الأربعاء ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
مبادئ السيميوطيقا العامة عند
بقلم جميل حمداوي

جان ماري كلانكينبرج

من المعلوم أن السيميائيات هي علم العلامات والرموز والإشارات والأيقونات والمخططات، أو هي دراسة العلامات اللسانية وغير اللسانية في حضن المجتمع. والآتي، أنها تبحث عن الدلالة أو المقصدية التواصلية في الخطابات اللغوية والأنظمة البصرية غير اللفظية،عبر المرور بمجموعة من الأنظمة الشكلية المجردة التي تتحكم في بناء هذه الدلالة وتوليدها. ومن المعروف أن السميائيات أنواع عدة، فهناك السميائيات العامة التي تدرس العلامات بشكل عام، وتضع أنظمة وقواعد عامة لفهمها نظريا وتطبيقيا، وتتخذ هذه السيميائيات بعدا فلسفيا مجردا، وتتداخل مع مجموعة من المعارف والعلوم. ومن جهة أخرى، هناك السيميائيات الخاصة المتعلقة بمجال معين أو نظام خاص كسيميائيات الصورة مثلا، وهناك سيميوطيقا الخطاب أو السيميائيات التحليلية المرتبطة بسميوطيقا الشعر، أو سميوطيقا السرد، أو سميوطيقا المسرح. وبطريقة أخرى، فهناك السيميولوجيا التي تعنى بدراسة العلامات بصفة عامة، والسيميوطيقا التي تهتم بتحليل الخطابات والنصوص، كأن نقول: سيميوطيقا الشعر، وسيميوطيقا المسرح، وسيميوطيقا السينما...

هذا، ويشهد تاريخنا الحديث والمعاصر مجموعة من السيميائيين البارزين في الغرب، كفرديناند دوسوسير، وشارل ساندرس بيرس، ورولان بارت، وكريماص، وجوزيف كورتيس، وجاك مولينو، وأمبرطو إيكو، وميشيل ريفاتير، وجوليا كريستيفا، وبول ريكور، وجاك فونتانيي، وجماعة مو، وكريستيان ميتز، وهيلبو، وغيرهم... وما يهمنا في هذه السلسلة السيميائية هو جان ماري كلانكينبرج ، وقد عرف بكتابه القيم:" مختصر السيميوطيقا العامة.إذاً، ماهي مضامين هذا الكتاب؟ وماهو تصور جان ماري كلانكينبرج للسيميوطيقا العامة؟ وكيف ينظر إلى العلامة والبلاغة والصورة ؟ ومن جهة أخرى، كيف يتعامل هذا الباحث مع الإرث السيميائي الغربي؟ تلكم هي أهم النقط التي سوف نحاول التركيز عليها في موضوعنا هذا.

 سيــــرة جـــان ماري كلانكنبـــرج:

يعد البلجيكي جان ماري كلانكينبرج من أهم السيميائيين المعاصرين في الثقافة الغربية، وهو أستاذ علوم اللغة بجامعة لييج، كما أنه متخصص في السيميوطيقا والبلاغة والثقافة الفرنكفونية. وقد بلور معظم نظرياته واجتهاداته وأعماله اللسانية والبلاغية والسيميوطيقية في أحضان جماعة مو وبسبب هذا، فقد وجه السيميوطيقا بصفة خاصة، والثقافة بصفة عامة، وجهة معرفية (بعد ذهني تجريدي)، ووجهة سوسيولوجية ( بعد تداولي سياقي). وقد نشر الباحث أكثر من خمسمائة (500)عمل، وترجمت هذه الإنتاجات إلى أكثر من خمس عشرة لغة منذ كتابه الأول:"البلاغة العامة" سنة (1970م) إلى كتابه الأخير:" الأدب البلجيكي" سنة (2005م). ومن هنا، فقد ربط هذا السيميائي البلجيكي السيميوطيقا منذ كتابه الأول ببعدين أساسيين: وهما: البعد المعرفي والبعد التداولي، كما كانت تفعل جماعة مو التي تربى بين أحضانها، وكانت تنطلق في مقارباتها التحليلية والمنهجية من المستندين: السيميائي و البلاغي معا.

هذا، وقد كان جان ماري كلانكينبرج من مؤسسي السيميوطيقا البصرية أو المرئية إلى جانب جماعة مو، وأمبرطو إيكو وكريستيان ميتز وجاك فونتانيي...ويعني هذا أنه كان يهتم بدراسة الصورة الأيقونية والتشكيلية في علاقتها بالنصوص والخطابات اللفظية، كما كان يخصص الإنتاجات الأدبية الفرنكفونية بدراسات سيميائية وبلاغية متنوعة ومفيدة رؤية وتصورا وتطبيقا.

 السيميوطيقا العامــــة:

ألف السيميوطيقي البلجيكي جان ماري كلانكينبرج كتابه:" مختصر السيميوطيقا العامة" في طبعته البلجيكية سنة 1996م#، وكانت طبعته الفرنسية سنة 2000م#، ويضم الكتاب (486) صفحة من الحجم المتوسط. وقد تناول فيه الدارس مفهوم العلامة في ضوء مجموعة من التصورات والنظريات الغربية، وذلك ابتداء من فرديناند دوسوسير، وبيرس، مرورا برولان بارت، وكريماص، وجماعة مو....

ويرى الباحث بأن السيميوطيقا تبحث عن الدلالة والمقصدية التواصلية، وأن السيميوطيقا بمثابة العلم الذي تتقاطع عنده مجموعة من العلوم كاللسانيات، والأنتروبولوجيا، والفلسفة، وعلم التواصل... ويرتكز الدارس في أبحاثه الفردية والجماعية على سيميوطيقا معرفية واجتماعية مبنية على البلاغة والبعد السياقي التداولي. ويعني هذا أنه يدرس العلامات والأنظمة السميوطيقية في أحضان المجتمع، وذلك في ضوء رؤية معرفية وبلاغية، من خلال الجمع بين اللغة والكلام،أو بين الكفاءة والأداء الإنجازي، وقد اهتم الباحث كذلك بدراسة الصور والأيقونات والرسوم الفضائية.

هذا، وينطلق الدارس في كتابه هذا من السيميوطيقا العامة التي تدرس العلامات في أحضان المجتمع معرفيا وسياقيا، معتمدا على آراء دوسوسير، وبيرس، ورولان بارت، وكريماص، وإيكو... ومن ثم، تهدف السيميوطيقا العامة عند الباحث إلى دراسة العلامة من وجهة فلسفية وتاريخية وتصنيفية ووصفية، كما تعنى ببناء موضوع علاماتي متكامل نظرية وتطبيقا، واقتراح نماذج أكثر شكلانية وتجريدا وعقلانية وصورنة، ودراسة العلامات بمختلف أنواعها وتجلياتها بنية وتركيبا ووظيفة.

وإذا كانت السيميوطيقا الخاصة ذات طابع مجالي خاص، تدرس أنظمة العلامات من الوجهة التركيبية والدلالية والتداولية، كدراسة أنظمة العلامات في السينما أو الصورة، فإن السيميوطيقا التطبيقية تهتم بتحليل النصوص والخطابات. ويعد جان ماري كلانكينبرج (1996م) وأمبرطو إيكو# (1975م) من أهم الدارسين الذين اهتموا كثيرا بدراسة السيميوطيقا العامة، وذلك تنظيرا وتأريخا ووصفا وتصنيفا.

وعليه، يعرفنا جان ماري كلانكينبرج في كتابه:" مختصر السيميوطيقا العامة" بمبادئ السيميوطيقا العامة التي تتمثل في شكلنة الدلالة والمقصدية في بعديهما التركيبي والتواصلي، كما يرسم لنا تاريخ العلامة بشكليها العلمي والفلسفي في حقلها الثقافي الغربي، وترابطها مع مجموعة من العلوم والمعارف الإنسانية والتجريبية، ودراسة السيميوطيقا ذهنيا واجتماعيا، بواسطة الجمع بين السيميوطيقا والبلاغة في إطار تصور نظري ومنهجي تطبيقي متكامل، بمعنى أن هذا الدارس يؤسس لسيميوطيقا بلاغية جديدة بامتياز، ذات طابع مادي مرجعي قائم على السياق التداولي.

وعليه، تهتم السيميوطيقا العامة كما لدى جان ماري كلانكينبرج بالمبادئ الأساسية التي ترتكز عليها النظرية السميائية، كما تعنى بمدارسها وتياراتها وقضاياها العامة، و تلقي نظرة تاريخية بانورامية حول روادها القدامى، وباحثيها المحدثين والمعاصرين، وتهدف أيضا إلى وضع منهجية وصفية إجرائية، ومقاربة تفسيرية تأويلية لدراسة الظواهر غير اللسانية. وللتوضيح أكثر، تنشغل السيميوطيقا العامة بمجالات العلامة في مستوياتها الصوتية والصرفية والدلالية والتركيبية والتداولية، وتعنى كذلك بتياراتها المختلفة دلالة وتواصلا، وبناء نماذجها المجردة الصورية، ودراسة سميوطيقا الصورة في أبعادها الأيقونية والتشكيلية والكرافية (الكتابة والخط)، والبحث عن العلاقات الموجودة بين الصورة المرئية والنص اللغوي.

 الإطــــار المنهجي والإبستمولوجي:

يشتغل جان ماري كلانكينبرج ضمن السيميوطيقا العامة التي تهتم بفلسفة العلامات ومنطقها، ودراسة دلالات العلامات والرموز والإشارات والأيقونات، ويتكئ جان ماري كلانكينبرج في هذا المنحى على أعمال كل من فرديناند دوسوسير، وبيرس، وبنفينست، وهلمسليف، وشارل موريس، وأمبرطو إيكو، ورولان بارت، ورومان جاكبسون، وكريماص، وجاك فونتاني، وجماعة مو...ويتعامل مع مجموعة من الأمثلة اللغوية المأخوذة من اللغة التداولية المعاصرة. كما يدرس العلامات السيميائية في الخطابات اللسانية اللفظية وغير اللفظية من خلال مستوياتها الصوتية، والكرافية، والصرفية، والدلالية، والتركيبية، والتداولية، وذلك من خلال الجمع بين بعدين متكاملين: البعد المعرفي (البعد السيميوطيقي المجرد) والبعد الاجتماعي(البعد البلاغي والتداولي). بمعنى أنه يدرس العلامات في حضن المجتمع، كما ينص على ذلك فرديناند دوسوسير في كتابه القيم:" محاضرات في اللسانيات العامة"#. ومن ثم، يتسم هذا الكتاب بطابعه العام رؤية وتصورا، وتشغيل لغة وصفية بسيطة وواضحة ومركزة، وذلك أثناء تقديم المعلومات السيميائية، واستعراض المعارف المتعلقة بالسيميوطيقا العامة، والتعريف بمدارسها النظرية، وطرح قضاياها الشائكة على المستوى اللغوي والبصري.

 نظريــــة العلامـــة:

انصب أكثر اهتمام جان ماري كلانكينبرج على نظريات العلامة في تنوع مدارسها وتياراتها واتجاهاتها، كما قدم نظريته حول العلامة من خلال التركيز على مجموعة من التصورات، فالعلامة عند فرديناند دوسوسير تتكون من الدال والمدلول والمرجع، لكن سوسير يقصي المرجع، ويكتفي بالدال الصوتي، والمدلول المفهومي المجرد، ويستبعد المرجع الحسي. ومن ثم، فإن العلاقة بين الدال والمدلول هي علاقة اعتباطية أو اتفاقية، ولكنها هي علاقة اصطناعية وسببية عند بنيفنست، وعلاقة تماثلية عند هيجل. ومن هنا، فإذا كانت العلامة ثلاثية عند أرسطو، وفرديناند دوسوسير، وشارل موريس، وبيرس...فإن العلامة عند جان ماري كلانكينبرج رباعية الأبعاد، فهناك: الحافز في شكل دال صوتي وكتابي (الفونيم والكرافيك)، والدال (مونيم صوتي)، والمدلول (مفهوم معنوي يتشكل من مجموعة من السمات الدلالية، وكل تكرار لسمة معينة يتشكل من خلالها ما يسمى بالتشاكل، والمرجع (الموضوع الحسي):
ويعني هذا أن العلاقة بين الدال والمدلول ليست دائما اعتباطية، بل قد تكون محفزة وسببية. وينطلق الدارس في تركيزه على الحافز من العلامة البصرية الأيقونية التي تكون في شكل خط أو كتابة بصرية، ويكون لها علاقة تماثلية مع المدلول. بمعنى أن العلامة في نظرية جان ماري كلانكينبرج تتكون من أربعة عناصر: الدال (الكلمة)، والحافز(الصوت/ المكتوب)، والمدلول، والمرجع. ويتكون المدلول من سمات دلالية، وقد يكون مفهوما منطقيا، أو مفهوما نفسيا. كما تتخذ العلامة عند الدارس طابعا تتابعيا، إذ ننتقل على مستوى العلامة من الحافز إلى الدال، فالمدلول، ثم المرجع، ويسمى هذا التتابع المتسلسل بالمسار الإحالي أو المرجعي؛ لأنها تحيل على المرجع، على عكس تصور فرديناند دو سوسير الذي يستبعد المرجع، ويكتفي بثنائية الدال والمدلول.

هذا، ويقسم الباحث جان ماري كلانكينبرج العلامة اللسانية والبصرية على غرار بيرس إلى أربعة أقسام، وهي:

1- الأيقون وهي علامة بصرية محفزة عن طريق المماثلة والمشابهة بين الدال والمدلول، ومن أمثلتها: الصور الفوتوغرافية والخرائط الجغرافية...

2-الإشارة : تكون فيها العلاقة بين الدال والمدلول محفزة سببيا ومجاورة، كما هو شأن الدخان الذي يشير إلى وجود النار.

3- الرمز: وهو عبارة عن علاقة اعتباطية تجمع بين الدال والمدلول، مثل: الميزان رمز العدالة، والحمامة رمز البراءة، والليل رمز الحزن، والسيف رمز الشجاعة...

4- العلامة اللسانية أو اللغوية: وهي عبارة عن علامة لفظية خطابية أو نصية أو تلفظية تتحكم الاعتباطية فيها على مستوى علاقة الدال بالمدلول.

وتأسيسا على ماسبق، تدرس السيميوطيقا العامة عند الباحث جان ماري كلانكينبرج مجموعة من العلامات اللغوية والبصرية، كعلامات المرور، والشيكات، والبطاقات البنكية، وعلامات المرور، والرموز، والإشارات، والأيقونات، والشعارات الملاحية والعسكرية، والصور الأيقونية، والصور التشكيلية#... ومن ثم، تتميز العلامة السيميائية بثلاث خاصيات رئيسية، وهي:

1- خاصية الاستبدال: حيث تحضر علامة، وتغيب علامة أخرى تعويضا، واستبدالا، وتناوبا، وإحالة، وتكنية، واستعارة، وترميزا.

2- خاصية الاختلاف بين الدال والمدلول: حيث يختلف الدال عن المدلول، وتتعدد علاقاتهما، فقد تكون علاقة اعتباطية، أو سببية، أو طبيعية، أو تماثلية...

3- تتميز علاقات العلامات بمجموعة من الخصائص المنطقية: كالهوية (هوهو)، والاستقراء(من الجزء إلى الكل)، والاستنباط (من الكل إلى الجزء).

كما أن العلامة أنواع عدة، فهناك: الإشارة، والرمز، والأيقون، والاستعارة. ومن جهة أخرى، هناك عند بيرس: الاسم، والمؤشر، والعارض، والمخطط#. كما يميز الباحث جان ماري كلانكينبرج بين العلامات السيميائية تصنيفا وتنويعا وتنميطا، يميز أيضا بين دلالة التعيين (التقرير أو الدلالة الحرفية المباشرة) ودلالة التضمين ( الإيحاء والمجاز).

وعليه، فالعلاقات بين العلامات عند جان ماري كلانكينبرج قد تكون علاقة اعتباطية اتفاقية بين الدال والمدلول في معزل عن المرجع(الرمز-العلامة اللغوية)، وقد تكون علاقة محفزة بين الدال والمدلول في ارتباط مع المرجع، وقد تكون إما علاقة سببية أو مجاورة (الإشارة)، وإما علاقة تماثلية (الأيقون). ومن ناحية أخرى، يميز جان ماري كلانكينبرج في إطار السيميوطيقا البصرية أو المرئية بين العلامة الأيقونية والعلامة التشكيلية، فالعلامة الأيقونية قائمة على التماثل بين الدال والمدلول، وتحيل مباشرة على المرجع الحسي والواقعي. أما العلامة التشكيلية، فترتبط بالخطوط والكتابة والألوان بعيدة عن كل ترابط تشابهي أو تماثلي. ويعني هذا أن العلامة الأيقونية محفزة تشابها وتماثلا. في حين، تتميز العلامة التشكيلية بكونها علامة اعتباطية.

 السيميوطيقـــا والبلاغــــة:

يعد جان ماري كلانكينبرج من أهم الدارسين الذين حاولوا الربط بين السيميوطيقا والبلاغة، وإيجاد علاقات وأوجه التقارب والتشابه بينهما تصورا ومنهجا وتطبيقا، وذلك إلى جانب جماعة مو التي كرست كل جهودها النظرية والتطبيقية لخدمة الشعرية أو البويطيقا سواء أكنت شعرية لسانية أم بصرية. ومن ثم، تشكل البلاغة جزءا إبداعيا من النظام السيميوطيقي الدلالي والاجتماعي والسياقي والمعرفي. بمعنى أن البلاغة تشكل المولد الديناميكي للوحدات الكلامية والإبداعية أداء وإنجازا وسياقا، بينما تشكل السيميوطيقا الجهاز الوصفي الثابت الذي يعمل على رصد العلاقات البنائية، ويبحث عن المضمرات التوليدية التي تتحكم في إنتاج الخطابات سطحا وتمظهرا. وإذا كانت السيميوطيقا تهتم بالجانب المعرفي الثابت من اللغة، فإن البلاغة تهتم بالجانب الإنجازي والأدائي من الكلام. بمعنى أن البلاغة ذات طابع أدائي وتداولي وسياقي في ارتباطها بالمجتمع، وتتلون في مقاصدها بتنوع السياقات المرجعية والإحالية. وما أحوج السيميوطيقا اليوم إلى الانفتاح على البعد المرجعي والسياقي ! كما يلح على ذلك بول ريكور الذي دعا إلى الجمع بين الفهم والتفسير والتأويل، من خلال الانفتاح على الذات والواقع والمقصدية السياقية.

ومن المعلوم أن شارل موريس كان سباقا إلى طرح البعد التداولي، حينما حصر المنهجية السيميوطيقية في مستويات ثلاثة: المستوى التركيبي، والمستوى الدلالي، والمستوى التداولي. بمعنى أن العلامات السيميائية لا تتخذ بعدها الدلالي إلا في انتظامها داخل بنيات تركيبية ودلالية وسياقية. وقد اشتغلت جماعة مو كثيرا على هذه التصورات من خلال الجمع بين هذه المستويات المنهجية، والانفتاح على اللسانيات اللغوية والبصرية، ودراسة علاقة النص بالصورة الأيقونية والتشكيلية#. وهذا مادفع جان ماري كلانكينبرج إلى تمثل المقاربة البلاغية في دراسة الصور التشكيلية والصور الأيقونية في كثير من دراساته اللسانية والسيميائية، ولاسيما دراساته التي حلل فيها علاقة الصورة بالنص الأدبي. أي: لقد اهتم جان ماري بإبراز العلاقات الموجودة بين البلاغة والسيميوطيقا، بعد إنجاز العديد من الأبحاث الفردية والجماعية مع جماعة مو لمدة أربعين سنة#. من جهة أخرى، فقد انشغل جان ماري كلانكينبرج كثيرا بالمفاهيم اللسانية، وخاصة المفاهيم السوسيرية منها، كالدال والمدلول، واللغة والكلام، واللسانيات والسيميائيات، والمستوى التأليفي والمستوى الاستبدالي، وثنائية السانكرونية والدياكرونية، وثنائية التضمين والتعيين، أو التقرير والإيحائية، وثنائية الشكل والمضمون، كما اهتم كذلك بالخطاب في أبعاده المنهجية ومستوياته اللسانية: الصوتية، والصرفية، والتركيبية، والدلالية، والتداولية، والبلاغية، ودراسة البلاغة عن طريق التركيز على الصور البيانية، والمحسنات البديعية، والحجاج التأثيري والإقناعي.

وهكذا، يرى جان ماري كلانكينبرج أن البلاغة فن الكلام، وليس فن اللغة. ويعني هذا أن السيميوطيقا مرتبطة باللغة. في حين، ترتبط البلاغة بالكلام والبعد الإنجازي التداولي البراجماتي. ويعني هذا أن البلاغة شقيقة البراجماتية بشكل وثيق، مادامتا قائمتين على الكلام والإنجاز والأداء وأفعال الكلام. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن البلاغة نظام إبداعي ديناميكي تداولي، بينما السيميوطيقا نظام وصفي ثابت، يهتم بوصف الأنظمة اللسانية وغير اللسانية وصفا وتقعيدا وتنظيرا، بغية البحث عن الأنظمة الثابتة المضمرة التي تتحكم في توليد الدلالة والبعد التواصلي. ومن ثم، فالبلاغة مقاربة اجتماعية ومقامية، تنبني على نظرية الأفعال الكلامية في سياقها الحواري والإنجازي. والآتي، أن البلاغة ترتبط بالتحولات المجازية والإيحائية، وترصد مجمل الانزياحات الصوتية والبصرية والدلالية والتركيبية والإيقاعية من خلال انتهاكها للمعايير المألوفة والمتداولة. أما عن السبب وراء اهتمام جان ماري كلانكينبرج بالبلاغة والسيميوطيقا، فهو انتماؤه إلى جماعة مو التي اهتمت خصوصا بآليات الشعرية أو البويطيقا، حيث ركزت كثيرا على الصور البلاغية والحجاج، من خلال الاستعانة بالبنيوية واللسانيات والسيميائيات، مع الاستفادة من أفكار فرديناند دوسوسير، وبيرس، ورومان جاكبسون، ورولان بارت، وكريماص، وأمبرطو إيكو... وقد اهتمت جماعة مو بالبلاغة العامة بواسطة الانفتاح على مجموعة من المقاربات المتعددة الاختصاصات: اللسانيات، وسوسيولوجيا الثقافة، والفلسفة، والبيوكيمياء، وعلم الجمال، وتاريخ السينما... كما اعتنت بدراسة الصور البلاغية المختلفة داخل نصوص لغوية معينة، وخطابات بصرية مختلفة، في ضوء رؤية معرفية نسقية، ومنهجية سياقية تداولية، تنبني على تجريد الأنظمة الخطابية، واستكشاف التفاعلات السياقية البراجماتية، مع الاهتمام بالصورة الأيقونية والتشكيلية الثابتة أو الصورة السينمائية المتحركة. ويعني كل هذا أن جماعة مو كانت تستهدف تأسيس سيميوطيقا بلاغية عامة وخاصة، بغية معرفة أنظمة اللغة والكلام معرفيا وسياقيا.

 السيميوطيقــــا البصرية أو البلاغة المرئيــــة:

يعد جان ماري كلانكينبرج من أهم المؤسسين للسيميوطيقا البصرية أو البلاغة المرئية التي تعد جزءا من السيميوطيقا العامة، وهي سيميائية تهتم بدلالة الصورة، مع رصد بعدها التواصلي والسياقي والوظيفي. ومن ثم، فهو يدرس الصور البصرية ونصوصها الموازية والمجاورة من خلال التشديد المنهجي على البعد المعرفي والبعد التداولي. وقد اعتمد جان ماري كلانكينبرج في ذلك على رولان بارت الذي أعد دراسة قيمة تحت عنوان:"بلاغة الصورة" سنة 1964م. وتعد هذه الدراسة رائدة من نوعها في مجال السيميوطيقا البصرية، مستعملا في ذلك ثنائية التضمين والتعيين، ولاسيما في دراسته للصور الإشهارية والتشكيلية والأيقونية على حد سواء، ونستحضر من بين هذه الدراسات السيميائية التطبيقية دراسته التحليلية المشهورة للصورة الإشهارية المتعلقة بعجائن بانزاني . وبالتالي، لم تتحقق سميأة الصور البصرية والمرئية بطريقة علمية، وتصنيفها بطريقة تجريبية، إلا مع الباحث السيميائي أبراهام مول سنة 1978م. وبهذا، يكون رولان بارت وأبراهام مول وأعضاء جماعة مو من المؤسسين الفعليين للسيميوطيقا البصرية أو المرئية. وقد ساهم جان ماري كلانكينبرج، ضمن دراساته السيميائية والبلاغية التي خصصها للصورة والأيقون والكتابة الخطية، في بلورة سيميوطيقا بصرية أو بلاغة مرئية متميزة، ترصد التفاعلات الموجودة بين النص والصورة، من خلال الاعتماد على اللسانيات والبلاغة والسيميوطيقا، بغية تفسير ماهو بصري وأيقوني وتشكيلي وإشهاري.

خلاصات ونتائــــــج:

وهكذا، نصل إلى أن كتاب:" مختصر السيميوطيقا العامة" لجان ماري كلانكينبرج من أهم الكتب التي تهتم بتأسيس سميوطيقا نظرية عامة، تستجلي مجالات هذا العلم الجديد، وترصد نظرياته وتياراته ومدارسه واتجاهاته اللغوية والبصرية، مع استكشاف مواقفها حول مجموعة من القضايا اللغوية واللسانية والسيميائية، وتتبع تاريخ الأبحاث السيميائية سواء أكنت فردية أم جماعية تعريفا ووصفا ونقدا. دون أن ننسى أن هذا الكتاب يقدم نظرية عامة حول نظرية العلامة تنظيرا وتفريعا وتصنيفا وتطبيقا، كما يطرح مقاربة جديدة لدراسة العلامات بصفة عامة، ودراسة العلامات الأيقونية والتشكيلية بصفة خاصة، وهذه المقاربة هي في الحقيقة مقاربة بلاغية بامتياز؛ بمعنى أن جان ماري كلانكينبرج يركز كثيرا على البعد البلاغي في دراسة العلامات السيميائية، كما يستعين بالمرجع الإحالي والسياق التداولي لخدمة السيميوطيقا الوصفية. أي: إنه يجمع في تصوراته النظرية والتطبيقية بين الكفاءة اللغوية والأداء الكلامي الإنجازي في مقاربة الظواهر الأدبية والسيميائية والبصرية، قصد تثبيت الأنظمة الثاوية العميقة التي تتحكم في توليد الخطابات والنصوص والكتابات والصور سطحا وتمظهرا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى