو حنّا بقوله وهو الشاهد على العصر، لأن قدرات مضيئة وثمينة يتحلى بها الشاعر فاروق بصيرورته الأَدبية قد تَفوقُ كثيرًا من الشعراء الزملاء المعاصرين له، إذ كتب عنه صديقه د. محمود عباسي محرر الشرق:

"هو السادن في محراب الكلمة، ورمز المثابرة والتجديد والعصامية، وفاروق مسيرة إبداع."# وأرى أن القول سليم صادق، وقد أعطي القوس باريها، ولا جرم أن الإشعاع الثقافي والتربوي والأدبي الذي يتميز به أبو السيّد يبسط نوره وألمعيته في وسطنا المحلي- في كل مكتبة وزاوية، في كل مدرسة وجامعة، في كل صحيفة ومجلة، في كل مؤتمر وندوة، في كل إصدار ومقدمات لدواوين شعرية، وباختصار فهو كبير وغزير، بمستوى الكلمة وحروفها ولفظها ومعناها. وهو "فهدٌ" من صغره، لسرعة اجتهاده، وإقباله، واستمر وما زال مستمرًا في فَهدِيّتهِ، سريع الإنتاج والابتكار في كل المجالات، يسابق التكنولوجية الحديثة في صناعتها. وليس غريبًا هذا اللقب في مجتمعنا العربي، حيث يتباهى الأهل والعامة منا ، بنطقه للصغار ممن يعجبون بهم من الأبناء، بقولهم " فهد يا فلان!". وكثيرًا ما تزّيا به فاروق في صغره حتى أصبح معروفًا به بين زملائه وأترابه الطلبة، وما زال موصوفًا بذلك حتى اليوم، يُدرِك الزمن وتكنولوجيته المتسارعة بتأليف الكتب الأدبية ومسيرة الإبداع على أحسن وأكمل وجه!! فهو وبحق "سيد الفهود" إنتاجًا وإبداعًا وحراكًا!..

ولد الشاعر فاروق إبراهيم مواسي في بلدة باقة الغربية عام 1941م، في فلسطين، وتعلم في مدرستها الابتدائية وأكمل تعليمه الثانوي في بلدة الطيبّة، وحصل على شهادة بجروت كاملة الأوصاف. ثم تعين معلمًا في سلك التعليم الحكومي أولاً في مدرسة عسفيا الابتدائية للبنات في شباط 1961#، ونقل في السنة التالية إلى مدرسة صغيرة جدًا وبعيدة عن خط المواصلات العامّة، هي مدرسة خور صقر- وادي القصب ثاني اثنين، وعلّم وربى الصف الأول والبستان كصفٍ مدمج واحد، وأتقن ذلك بجدارة المعلم الملتزم لتثقيف أبناء شعبه، وقد نقل بعد مرور ثلاث سنوات إلى بلدته باقة مسقط رأسه، ليبدأ فصلاً حديثًا من حياته التعليمية بين أهله وذويه، وإخوته وأقاربه، إلّا أنه ظل يتطلع إلى التعليم الجامعي، فقد بدأ سنة 1970 في جامعة بار إيلان حيث تعلم اللغة العربية والتربية. وفي سنة 1973 واصل دراسته للماجستير، وتم له الحصول عليها في سنة 1976 ، والرسالة كانت " لغة الشعر عند بدر شاكر السّياب".

ثم ما لبث أن التحق بجامعة تل أبيب، وقدم أطروحة الدكتوراه بعنوان:" أشعار الديوانيين- العقاد والمازني وشكري" وفي أثناء ذلك حصل على شهادة التدريس للغة العربية.
من هنا وقبل ذلك أخذ يقرض الشعر على نوعيه، التقليدي المقفى الموزون والشعر الحر، وبدأ أولاً بإنتاج ثلاثة دواوين، باكورة إنتاجه: في انتظار القطار، وغداة العناق، و يا وطني، وتبعتها مواد أدبية في الدراسات والنقد، والقصة القصيرة، وفي النقد الاجتماعي، وأَلّف كتبًا في الصرف والنحو بأسلوب جديد لطلاب المدارس، وكتبًا في التعبير وملاحظات نقدية حتى نيفت على الستين إصدارًا.

كتب مواسي مقدمات لمجموعات شعرية أصدرها الشعراء الواعدون، مدللاً بذلك على رعايته للأقلام الشابة.

ثم ما لبث أن صدر كتاب عن شعر فاروق مواسي، وكتب أخرى ضمت دراسات عن أدب فاروق، ومقالات بارزة حول نشاطه الأدبي ترجمت للعبرية والإنجليزية والألمانية، وهو بدوره ترجم من العبرية للعربية. بالإضافة إلى مقالات ومقابلات ولقاءات تناولت أدب فاروق مواسي، ومشاركات في مؤتمرات نقدية وأبحاث جديّة التعبير في الداخل والخارج. وقد عقدت مؤتمرات خصيصًا لبحث الأدب الفلسطيني عامة، ومنه أدب فاروق مواسي في ألمانيا وغيرها من دول العالم. وهذا الزخم من المؤلفات يعطينا صورة واضحة عن أهمية شاعرنا، حضورًا ومركزًا، وهبَّة فكرية في مجتمعه العربي، وفي المجتمعات الأخرى، التي وبحكم المخزون أَطَلّ عليها من الأبواب الواسعة، يحمل بين ذراعيه، إِصداراتٍ ترفع الهامة بامتياز، وقد شبّههُ أَحد أصدقائه# بالأديب كشاجم#، وهي كلمة مركبة من الكاف من كاتب، والشين من شاعر، والألف من أديب، والجيم من جواد، والميم من منجم. ولكنّ أبا السيّد قد فاق كشاجم بعدد من المهارات والفعاليات والنشاطات، فهو الشاعر والناثر وكاتب القصة والرواية، والمعلم والمربي من صف البستان حتى دور المعلمين والجامعات، وحصل على شهادات مرموقة من البجروت حتى البروفيسور، ناهيك عن مخزونه الأدبي الراقي، الذي يُعتز به، وبمجهوده الفذّ؛ يقدمه باعتزاز هدية متواضعة، لأمته العربية وبني قومه من المحيط للخليج، ولا بدع في ذلك وهو الذي ثقف التراث، حيث يعترف بصدق أن المتنبي أستاذه الأول، فهو ملهمهُ ومصاحبه#، وأن له جنيّة شعر وليس شيطانًا، تناغيه ويناغيها حتى تولد القصيدة!! وأنه يكتب حتى لا يموت!!#
والآن أعود إلى مخزونه الوافر والدسم، الوطني والمقاوم، تفسيرًا وتحليلاً ونقدا... وأبدأ بديوانه الأول، في انتظار القطار، حيث سُرّ وفرح، حين طبعه ورأى فيه المدماك الأول في الهرم الأدبي العملاق الذي توقعه وتأمله وحلم به، في مسيرة الإبداع وهي منوطة بانتظار القطار، الذي يرتبط وأدبه الخلاق، ارتباطًا وثيقًا ومحكمًا مع الآمال والآلام والمآسي التي حلت بأبناء وطنه فلسطين من تشريد وقتل وتهجير وشتات، وفجأة وصل القطار بعد طول الانتظار، بسرعة متناهية، حتى بدأ يجمع وينشئ ويدون في محطاته الكثيرة، من أزهار الأدب تارةً، ومن الأحزان والظلم تارةً أخرى مشفوعة بتوقيع شاعرنا فاروق على بلاغتها وزخمها الأدبي، وبصماته مدموغة على طهر عباراتها. وإليكم عينة من شعر هذا الديوان تحت عنوان" حوارية العيد"
يقول الشاعر: #

كزهرة حمراء ظلي،
ونشوة تعب من شقاء،
وأنتم البلاء...
- شتاؤنا بشر،
وقلبنا حجر،
(تموت رؤانا،
بغير أثر...)
- حياتكم عسيرة،
جراحكم منيرة
ويعرف القدر،
- صغارنا بلا دمى،
يداعبهم وهم،
يلهون بالطيوف،
شبابكم مُجَرَّحو الخطا،
وأم هنا
تطل لتزرع الأسى.
لتحصد الأسى،
لترشف العذاب،
من ابنها الذي يموت،
يموت كل يوم؛
متاهة السكون
تَنِزُّ نبضًا في خفوت،
ألم...ألم...ألم...أَلم

لاحظنا هنا أن الشاعر قد عمد إلى الشعر الحر، مع أنه لم يعزف عن الشعر التقليدي الموزون، ومزج كثيرًا من الألفاظ والعبارات والمعاني، امتثالاً بالشاعر بدر شاكر السياب صاحب هذا النهج بعد أن كتب عنه بحثًا أكاديميًا لنيله شهادة MA، والشعر في هذا اللون فيه من الغموض الكثير، وتحتاج الدراسة إلى فهمه، قراءته أكثر من مرة !... عفوًا أبا السيد وطاب مخزونك!!!
من "الدفتر القديم"، نجد الشعر المقفى الموزون، حيث نشر مواسي عددًا من القصائد في ديوانه في انتظار القطار، وسأسوق مثلاً من " ثورة على الألم":#

جنّ النهار فلا نسم ولا زهر
قسا المساء فلا حب ولا سمر
أحس بالوحشة الخرساء تلسعني
ففي حشاي سياط النار تستعر
كأنني عابر في جوف مقبرة
ومارج الهم يغشاني فانصهر
يا أيها الألم الجبار مت فأنا
أَسىً بذاتي ووصب كاد ينفجر

وما أحلاه – في رأيي- هذا الشعر المقفى الموزون، وما أحسن مركباته اللفظية، وما أجمل معانيه وعباراته، وأنصح فاروق أن يسترسل في تشنيف الآذان دائمًا حسب مدرسة الفراهيدي، إذ تظهر البلاغة الشعرية لديه بأسمى تجلياتها، والعود أحمد!!...

وديوانه الثاني غداةً العناق، فيه من القصائد: وجدانية، وطنية، ترميزية، على نمط الشعر الحر وكأن القطار السريع، هزّ مشاعر فاروق حتى العمق، وغاص في انتظار أَقسى وأَمرّ،غداةً العناق حتى كتب أحاسيسه بهذه الصورة المعبرة؛ وتبدو أحيانًا طلاسم لا يفسرها سوى محلل نفساني عتيق

تــ
مــ
نــ
قــ
تــ
وضاعت رياح تنوح
تبعثرني؛ وتقوم أنثى
تُلملمني – غداةً العناق
بسرعة شوق
تموج الحقول...#

هنا يعطينا الشاعر درسًا في الترميز، وما أدراك ما الترميز، حيث يعود بنا إلى قصة أوزيروس وإيزيس!!

في ديوانه يا وطني.. يرسم الدكتور فاروق خارطة واضحة عن حبه الجارف لوطنه ككل، وإلى عشقه القومي، إلى مدن وقرى وسهول وجبال هذا الوطن، فالديوان مليء بقصائد وطنية عامة، إذ حمّل نفسه هموم وآلام شعبه، وترجم ذلك شعرًا تقليديًا وإحساسات تثير العواطف وتهيجها. وقد صَدّر الديوان بقصيدة يوم الأرض# إذ يقول:

يا شعبنا العملاق إنك ملهمي
أنت الكريم وما سواك معلمي
قدمت كل ضحية قدسيّة
لتضم نجمًا في مجرّة أَنجم
في كل شبر من ثراك لساعدٌ
سكب الدماء زكية لم ترهم

وللشعر بقية... فثورية الألفاظ، وقدسية المعاني وحبه لشعبه العملاق، خرجت صادقة من بركان أفكاره، فمرحى له!!

ويعتني فاروق بهموم ومآسي شعبه، مجموعات وفرادى، وشاهد على ذلك ما قاله عن المقاوم الشهيد محمود كبها، صاحب الاسم الحركي أبو جندل، من بلدة يعبد، وقائد مخيم جنين، حين اجتياحه من قبل القوات المسلحة الإسرائيلية وتدميره واستشهاده#:

قل لي!
ما معنى أن يأتي عصفورٌ
ويخط على راحة يدك اليمنى
يمسح منقاره
في راحة يدك اليسرى
في أَثناء دعاء
ويموت
من قبل استدعائك
بدقائق؟!
قل لي:
ما سرّ الرائحة النّافذةِ
الفاحَتْ
من مَهْجَعك العابق ؟!
(أتراني ألجأ لأساطير وحكايات، أعجنها بحقائق) وأنا أسأل
بادئ بَدءٍ،
من سمّاك "
أبا جندل" ؟!!..

وصدع شاعرنا للحدث المريب، وما زال قلبه يعتصر ألمًا وحسرة، ويعبق علينا مواسي أَساطير ما فعل أبو جندل محمود كبها، في عبارات من لغة الضاد، لعل وعسى أن تكون سيرة حياة للشهيد، تمثل شراسته في القتال، وحنكته في إدارة المعركة في مخيم جنين، بطاقات أسطورية يخلدها التاريخ!!..

لا يزال "سيد الفهود"، شاعرًا مقاومًا ومحبًا سرمديًا لشعبه الفلسطيني، ومعاصرًا لقضاياه ومطالبه العادلة، ومعطاءً في مواقفه التربوية والتعليمية في الجامعات، وعضوًا فعالاً ناشطًا في جَمٍّ من اللجان الهادفة لصالح تطوير مجتمعه الفلسطيني وتقدمه وتطوره!...

له ماضٍ عريق في الحصول على الجوائز، أذكر منها الجائزة الأولى في مسابقة لها شأن كبير في المجتمع هي مسابقة حفظ القران، ومسابقة حفظ أشعار المتنبي، والتفرغ للإبداع من وزارة المعارف، والمسابقة الأدبية على أسم توفيق زياد، وغيرها كثير

قال فيه كثير من الأدباء العرب المحليين دُررًا من الأوصاف ذات الطابع الفني الخاص، وسأذكر بعضهم للتعليق وللتوضيح معتمدًا على العدد الخاص الذي أصدرته الشرق عن الشاعر#:
قال سميح القاسم: "سيأتي يوم يقول فيه النقاد إن مواسي أسهم إسهاما فعالاً وناجحًا وعميقًا ورائدًا في حركتنا الأدبية".

وقال سعود الأسدي: "والجملة لديه فيها رنين، والكلمات فيها توافق ورونق وتساوق وتناسق!." وقال بروفيسور دافيد صبيح: "إن الدكتور فاروق رجل جاد وأصيل ودمث، وترفده تجربة ثرية في نطاق التدريس".

وقال الشاعر أحمد طاهر يونس: "د.فاروق شخصية فذة، جعلت وقتها الثمين في خدمة أبناء أمتها ومحبة أمجادهم".

وقال مفيد صيداوي: "أتمنى له كما تمنى هو لنفسه، أن يستمر في الكتابة حتى تطيب الكلمة ويرقى الفكر".

وقال بروفيسور لطفي منصور: "الدكتور الشاعر فاروق مواسي الرائد الموسوعي، الذي لا يجهله إلاّ شخص لا يمت للعلم والثقافة بشيء".

وأنا أقول: بارك الله فيك يا بروفيسور، أيها الشاعر والناقد، المحاضر والباحث، القاص والخطيب، مربي الأجيال، "سيد الفهود" والنشطاء، الكاتب والمؤلف، الرائد الموسوعي من سلالة عبقر، سادن الكلمة ومخزون الأدب، حافظ الكثير من آي القرآن، والأحاديث عن ظهر قلب.

يطيب لي أن أشكرك يا فارس الصرف والنحو، بيدك مفاتيح لغة الضاد من أصالة وجماليه. ومن بلاغة مجازية، يا منقذ المعوزين ومفرج كرب المحتاجين من مخزونك الأدبي على مرّ السنين، وقد نيّف على الستين إصدارًا من شعر ونقد، وقصة، ومقالة، وأبحاث، وترجمة، وكتب مدرسية، فلله درك!

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ملاحظة: ليعذرني القارئ إن رأى فيما أذهب إليه بعض الإعجاب المتناهي، فأنا أكتب عن أديب صديق لا أجد إلا الكلم معبرًا له ومعبّرا عنه، ومع ذلك فهو رأي مشفوع بدراسة واستقصاء، وحب ووفاء، أقدم ذلك للشاعر بمناسبة بلوغه السبعين، أطال الله عمره بالعافية! نشرت المادة في مجلة الإصلاح، العدد الثامن 2011.

وجيه عيسى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى