الأحد ١٥ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
صحيفة «الرأي» الكويتيّـة
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

ثقافة العُنف!

اطّلعتُ مؤخّرًا على كتاب، هو في أصله رسالة ماجستير، بعنوان «صورة العنف السياسي في الرواية الجزائرية المعاصرة: دراسة مقارنة»، للباحثة سعاد عبدالله العنزي، (الكويت: دار الفراشة، 2010). وهو- في تقديري- من أجدر الكتب بالقراءة، لقيمته الأدبية والفكريّة والاجتماعيّة.

تبحث المؤلِّفة في هذا الكتاب جذور العنف: عوامله ومحفزاته، وصور العنف، وتجلّيات الحياة العنيفة، بما في ذلك: ما يتبدَّى في دلالة الألوان، وعنف اللغة. ثم تنتقل إلى معالجات النصوص الروائية، معرِّجة على مسألة العنونة، والتناصّ، والصوت السردي. وتقتصر الدراسة على الروايات الجزائرية بالعربية، مستبعدة المكتوبة بالفرنسية. ويبدو هذا مبرَّرًا تمامًا، أدبيًّا وعلميًّا وحضاريًّا. وإذا كانت الروائية الشاعرة أحلام مستغانمي هي الأشهر- لدينا أهل المشرق- التي قاربت روائيًّا مسألة العنف السياسي من خلال روايتها "فوضى الحواسّ"، فقد جاء هذا الكتاب ليلقي الضوء على أعمال أخرى لأسماء مهمّة، لعلّ من أبرزها: واسيني الأعرج، في "حارسة الظلال/ دون كيشوت في الجزائر"، والطاهر وطار، في "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي". وإنْ كانت الدارسة تقف نقديًّا على طغيان عاملين على الرواية الجزائريّة، يعصفان بفنيّتها الأدبيّة، بل يمكن أن يجعلا الرواية نفسها خطابًا يمارس العُنف، هما الأيديولوجيا والتاريخ، مستثنية من ذلك أحلام مستغانمي. مشيرة إلى نظائر تلك النصوص في أقطار عربيّة أخرى، كرواية "ريح الجنة" لتركي الحمد، و"الإرهابي 20" لعبدالله ثابت، على سبيل المثال.

يقع الكتاب في 322 صفحة، من الكتابة الممتعة والمفيدة. وتزداد قيمة هذا العمل لعاملين: أولهما أن فيه كسرًا للقُطريّة السياسيّة، والإقليميّة الأدبيّة، لدراسة الأدب العربي بوصفه أدبًا واحدًا، لا فرق بين مغربه ومشرقه. والعامل الآخر: أن هذه الدراسة تتطرّق تاريخيًّا ونقديًّا لقضيّة هي قضيّة (الآن)، أعني قضيّة الغُلُوّ، والتطرّف، والعُنف، والإرهاب، منطلقة من أصداء ذلك الأُولى، حيث ابتداء تفجّراته في الجزائر، عَقِبَ الفشل في القبول بنتائج اللعبة الديمقراطية والتزاماتها. وتظلّ تلك معضلتنا الكُبرى!

-2-

وإذا كان كتاب "صور العنف السياسي" قد أشبع الموضوع بحثًا في ما يتعلّق بصُور العنف كما جاءت في الرواية الجزائرية، وهو قطاع نموذجي يمكن أن يَصْدُق على الرواية العربيّة بعامّة، فإن للعنف في عالمنا لجُذورًا تربويّة وإعلاميّة وثقافيّة جديرة بمقاربات شاملة. ولننظر في راهننا إلى ما لا ننظر إليه عادةً، واقفين على بعض النماذج، على سبيل المثال لا الحصر:

لنبدأ بملمحٍ يتعلّق بالطفولة والتربية. لقد كانت لُعَب الأطفال التقليديّة يُحرص فيها على تربية الحسّ الجماليّ في الطفل، وتحبيبه في الطبيعة، والرِّفق بالمخلوقات. فما الذي يحدث في السنوات الأخيرة؟ ما يحدث أن غالبيّة لُعَب الأطفال الحديثة تحرص على تربية الحسِّ القبحيّ في الطفل، بدءًا من (الأفلام الكرتونيّة)، وصولًا إلى بعض الدُّمَى المسخيّة، فضلًا عن ألعاب العنف، وتعليم القتل، وسفك الدماء، من خلال ألعاب "البلاي ستيشن Play Station"، أو "القيم بوي Game Boy"، ونحوهما من الألعاب. وتجارة هذا الضرب من الألعاب يقدّر سوقه في بعض دول الخليج بنحو (186.6 مليون دولار)، وفق تقرير نُشر سنة 2007. وبعضها يقود في الغالب- كما يذكر ذلك التقرير- إلى الميل إلى العمليّات الانتحاريّة(1). ففيم الغرابة، إذن، أن تنشأ لغةٌ مسلكيّةٌ جانحة إلى العنف لدى ناشئتنا، مكتسبةً من خلال ما عايشوه ممضين الساعات مع ألعابهم الإلكترونيّة، أو في مشاهداتهم التلفازيّة، بما تشكّله هذه وتلك دواخلهم من عوالم أقوى من كلّ دروسنا القيميّة ومناهجنا التربويّة؟ والتقرير نفسه يشير إلى أن بعض ألعاب الأطفال تلك يصوّر معارك بين الأميركيّين ومقاتلي القاعدة(2)، وأن هناك، لذلك السبب، حملات ضد ألعاب العنف تلك، وجميع المصادر المولّدة للعنف. لكنّ السؤال هنا: هل هذا هو فقط ما يعنينا؟ وهل ذلك وحده هو منبّهنا إلى ما يحدث في الأسواق والبيوت؟ ومَن المسؤول عن تربية بعض النزوع الإجراميّ في مراهقينا؟ وهلّا تساءلنا- ونحن المجتمعات المحافظة!- كيف وصلت إلى أيدي أطفالنا ألعابٌ لا تقتصر خطورتها على جانبٍ لغويّ أو ثقافيّ، بل هي- فوق ذلك- تعلّمهم العنف والسطو والقتل؟!

-3-

ثم لنقف أمام نموذج آخر، يمكن أن يغذي نزوع العنف. وذلك من خلال النظر في قطاع من القنوات الفضائيّة العربيّة، يتمثّل في القنوات الدينيّة، التي باتت ظاهرة، واكبت انفجار البثّ التلفازيّ الفضائيّ، وتزايد عددها بصورة ملحوظة، وأصبحت تتنافس على استقطاب المشاهدين، وبعضها يتخصّص في مخاطبة شرائح معيّنة من المجتمعات العربيّة. لنقف أمام هذا النموذج، وقد مضت على تجربته سنوات. ولقد سَبَقَنا الغربُ في استخدام الإعلام لأهداف دينيّة، ومنذ وقتٍ مبكّر، عبر الإذاعات الموجّهة، ثم عبر القنوات الفضائيّة المتخصّصة في التبشير، وبوسائل راقية جدًّا، مسرحيّةً وإبهاريّةً، حتى إن بعض تلك القنوات ليتّخذ اسم: "قناة الله" شعارًا. والحق أن القنوات الفضائيّة الدينيّة لو قورنت بأنواع القنوات التخصّصية الأخرى، فسيلحظ المنصفُ أن إيجابيّات القنوات الفضائيّة الدينيّة (إجمالاً) قد تبدو أكثر من سلبيّاتها، ولاسيما من النواحي التربويّة، واللغويّة، والاجتماعيّة، والتعلميّة. كما سيجد أن تلك القنوات تتصف بالجدّيّة، غالبًا، مخلِصةً في تصوّرها لرسالتها وسعيها إلى ما رسمته من أهداف. غير أنه سيأخذ عليها مآخذ، في طليعتها: أن كثيرًا منها يُرسّخ النزوع الطائفيّ، والمذهبيّ، سواء بطبيعة الخطاب المبثوث أو من خلال المواد المطروحة. وهو ما يستتبع ألوانًا من العنف اللغوي الظاهر أو المبطّن ضدّ المخالفين. ولا ريب أن لهذا تفاقماته الاجتماعيّة والسياسيّة.

-4-

أمّا في المستوى الأدبي، فحدّث ولا حرج! خذ هذا الشاهد المقتضب، وعليه قِس. يقول (أحمد شوقي) في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم:

وَكانَ بَيانُهُ لِلهَـــديِ سُــــــبلًا
وَكانَت خَيلُهُ لِلحَقِّ غابـــــــا
وَعَلَّمَنا بِناءَ المَجدِ حَــــــــتّى
أَخَذنا إِمرَةَ الأَرضِ اِغتِصابا
وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي
وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابــــــــــا

أبيات نطرب لها ونردّدها. غنيناها، وتغنينا بها، وحفّظناها أطفالنا في المدارس، وما زلنا. ومع هذا، فلعلها أبلغ مثال على العمى الثقافي؛ بما تعبّر عنه من خطاب مستكنّ عنيف، تتقافز فيه مفردات: "غاب.. وأَخْذ.. وتأمُّر.. واغتصاب.. وغِلاب"! أفبمثل هذا "يولد الهُدى" الإنساني، أو الإسلاميّ؟! أ وَكانت رسالة محمّد لتعليمنا بناء المجد حتى نأخذ إمرة الأرض اغتصابًا؟! إنه خطاب منغلق، يستعلي على الآخرين، ليدفعهم إمّا إلى العداء، أو إلى السخرية والازدراء. لنتصوّر أن هذه القصيدة قالها شاعر ياباني مثلًا، وغنتها (أمّ كلثوم اليابان)، ماذا سيكون موقفنا، أو موقف غيرنا؟! هو خطاب غير مقبول إنسانيًّا، لأنه لا يراعي التنوّع الإنساني، واعتزاز كلّ ثقافة بنفسها، وبتاريخها، فلا ترضَى أن يأتي آخر ليقول بأبَويّة: إنه هو من علّمها، وأخذها، وتأمّر عليها، واغتصبها، وغَلَبَها، كائنة ما كانت مسوّغاته، سماويّةً أو أرضيّة.

تلك محض أمثلة من محفّزات العُنف، بمختلف ضروبه، التي يمكن أن يحفزنا كتابُ سعاد العنزي لمراجعتها في واقعنا الثقافي اليوم، تربويًّا، وإعلاميًّا، وأدبيًّا.

(1) نُشر تقرير عن ذلك في (جريدة "الشرق الأوسط"، عدد 10461، الجمعة 6 رجب 1428هـ= 20 يوليو 2007م، ص1).

(2) ولقد نُشر في وسائل الإعلام أن مفجّري برجَي مركز التجارة العالمي في منهاتن إنما كانوا قد تدرّبوا نظريًّا للتحضير لتلك العمليّة عن طريق برامج إلكترونيّة كتلك الموجودة في الأسواق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى