الأربعاء ٢ أيار (مايو) ٢٠١٢
الأسود والأحمر
بقلم أبو الخير الناصري

في «الرحلة إلى بلاد الله»

في كتاب «الرحلة إلى بلاد الله» (1) يصوغ الكاتب المغربي أحمد المديني تجربة ذهابه للحج في موسم حج سنة 1430 ه / 2009م، في نص رحلي حافل بالمشاهدات، غني بالدلالات التي تجعله مفتوحا على أكثر من قراءة.

وتتناول هذه الورقة بالدراسة ثلاثة جوانب في نص الرحلة هذا تتمثل في:

أ – عتبات الرحلة

ب- تجليات الحوارية في النص

ج – عذاب المديني في رحلته

أ - عتبات الرحلة

1- العنوان :

تجب الإشارة، أولا، إلى أن هذا الكتاب، وإن كان قد صدر تحت عنوان «الرحلة إلى بلاد الله» فإنه كان قد نشر من قبل على صفحات جريدة المساء المغربية بعنوان «الرحلة إلى الله».

ولقد فوجئت بعد صدوره بين دفتي كتاب بتغيير عنوانه، ورجحت أن هذه الصيغة الجديدة لم يقصد بها المؤلف إرضاء ذاته، بل كان يبحث عن إرضاء قرائه، لا سيما تلك الفئة التي لا بد أن تحتل الدهشة وجوهها وهي تطالع عنوانا نصه « الرحلة إلى الله »، في حين أن المعتاد والمتداول عندها أن الرحلة لا تكون إلا لزيارة مكان أو شخص من الأشخاص .. فبدافع من إرضاء المتلقي، والابتعاد عما قد يعده استفزازا، أو اجتراء على الله تعالى عدل المديني عن العنوان الأول إلى العنوان الجديد.

ومن اللافت للانتباه أن المؤلف، على الرغم من نزوعه إلى إرضاء قرائه، ظل يحن للصيغة الأولى كما يبدو في مواضع من النص. لنستمع إليه وهو يقول : «أحب أن أنبه، أولا، إلى أني أكتب هذا النص مباشرة بعد عودتي سالما مما أسميه رحلة إلى الله» (ص07)، ثم وهو يضيف بصيغة الغائب: «هل ستكون حقا هي رحلته إلى الله !؟» (ص11).

وأقدر هنا أن الصيغة الأصلية للعنوان «الرحلة إلى الله » أبلغ، وأجمل، وأوقع في نفس المتلقي، كما أن إطلاقها لا ينطوي على أي استفزاز، أو اجتراء على الله عز وجل .. اللهم إلا عند أنصاف المتعلمين، وأشباه المتدينين، فهي صيغة تجد مستندا لها في صحيح الدين الإسلامي، وحسبنا أن نقرأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ..» (2) لنرى أن النبي عليه السلام يتحدث عن الهجرة إلى الله.

وفي ضوء ذلك فإن هذه الدراسة تفضل العنوان الأصلي للرحلة، وترى أن الصيغة الجديدة "الرحلة إلى بلاد الله" قد حرمت المتلقي من عنصر الدهشة، تلك الدهشة التي تعد جسرا يعبر منه القارئ بشوق ولهفة نحو التفاعل مع نص الرحلة ومحاورته (3).

هذا، ولا ننسى أن إضافة "بلاد" في العنوان قد تدفع بعض المتلقين للاستهجان والتساؤل باستنكار : أليست كل البلاد بلاد الله؟ أليس إطلاق " بلاد الله " على مكة وحدها تفضيلا لها وانتقاصا من قدر بقية البلدان؟

لعله لمواجهة مثل هذين السؤالين ألفينا الكاتب يبين المقصود من العنوان الجديد في نبرة تكاد تكون اعتذارا فيقول : «... ربما التشوق للوصول إلى حيث ستبدأ الرحلة المنشودة إلى "بلاد الله". وبالطبع فكل البلاد له. وما النسبة إلا تخصيص مقرون بالمقدس» ( ص25)، ويؤكد في موضع آخر قائلا: «هل المنورة ربع خارج بلاد الله. كلا، لقد توافقنا من مطلع هذا السفر بان بلاد الله في كل مكان "ولله المشرق والمغرب"..» ( ص91 ).

2- الصور والألوان:

تطالعنا على واجهة الكتاب المعطيات الآتية: «أحمد المديني / الرحلة إلى بلاد الله / موسم حج سنة 1430 ه، الموافق ل 2009 م»، وتحت هذا كله ثلاث صور تحيل مباشرة إلى المملكة العربية السعودية، وتحديدا إلى بيت الله الحرام. وأسفل الصور كُتب بخط مزخرف داخل دائرة " محمد رسول الله ".

ويتضح من ربط الصور الثلاث بما فوقها أنها جاءت شارحة للمقصود ببلاد الله، مبينة أن المراد بها هو المملكة العربية السعودية، وخاصة مكة المكرمة.

وإذا نحن قارنا بين المكتوب على واجهة الكتاب من حيث الألوان لاحظنا أن عنوان العمل كتب باللون الأحمر، في حين اختير اللون الأسود لاسم المؤلف وللجملة التوضيحية تحت العنوان الرئيس. فأية دلالة للعبة الأحمر والأسود هاته؟

لكي لا نبتعد عن موضوع الكتاب نرى أن نستند في تحليل ذلك إلى الثقافة الإسلامية ما دام الكاتب مسلما وما دامت الرحلة إلى بلاد إسلامية، ففي ذلك تحقيق للقراءة السياقية للغلاف.

لئن كان اللون الأسود في واقعنا الإسلامي المعاصر يقترن بالشيعة الذين يرتدونه تعبيرا منهم عن حزنهم على مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب، فإن بعض النصوص الدينية تفيد دلالة مغايرة لهذا المعنى، ففي الحديث النبوي، مثلا، أن الكلب الأسود شيطان.

وتأسيسا على ذلك يغدو الأسود رمزا لقوة الشر في الوجود، لإبليس الذي وسوس لآدم وزوجه، فأخرجهما من الجنة، وأعلن الحرب على ذريتهما في الأرض .. فهل كان تسويد اسم المؤلف أحمد المديني إشارة إلى تلبس الشيطان به، مثلما هو متلبس بنا جميعا، حسب ما يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»؟ هل في كتابة اسم المؤلف باللون الأسود إشارة خفية لتحول المؤلف من حالة البياض والطهرانية التي ولد عليها إلى حالة غرق في الذنوب والمعاصي التي تكون سببا في أن تسود وجوه يوم القيامة؟

ليس من أهداف هذه الورقة تقديم أجوبة مباشرة بقدر ما تبتغي فتح أفق للتفكير والتحليل والتأويل.

ولننتقل، بعد اللون الأسود، إلى هذا الأحمر الذي كتب به المديني عنوان مؤلفه، أو وافق على أن يكتب به.

من المعروف في الثقافة الإسلامية، وفي الثقافة الإنسانية عامة، أن الأحمر لون الدم. وفي الدين الإسلامي يمكننا أن نستحضر قصة إبراهيم عليه السلام، وهو أبو المسلمين، عندما أقدم على ذبح ابنه إسماعيل تنفيذا للأمر الإلهي، ثم جاءت الفدية الإلهية «بكبش عظيم من الجنة فداء عنه» (4).

إن إقدام إبراهيم عليه السلام على ذبح ابنه إسماعيل يفيد معنى التضحية والتقرب إلى الله عز وجل .. وفي ذبح المسلمين للأضحيات كل عام حافز لاستحضار هذا المعنى الجليل، معنى ضرورة التضحية بالغالي والنفيس في سبيل نيل رضا الله سبحانه .. فهل كان اختيار اللون الأحمر (لون التضحية) لعنوان الكتاب رسالة مشفرة من الكاتب مفادها أن على كل من يفكر في الذهاب إلى بيت الله الحرام أن يجعل رحلته تضحية في سبيل التقرب من الله عز وجل؟ وبم يقترح المديني أن نضحي في هذه الرحلة ؟ هل يقصد المديني أن فعل الرحلة إلى الحج هو، في حد ذاته، تضحية بالمال، وبالنفس أحيانا، من أجل استعادة البياض والطهرانية المفتقدة بعد سنوات من الحياة الفاتنة الغارقة في الذنوب والشهوات ؟ هل معنى ذلك أن السبيل لدفع السواد عن أسمائنا وذواتنا، في رحلة الحج، لا يتحقق إلا لمن تمثل معنى التضحية واسترخص الغالي والنفيس؟

مرة ثانية ترفض هذه المقالة أن تجود بجواب، وتولي وجهها شطر العبارة التوضيحية الواردة تحت العنوان الرئيس (ونصها : موسم حج سنة 1430 ه، الموافق ل 2009م)، وتتساءل : أليست هذه العبارة شديدة الصلة بالحج وببلاد الله ؟ فلماذا جُعلت معطوفة على اسم المؤلف في اللون، ولم تعطف على عنوان الكتاب ؟ هل كانت للمؤلف في موسم الحج ذاك مشاهدات تنأى عن معاني التضحية والإيثار جعلته يمهرها باللون الأسود؟ ماذا رأى أحمد المديني في رحلته وماذا شاهد؟

3- الإهداء:

نقرأ في عتبة الإهداء : «إلى الدكتور خليل الخليل وإلى أصدقاء الرحلة : رجاء وأمين مكاوي، عمر حمزاوي، وعمار مع رفقة آخرين...»، وتحته صورة للمؤلف ورفاقه بلباس الإحرام كتب أسفلها " المؤلف ورفاق الرحلة لدى الوقوف بعرفة".

ولكي نتبين الأسباب التي جعلت المديني يهدي عمله لهؤلاء يكفي أن نتقدم ثلاث صفحات – بعد الإهداء – لنقرأ: «.. هو الأستاذ والشيخ الوقور، والرجل العصري، أيضا، الدكتور خليل الخليل، خريج الجامعتين المكية والأمريكية، لك أن تتخير من أفانين علمه، وبديع قوله كأنك في بستان يفحمك، منطقه، تالله قبل ذلك نطقه، متكتم متواضع، يريد أن ينصت، ولك يسمع ويحب أن يتعلم، ولقد غلبني خلقه وعلمه غلبا جميلا، فإليه كل ما سيجود به المقام» (ص09).
وبدهي أن بقية المهدى إليهم يشتركون مع الدكتور خليل الخليل في جملة من هذه الأخلاق أو بعضها، وأنهم استطاعوا أن يحتلوا مكانة في قلب الرحالة سَمَت بهم عن بقية الحجاج الذين ستطلعنا السطور القادمة على نماذج من سلوكاتهم المتنافية مع مقاصد الحج وفهم الكاتب له.

4- المقدمة:

ويسميها المديني "عتبة الرحلة "، وقد خصصها لجملة أمور، أو تنبيهات كما يسميها هو، نحب أن نلخص أهمها فيما يلي:

أولا : إثباته تاريخ تدوين الرحلة، والدافع إليه، فبين أن تدوينه لرحلته يأتي عقب عودته سالما من المملكة العربية السعودية إلى مقامه بباريس، وأنه يقدم على فعل التدوين اقتداء بما كان يفعله السابقون من الأدباء والعلماء المغاربة، يقول : «أنبه، أولا، إلى أني أكتب هذا النص مباشرة بعد عودتي سالما مما أسميه رحلة إلى الله. حرصت على ذلك جريا على سنة أسلافي المغاربة» ( ص07).

وبالنظر إلى تاريخ بدء التدوين (08 / 11 / 2009) وتاريخ الفراغ منه (23 / 12 / 2009) نستنتج أن عملية الكتابة لم تستغرق أكثر من شهر ونصف، وهي مدة قصيرة جدا في تقدير من يتعاطون الكتابة والتأليف، قد لا تكفي لتأمل التجربة المعيشة والتفكير في دلالاتها قبل تحويلها إلى تجربة مكتوبة ومقروءة.

ولم يكن هذا الأمر بمنأى عن ذهن الرحالة، وهو الكاتب المؤلف المكثر، ولذلك نراه حريصا على بيان طبيعة قوله في هذا الكتاب، يقول : «.. أرسم مشاهداتي، وأنقل أحاسيس عفو الخاطر، لم يخدشها طول تفكير، أو نزوع تأويل، أحب تقديمها على الأغلب انطباعات وارتسامات، وأحيانا في صورة مشاعر متغلغلة في صدر الإنسان » ( ص07).

وأرجح أنه لهذا السبب كانت أغلب مقاطع هذه الرحلة مشحونة بالتعبير عن أحاسيس المؤلف ومشاعره في لحظات شتى.

ثانيا: إشارته إلى التردد والحيرة التي انتابته عند تفكيره في القالب الأدبي المناسب لهذه التجربة، واعترافه بعجزه عن نقل المعيش إلى مكتوب. يقول : «أنبه، ثانيا، أنني ترددت محتارا في أي قالب أصب ما عندي وأي شكل هو أنسب لقولي، اعتبارا بأن الشكل في عرف أهل الفن، وذوي الخبرة بالكتابة الفنية يلائم، بل ينبغي أن يلائم المضمون ..» ( ص08)، ويضيف قائلا : «.. وأخيرا رأيت أن أفضل ما يحوي حلمي، ويستوعب زادي، أن أودعه القالب الرحلي» ( ص09)، ويعبر عن حالة العجز التي تلبسته إزاء تميز التجربة وخصوصيتها: «.. ثم هو أذكى وأزكى من أن تحتويه كلمات، وتنبس به شفتان، ويشف برهبته، الظاهر منها والخفي، أي بيان، فكيف يراع مجرد إنسان، ما دفعني إلى التفكير في التخلي عن هذا المرام، والاكتفاء مثل عاشق محزون لم يقدر على محبوبه إلا بالاستماتة في الهيام ..» ( ص08).

ثالثا : إبرازه لفهمه الخاص للرحلة إلى الحج، وعنده أن هذه الرحلة ليست محض انتقال بالجسم وتغيير في الأمكنة، بل هي «رحلة بحث يبغي المخلوق أن يستقصي فيها أرجاء روحه، فيما هو يتقرب إلى أجواء خالقه، بطلب الثواب، ورغبة الاستغفار، ورجاء الحظوة بأحسن لقاء ومقام ..» ( ص10 – 11).

ب - تجليات الحوارية في "الرحلة إلى بلاد الله"

يؤكد بعض الباحثين على أن الرحلة تتميز باستضافتها لأجناس تعبيرية متعددة، وهو ما يحقق لها خاصية «الحوارية بين مختلف أنساقها الخطابية المشكلة لبنيتها السردية. ومن ثم فهي ملتقى لتعدد الخطابات وبالتالي فهي توليفية [ مونتاج ] من قبَل الرحالة أثناء استعماله لمختلف الأنظمة اللغوية والتواصلية شعرا ونثرا» (5). ونمثل فيما يلي لنماذج من الخطابات المتساكنة داخل نص " الرحلة إلى بلاد الله ".

1- الخطاب الديني:

وحضوره في هذا العمل طبيعي، بل أساسي، بالنظر إلى مناسبة الرحلة الدينية، وهي أداء مناسك ركن من أركان الإسلام. ويتجلى هذا الخطاب ابتداء من الغلاف، ووصولا إلى ظهر الكتاب الحامل لصورة المؤلف في لباس الإحرام، ومرورا بنصوص ومقولات دينية تتخلل متن الكتاب، قرآنا كانت، أم حديثا، أم مقولات وأحكاما فقهية. من ذلك مثلا استحضار القرآن الكريم نصا أو اقتباسا.

فأما نصا فكقوله تعالى : «وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا» [ الإسراء / 80 ] ( الرحلة إلى بلاد الله ص 32)، وقوله سبحانه: «رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين » [ المومنون / 29 ] ( الرحلة ص 32).

وأما اقتباسا فكقول المؤلف : «أهمس في خاطري يا هذا امتثل واخشع، وإلى ربك الرجعى» ( ص22)، ففيه إشارة إلى قوله سبحانه : «إن إلى ربك الرجعى» [ العلق / 08 ]، وكقوله أيضا : «.. فضلا عن غيرهم ممن حفلت بهم البانوراما المذهلة لأفواج الحجيج، القادمين، كما يقال، وبالفعل من كل فج عميق» (ص08)، ففيه اقتباس من قوله سبحانه : «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق» [ الحج / 27 ] ...

2- الخطاب الشعري:

وقد أشار الدكتور عبد الرحيم مودن إلى أن من وظائف الشعر في الرحلة «إمكاناته التعبيرية في التخفيف عن الرحالة أثناء معاناته وبعده عن الأهل والبلاد» (6).

ولهذه الغاية الوجدانية وجدنا المديني يتحول عن النثر إلى الشعر في مواضع من رحلته. ويأتي هذا التحول على مستويين: إما بإيراد شعر من نظمه، أو باستحضار أشعار غيره من الشعراء.
فأما شعره فنمثل له بمقطع من قصيدة استوحاها من عبوره – على قدميه – للنفق الموصل مباشرة إلى الحرم، يقول:

ها أنذا أطوي الخطوة تلو الخطوة خلفي، أتقدم
ذا نهر يجري من قدمي يسري
النبع أمامي، والنفق رحمٌ، فمٌ يتكلم،
أصواتهم، هي الخليقة اجتمعت هنا، السند والهند، العرب والعجم
لا إله إلا الله، والتلبية تدمدم ... (ص 66 - 67 )

وأما استحضار أشعار الغير فكإيراده أبياتا من شعر امرئ القيس (ص 84 - 85)، وكقوله في أحد المواضع: « برومانسيتي الطافحة آنئذ لم أكن أرى إلا الجمال، أو حروفه، عين الرضا عندي عن كل عيب كليلة..» ( ص37)، ففيه إشارة إلى قول الشاعر:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا

3- خطاب السيرة الذاتية:

وهو الخطاب المهيمن في النص باعتبار الرحلة، في البدء والمنتهى، تجربة ذاتية للكاتب. ويستند هذا الخطاب عند المديني إلى ضمير المفرد المتكلم أساسا.. ونمثل له ببعض الاستطرادات على هامش الرحلة.

من ذلك، مثلا، سرد المؤلف لتفاصيل الخلاف الذي نشب بينه وبين صاحب بقالة قريبة من مسكنه، اعتاد التبضع لديه، وكان صاحب البقالة في كل مرة ينادي المديني بلقب "الحاج"، وذلك ما جعله يغضب، وينقطع عن المحل التجاري وينفر من صاحبه (ص 15 - 16)، وكان ذلك قبل ذهابه إلى الحج بمدة.

ومن أمثلته أيضا حديثه عن علاقته بأم كلثوم أيام شبابه، حينما كان يهيم بأغنياتها، ويعجز عن فهم سر طرب أبيه لأغنيتها الدينية التي تقول فيها " إلى عرفات الله يا خير زائر .." (ص57)...

4- خطاب الحكاية:

وهو خطاب يلجأ إليه الكات

ب لما فيه من تشويق للمتلقي وشده إلى عالم النص. ومن نماذجه في الرحلة ما يحكيه المؤلف من أمر المواطنين المصريين اللذين احتجزتهما السلطات السعودية «لما لاحظته من تعاط مفرط في حماسهما، ولما عرضتهما على جهة طبية مختصة سجلت أن بهما أعراضا هستيرية، خاصة أن الشخصين كانا لا يكفان يصرخان ويأتيان حركات مثيرة ابتهاجا لوصولهما إلى المدينة..» ( ص 50).

ويورد الكاتب هذه الحكاية للتأكيد على ضرورة الاعتدال حتى في المشاعر والأحاسيس، لأن الغلو فيها قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، وهذا ما يفهم من سياق إيراد الحكاية، حيث إنها مسبوقة بقول المؤلف : «. وما أكثر الذين يموتون، إما جاء أجلهم، أو تزهق أرواحهم دوسا وإنهاكا وخشوعا، ولا أستبعد تسليما، وهو ما يقودني إلى سرد هذه الحكاية الطريفة والمحزنة في آن» ( ص50 -51).

وإذا كانت "الرحلة إلى بلاد الله" تشترك مع غيرها من الرحلات في خاصية الحوارية هاته، اعتبارا لكون الرحلة نصا مفتوحا يستضيف في رحابه مختلف الأصوات واللغات والأجناس التعبيرية، فإن هذه المقالة ترى أن لجوء المديني للاستعانة بأنماط الخطاب المختلف يجد تفسيره الآخر في طبيعة التجربة الروحية التي عاشها الرحالة، والتي يعجز الجنس التعبيري الواحد عن استيعابها منفردا. وحسبنا للاستدلال على هذا الرأي أن نذكر بوصف المؤلف لما شاهده وعاينه بأنه « الواقع يبز الخيال» (ص08)، وقوله عن موسم الحج إنه « يفوق بأقوامه ومناسكه وظروفه وسلوك ومعتقدات حشوده، وطوارئه، كل توقع وتصور، مما يخطر ولا يخطر على قلب بشر» ( ص08)، ولعله لهذا السبب فكر الكاتب مرات عددة في التخلي عن فكرة تدوين رحلته لوعيه النقدي - وهو ناقد أدبي – بصعوبة نقل التجربة الروحية إلى عبارات وصفحات .. فكان هذا الاستناد إلى أجناس وخطابات مختلفة بحثا من المؤلف عن إمكانات ووسائل تعبيرية قد تسعف في تحقيق مراده وإشراكنا، نحن القراء، في تجربته.

ج - عذاب المديني في رحلته

إن القارئ لكتاب "الرحلة إلى بلاد الله" لا يخطئ أبدا هذا العذاب الذي يستبد بنفس الرحالة في أغلب المواقف والمشاهدات، وذاك ما يدفع للبحث عن أسباب عذاب الكاتب في هذه الرحلة التي من مقاصدها الكبرى أن يتخلص الحاج من عذاباته ويتطهر من ذنوبه، ليعود كما ولدته أمه بلا ذنب كما هي البشرى النبوية لكل من «حج لله فلم يرفث ولم يفسق».
ومن خلال قراءة متأنية لمتن الرحلة يمكننا الوقوف على جملة المعاينات والسلوكات التي أشعلت جمرة العذاب في نفس أحمد المديني في أثناء رحلته إلى الله.

من أبرز تلك المشاهدات المشعرة بالضيق والتأفف مشهد الكعبة وهي محاطة ببنايات عدة. يقول : «.. تأففت للحصار الذي تضربه العمارات البرجية حول الكعبة بصلف معمارها المتطاول الفج» (ص81).
ومما تضيق به نفس المديني – في رحلته – بعض أشكال التدين المغشوش، كشأن «فقيه النيل المغشوش» ( ص92) الذي لم يكتف بأن سددت الجهات الرسمية في السعودية نفقات حجه كاملة، لأنه كان في ضيافة أميرية هو والمديني وغيرهما، بل زاد على ذلك قائلا : «على مضيفينا ونحن في نهاية الإقامة تقديم هدية مناسبة» ( ص 92 - 93).

وتضيق هذه النفس أيضا بتفنن بعض الحجاج، رجالا ونساء، في تغيير ملابسهم مع أنهم «لم يأتوا هنا لمعرض أزياء» ( ص64).

ويعذب الكاتب أيضا أن يرى حالات من الإغراق في الأكل ( ص 52-53 / ص 59-60)، وانتفاء عنصر النظافة «رغم كل جهود عمال النظافة، والتنبيه إلى أصول الوفادة» ( ص50)، إضافة إلى انتشار أشكال من التدافع والتنابذ بين الحجاج (ص 67- 68) دفعته للإفصاح عن إعجابه بالأتراك من حيث السلوك والانضباط والتنظيم، وهو إفصاح منه يخفي أحد طرفي المقارنة المتمثل في العرب الذين شملهم، على امتداد الرحلة، نقدٌ منهُ لكثير من تصرفاتهم الهجينة في موسم الحج.

ولسائل أن يسأل هنا : لماذا ركز المديني على هذه المشاهد التي تبعث الحسرة والحزن في نفسه وفي نفس كل محب للإسلام؟ لماذا لم ينشغل بنفسه عن غيره ؟ ما الذي دعاه ل "التجسس " على الآخرين والإخبار عنهم؟

إن الجواب عن هذه الأسئلة المشروعة من وجوه مختلفة :

 أولها أن رصد السلبيات يدخل في صميم وظيفة الكاتب المؤمن بقدرة الكلمات على تغيير شيء في هذا العالم. ولقد كان المديني على وعي عميق بهذا الأمر، فعبر عنه صراحة إذ قال مخاطبا قراءه: «وإذا بدا لكم أني أتجسس فلا أكتمكم أن الكاتب جاسوس» ( ص 55).

 ثانيها أن ما حفلت به الرحلة من نقد يرجع لطبيعة فهم المديني للحج بوصفه رحلة روحية يفترض أن يتخفف فيها المرء من أمور الدنيا وشواغلها .. هي رحلة تستلزم البساطة في تصور المؤلف، تلك البساطة التي لا يمكن أن يستشعر حلاوتها "حجاج من فئة خمسة نجوم " كما عنون الكاتب إحدى فقرات رحلته (ص52)، ولذلك فلا غرابة أن نجد المديني بعد سبع وستين صفحة يذكر، في مشهد نادر، فرحته الأولى في موسم الحج ذاك قائلا : «.. وعدت إلى منى برفقة حاج بنغلاديشي مدقع طول عبورنا للنفق عائدين إلى منى، كل إلى قصده، وهو يدندن: جمرات.. جمرات، فغبطته على سعادته البسيطة، وفرحت للمرة الأولى أني هنا. بدت فرحة طاغية وأنا أعود إلى "مجر الكبش" أجد القوم عاكفين على الصحون» ( ص68).

 ثالثها أن إبراز تلكم المشاهدات لهو طريقة من طرق البكاء لغياب مقاصد الحج في سلوكات بعض الحجاج.

أخيرا، وعودا على ما ذكر في مطلع هذه المقالة عن معنى التضحية أقول: لقد رأى المدينى، وهو في "بلاد الله "، أن كثيرا من المسلمين لم يقدروا، وهم في ضيافة الرحمن، على ذبح نفوسهم الأمارة بالانشغال بتوافه الحياة الدنيا، فكيف بالسمو إلى مقام إبراهيم عليه السلام الذي «امتثل أمر ربه وقدم محبته على محبة ولده» (7).. إنهم لا يقدرون على القطع مع ما يبعدهم عن حالة الصفاء والخشوع والطهرانية المرجوة في الحج، وذاك ما عذب الكاتب وهو ينظر إلى هذه المفارقة الصارخة، مفارقة التعلق بمتطلبات الجسد في رحلة روحية!!

الإحالات

(1) صدر عن منشورات فكر ومنشورات أحمد المديني، مطبعة المعاريف الجديدة، الرباط، 2010.

(2) تقي الدين محمد بن علي بن وهب المعروف بابن دقيق العيد: شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط الثانية، 1426 ه/ 2005م.

(3) في إطار المقارنة بين تأثيري العنوانين تعمدت أن أذكر لأحد الأصدقاء أن للمديني كتابا بعنوان "الرحلة إلى الله"، فرأيت الدهشة على وجهه من أثر العنوان، ورد قائلا "إلى الله !؟"، ثم ذكرت لآخرين العنوان الآخر " الرحلة إلى بلاد الله " فلم أجد لديهم أي انفعال عند سماعه.

(4) محمد علي الصابوني : صفوة التفاسير، ، طبعة دار الفكر، بيروت، لبنان (د.ت)، الجزء الثالث، ص 41

(5) عبد الرحيم مودن : أدبية الرحلة، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط01، 1417ه / 1996م، ص 10 – 11.

(6) نفسه، ص 11.

(7) محمد علي الصابوني، مرجع مذكور، ج 03، ص 40.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى