الجمعة ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم جوني منصور

المدينة الفلسطينية الجريحة بانتظار خلاصها

ضمن المخطط الذي وضعت أسسه القيادة الصهيونية السياسية والعسكرية تطبيق عملية تطهير عرقي للمدن الفلسطينية الكبرى والمركزية في العام 1948. وبات واضحا أن أمرًا عشوائيا لم يصدر عن هذه القيادة، بل كل ما أصدرته كان مدروسًا وموثقًا بالتمام. معنى ذلك أن العمليات العسكرية التي قامت بها المنظمات العسكرية الصهيونية كالهاغاناه والاتسيل وليحي لم تكن وليدة الساعة مطلقًا. ومن جهة أخرى، فإن هذه المنظمات ليست عصابات كما تسميها بعض الأدبيات الفلسطينية/العربية، إنها في غاية التنظيم والتنسيق والتدريب والتسلح، لهذا يجب نعتها مستقبلا بكونها منظمات عسكرية.

كان أساس المخطط تنفيذ الخطة "د"(داليت)، والتي تبلورت بصيغتها النهائية في مطلع العام 1948، آخذة بعين الاعتبار ثلاث خطط سابقة لها حملت العناوين "أ"، "ب"، "ج".
وكانت الاستعدادات العسكرية لدى هذه المنظمات مستمرة دون توقف، وسائرة بالتوازي مع المسار السياسي الذي أدارته المؤسسة الصهيونية بكافة أذرعها. وما أن أصدرت الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر 1947 حتى باشرت المنظمات العسكرية بالهجوم الرهيب والفظيع على المدن الفلسطينية. واستفادت هذه المنظمات من التنسيق السرّي الذي تم بين قياداتها وبين القيادات العسكرية / السياسية البريطانية بأعلى مستوياتها، وأيضا مع القيادات البريطانية الميدانية. القيادة البريطانية أعلمت قيادات المنظمات الصهيونية بأنها تنوي الإنسحاب من المدن قبل انتهاء الانتداب. وهذا الإعلان الذي بلغ للقيادة الصهيونية كان عاملاً مساعدًا في تمهيد الطريق لتحرك المنظمات العسكرية الصهيونية تجاه الانقضاض على المدن الفلسطينية.

مدينة طبريا كانت الفريسة الأولى في فم آلة الحرب والقتل الصهيونية. هذه المدينة التي عاش فيها العرب واليهود من قرون، وعرف أهلها أسس العيش المشترك، بين أبناء الشعبين، اخترقها المشروع الصهيوني وتم تجنيد معظم اليهود لصالح المشروع الصهيوني المتمثل بإقامة دولة يهودية على الأرض الفلسطينية بعد اقتلاع الفلسطينيين أصحاب البلاد الأصلانيين.
فتحركت الوحدة الـ 12 من لواء جولاني من أعالي طبريا حيث الأحياء اليهودية، واحتلت المدينة مباشرة بعد انسحاب القوات البريطانية التي كانت مرابطة فيها، وبالرغم من المقاومة العربية العنيفة إلا أن التفوق الصهيوني حسم المعركة. ومباشرة تم ترحيل العرب بالترهيب والعنف، ولم تشفع الجيرة الحسنة التي تميزت بها المدينة، فجار الأمس اليهودي لم يقف في وجه المخطط الترحيلي، بل تعاون معه وقام بتنفيذ خطواته.

ثم جاء دور مدينة حيفا عروس البحر والكرمل، حيث أعلن الجنرال ستوكويل البريطاني عن انسحاب قواته إلى منطقة الميناء في 17/18 نيسان، وعن تسليمه مواقع في المدينة لليهود. وجراء التفوق الجغرافي للأحياء اليهودية نفذت الهاغاناه خطة "المقص" بالانقضاض من أعالي الكرمل على البلدة التحتا والأحياء العربية، بعد أن نفذ عناصرها مسلسلاً من الرعب والتفزيع بقصف الأحياء العربية ودحرجة براميل متفجرات ونسف مبان وقتل مدنيين أبرياء. وكان البحر هو مخرج وحيد تقريبًا لأهالي حيفا العرب أصحاب المدينة الأصلانيين. ولم تكتف الهاغاناه بتطبيق خطة المقص بل شرعت بتطبيق عملية "بيعور حميتس" أي تطهير المدينة من السكان الذين بقوا في بعض المنازل، وطردهم عبر الميناء، أو تجميعهم في حي وادي النسناس. وتعاملت الهاغاناه مع العرب الباقين في حيفا والبالغ عددهم 2900 نسمة من أصل 75 ألفًا، معاملة أسرى حرب، فأذلتهم وحرمتهم من التنقل أو حتى من الوصول إلى بيوتهم لأخذ حاجاتهم. وأكثر من ذلك، قامت بلدية حيفا بإشراف نائب رئيس البلدية آبا حوشي بهدم معظم الأحياء العربية في البلدة القديمة للحيلولة دون عودة الفلسطينيين أبناء حيفا، ولطمس المعالم العربية لحيفا، واستبدالها بمعالم أوروبية غربية.

وجاء دور صفد عروس الجبال، الواقعة شمالي فلسطين، والبالغ عدد سكانها حوالي 12 ألف، منهم عشرة آلاف عربي تقريبا، حيث انسحب الجيش البريطاني في شهر نيسان، وبدأ التحرك الصهيوني في الاستيلاء على المدينة. ووقعت مواجهات شديدة بين العرب واليهود، إلا أن التنظيم العسكري الصهيوني تفوق على العرب، وانهارت منظومة الوقاية/الحماية العربية أمام قوة الهاغاناه. أضف إلى ذلك تعاون القيادات اليهودية الصفدية مع الهاغاناه، بالرغم من الجيرة الحسنة والعيش المشترك لمئات السنين بين أهالي صفد العرب واليهود. ولم تشفع هذه الجيرة لأي عربي من أهالي صفد، بل شارك جيران الأمس في عملية طرد العرب.
أما يافا الجميلة فتعرضت إلى مسلسل رهيب من الهجمات من قبل مدفعية وعناصر المنظمات العسكرية الصهيونية في شهر نيسان. أي قبل اعلان انتهاء الانتداب البريطاني. فبدأت القوات العسكرية الصهيونية بالهجوم من الجهة الشمالي والشرقية ليافا. وبرزت مشاركة الاتسيل في قصف حي المنشيه في يافا وبالتالي اضطرار العائلات اليافية إلى ترك بيوتها طلبا للحماية. وشرعت المنظمات العسكرية بتفريغ يافا من أهاليها أصحاب البلاد الأصلانيين. وكان ميناء يافا، كميناء حيفا، المنفذ الذي منه خرج الأهالي إلى اللجوء، إضافة إلى من تمكن من الخروج شرقا باتجاه رام الله ثم عمان في شرقي الأردن.

نستنتج من هنا، أن الفكر العسكري الصهيوني في كيفية تنفيذ عملية احتلال فلسطين، وتطهيرها من أصحابها الأصليين، كان بعد مسلسل طويل من تجميع معلومات، وإقامة مؤسسات عسكرية وسياسية، وتعميق وتمكين العلاقات مع حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين، وتواطؤ قيادات فلسطينية محلية وقيادات عربية إقليمية مع المؤسسة الصهيونية. ولهذا، أدركت القيادة العسكرية الصهيونية أن سقوط المدن الفلسطينية سيكون له كبير الأثر على سير العمليات الحربية لاحقا فيما يتعلق والقرى الفلسطينية في مختلف أنحاء فلسطين. ومن جهة أخرى، كانت هذه القيادة تدرك أن المدينة الفلسطينية ليست اسما فقط، إنها مراكز قوة ونشاط اقتصادية وسياسية واجتماعي وثقافي. فعملية إبادة المدينة الفلسطينية يعني تصفية جزء هام ومركزي من الحضور العمراني الثقافي والحضاري الفلسطيني الذي شكله وبلوره أبناء الشعب الفلسطيني عبر عقود طويلة مليئة بالجهد والعرق والتضحية.

من هنا، فإن ذكرى النكبة الفلسطينية الـ 64 تحل في هذا الوقت العصيب والذي تشهد فيه الساحة الفلسطينية انقساما رهيبا، والساحة الفلسطينية في الداخل هجمات عنصرية يمينية متطرفة للغاية، وسياسات اقتلاع رهيبة تجري في النقب العربي... والساحة العربية مخاضات ثورية وثورات كرامة شعوب وتغييرات في أنظمة الحكم، إلا أن قوة الشعب العربي الفلسطيني وصموده تبقى البوصلة الأساسية لتمسكه بحق العودة أولاً وقبل أي واحدة من الثوابت الأخرى.
ذكرى النكبة في هذا العام نحو متابعة مسيرة تأكيد الحق في الأرض والوجود والبقاء ومقارعة مظاهر العنصرية والعرقية، والنضال من أجل حق المواطنة الكامل، والسير نحو إعادة بناء المجتمع الفلسطيني المتميز بقيمه وأخلاقياته وتطلعاته الانسانية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى