السبت ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠١٢

هل نحن في زمن الإلحاد؟

أحمد ناصر نور الدين

هناك موجة من التشكيك باليقينيات بدأت تبرز في العالم العربي مع الإنتشار الهائل للمعلومات الذي وفرته الإنترنت. فشباب اليوم لم يعد يكتفي بخطب المساجد التقليدية، أو بما يجود به علماء الدين من تفسيرات وحلول يلح الشباب في طلبها إرواءً لظمئ عميق للمعرفة. واللافت فعلاً هو انتشار مثل هذه الموجة في دول يسود فيها الخطاب الديني سيادة تمتد لعصور طويلة، لم يستطع أي شيء أن يزعزعها حتى برزت الإنترنت بما توفره من اطلاع حر على المعلومات في أغلب المجالات.

بين التدين والتشكك

على مدى العصور، كان الفكر الديني السائد في كل مجتمع يجد من يتصدى له من أبناء المجتمع نفسه بالتشكيك والنقد. وفي المراحل المبكرة من عمر الأديان كان الفكر الديني يضيق بمثل هذه التحديات، فيعتمد على العقاب الزاجر لحسم الجدل والتمكن من زمام الفكر في المجتمع. لكن مع مرور الزمن، وتغير الأحوال والآليات، وجد الفكر الديني نفسه مضطراً على تطوير خطابه مجاراتاً للمشككين والمخالفين. فبدأ رجال الدين يتصالحون مع مختلف العلوم ليبنوا خطاباً دينياً قادراً على مجابهة الحجة بالحجة، والدليل بالدليل. ونشاهد ثمار هذه الصيرورة بوضوح في الحضارة الغربية الراهنة، حيث أن الكنيسة، المعروفة تاريخياً بمواجهاتها القاسية مع الملحدين والمخالفين، تضم في كنفها اليوم رجالاً مزودين بالكثير من المعارف العلمية، ومنفتحين على مسار التطور العلمي مما يمكنهم من تطوير خطابهم ومنطقهم باستمرار، فيقفون بذلك على قدم المساواة مع أباطرة الإلحاد في الغرب ممن يستندون إلى أكثر أسلحة المنطق والعلم الحديث فتكاً.

عبر هذه المقدمة، الموجزة جداً، نلج إلى واقعنا المعاصر في العالم العربي، حيث نجد أمامنا أجيالاً فوارة من الشباب الذي تشعله حماسة المعرفة. وقد شكلت الإنترنت عاملاً محرضاً على طلب العلم، ومغرياً باتباع سبله وتفرعاته اللامحدودة في فضاء مفتوح على كل الاحتمالات. وقد أفلت زمام الرقابة، في حالنا هذه، من أبسط مؤسسة رقابية في المجتمع، ألا وهي الأسرة. حيث لم يعد بمقدور الأم والأب أن يضعا لأولادهما حدوداً تحيط بما يمكن لهم أن يخوضوه من مجالات المعرفة، مطلعين خلال ذلك على كم هائل من نتاج المفكر والفلسفة. وقد أدى هذا الانكشاف المعرفي المغري أمام شباب اليوم إلى تفتح الكثير من التساؤلات الوجودية الملحة بداخلهم. وبالنظر إلى الفكر الإلحادي المعاصر، نجد أن أصحابه قد عكفوا على تطوير منطق يستخدم أدوات العلم الحديث ليبدو بمظهر جذاب أمام الشباب، فينجحون في زرع بذور الشك حول موضوعات استقرت في أعماق النفوس كمسلمات لا يرقى إليها الجدل. ومن جملة ما يتطرقون إليه من موضوعات: وجود الله (تعالى)، عمر السلالة البشرية، نظرية التطور، إلخ...

ويصرح الشباب عن هذه التساؤلات أول الأمر إلى الأهل والأصدقاء طلباً للأجوبة الشافية. وحين لا يجدون تلك الأجوبة عندهم، وهو الأغلب، تجدهم يلجؤون إلى رجال الدين مستنجدين بهم لمجابهة ما يعترض سبيلهم من أسئلة محيرة تهدد طمأنينة الإيمان في أنفسهم.

وإذا نظرنا بدقة إلى ما يملكه الخطاب الديني السائد من أدوات للتعامل مع مثل هذه التحديات، فسنجد أن أقصى ما يستطيعه رجل الدين، وبعد أن تنفد كل الردود التقدليدية، هو أن ينهى سائله عن الخوض في مثل هذه التساؤلات وأن يستغفر الله على زلته. هذا على اعتبار أن السؤال عن مثل هذه الموضوعات الوجودية الضخمة أمر محظور على العقل البشري لأنه يعجز عن الإجابة عليها. ويضم رجال الدين مجموع تلك التساؤلات في حزمة واحدة ضخمة يطلقون عليها تسمية: "الشبه" بضم الشين، وهي جمع شبهة إي إلتباس.

هنا لا بد من الإشارة إلى أنه لو كان هذا العلاج ناجعاً في الماضي، فإنه اليوم لا يعدو كونه دعوة مبطنة للشباب لليأس من رجال الدين، والانصراف إلى منابع معرفية أخرى. ومن هذا المنطلق تبرز المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق رجال الدين المتمثلة في العمل الدؤوب على تطوير خطابهم بما يلائم احتياجات الشباب الملحة.

فحين لا يجد الشاب أو الشابة ما يروي الظمأ عند رجل الدين، فإن حالة من الإحباط تسود، ويتبع ذلك رحلة شاقة مضنية في شعاب ومنعرجات الفكر الوعرة، غالباً ما يشعر الشباب في خضمها بالضياع والتشتت، لأنهم يخوضون غماراً غريبة عليهم لم يزودوا بما يلائمها من أدوات النجاة.

الإلحاد في العالم العربي

إلى حد الآن، لا يمكننا القول بأن الإلحاد أصبح ظاهرة كبيرة في العالم العربي. ونحن نفتقر في هذا المجال إلى معطيات إحصائية دقيقة تساعدنا على رسم المشهد بوضوح. لكن على الرغم من هذا، فإن المراقب سيعثر بسهولة على الكثير من الملامح التي ترسم حالة من المد الإلحادي البطيئ الآخذ في الانتشار تدريجياً في بلادنا.

يبقى السؤال الأكبر هنا: لماذا يجد الإلحاد أكثر المتعاطفين معه في بلادنا ضمن فئة الشباب؟ ولماذا يبدو الخطاب الإلحادي براقاً جذاباً للكثير من المثقفين؟ هل لأن له من الوجاهة المنطقية والقدرة الأقناعية ما يفتقر إليه الدين؟ بالعودة إلى الملاحظة السالفة حول بعض رجال الكنيسة المعاصرين في الغرب، نجد أن المشتغلين بالفكر الديني هناك ألقوا بأنفسهم في خضم التطور الفكري، منتزعين لأنفسهم مكانة لا بأس بها في ساحة النزال الفكري الصارم في هذا العصر. وهذه الملاحظة ضرورية إذا أردنا فهم واقعنا بشكل دقيق. وذلك لأن مروجي الإلحاد ومريديه من العرب استفادوا من التركيبات المحكمة والمعقدة التي يمتاز بها الفكر الإلحادي المعاصر، والمبني في مجمله على أسس العلم الحديث والمنطق الكلامي المتقن. لذلك فإن المعركة تبدو لأول وهلة غير متكافئة بين الخطاب الإلحادي المتطور، والخطاب الديني المتوارث.

لكن بعد التدقيق المتأني لواقع الحال، سنجد أن سبب عدم التكافؤ الظاهر هو ليس عجز الدين عن توفير أسس فكرية يبنى عليها خطاب معاصر، بل إن السبب الحقيقي هو اكتفاء نسبة كبيرة من العاملين في الفكر الديني بما توارثوه دون أن يبذلوا الجهد والوقت اللازمين لتطوير هذا الموروث وجعله ملائماً لاحتياجات هذا العصر الزاخر بمثيرات الفكر والسؤال. في حين أن الذين يتبنون الإلحاد يستندون إلى بنيان فكري ضخم استغرق جهوداً وعصوراً ليتكون وينضج. وفي أزاء هذا المشهد، يجد الشاب العربي نفسه مبهور الأنفاس بعد أقصر مواجهة تجمعه مع ملحد متمكن من أدواته، ويجد أن ما يملكه من أفكار يؤسس عليها معتقداته يتم التعريض بها والتشكيك بصدقيتها بمنطق لساني محكم.

خاتمة

وبعد هذا العرض لا بد من التأكيد على الدور الهام المنوط برجال الدين عامة، وهو تطوير وتحديث الخطاب الديني ليكون موائماً لمعارف هذا العصر، متسلحاً بمنطقه. وبذلك وحده يضمن المعنيون القدرة على التعامل مع التيارات الفكرية الجديدة التي يرتمي فيها الشباب جرياً وراء المعرفة والفكر. فشباب هذا العصر لا يعرفون سوى لغة المنطق والإقناع، ولم تعد أساليب النهي القديمة ذات فاعلية تذكر، خاصة ونحن اليوم على ضفاف تيار دافق من المعلومات اللامحدودة والمتاحة لأي شخص في أي مكان بمجرد ضغطة زر.

أحمد ناصر نور الدين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى