الثلاثاء ٨ أيار (مايو) ٢٠١٢
بقلم حميد طولست

العاهرة مواطنة لا يجب احتقارها...

كثيرة هي المعايير التي يعتمدها علم الاجتماع في التعرف على الموقع الذي تحتله المرأة في أي من المجتمعات البشرية، والذي من خلاله يمكن التعرف على واقع ومستوى تلك المجتمعات، ومن أهمها والتي تعتبر المحكات المركزية لاختبار موقع المرأة ومكانتها ووضعيتها في مجتمع ما، هي تلك التي لاتقف عند حدود سن القوانين الكابحة التي تنتجها النظرة الدونية كثقافة متخلفة يصرفها كل حسب المجازات التي تخدم ايديولوجيته العقائدية وتكسبها قدسية إلهية أو سياسية، وتتحكم في الحريات وتحاصرها باللاممكن، أو بالممكن الصعب حد الإحباط والجزع والفشل وقهر مهمة العقل الأولى -التي لا تقهر بأي حال لكونها من فطرة الخلق التي تدير الغرائز وتلبيتها بشكل جيد دون هتك أو كبح- التي هي في كل أطوارها ثقافة غير سوية، لإن كل أسلوب يتعارض مع الحريات الفردية والجماعية وحقوق الإنسان, ويعاكس العدالة والتنمية في مؤداها العام والشامل, يعد صاعقا وقنبلة موقوتة لابد أن تنفجر قلاقل وعصيانا وثورات.

وعلى الرغم من أن الخوض في تحليل مثل هذه المواضيع ليس بالمهمة السهلة، لأسباب عديدة ومتنوعة، منها على الخصوص ندرة، بل وغياب شبه كلي للوثائق المتعلقة مباشرة بها، فإنه لا مفر من الوقوف طويلا عندها، عبر كل وسائل الإعلام المرئى والمسموع والإليكترونى وأصوات المنظمات الحقوقية، ولو لغاية إدماج القارئ في خطورة "البغاء " -التي ينضم إلى سوقها في كل عام أربعة ملايين امرأة ومراهق ازدادت فتضاعفت بستة مرات عما كانت عليه، في العشرين عاما الأخيرة وفقا لإحصاءات الأمم المتحدة- أي تجارة الجنس التي تشكل قسما من التاريخ المكبوت في النسيان الجمعيوي في البلاد العربية والإسلامية، لكل ما يتطلبه النهوض بوضعية المرأة على العموم، من تغيير للمنظومة الاقتصادية والاجتماعية القائمة، والذي لا يعرف طريقه لجداول أعمال الإصلاحات المطلوبة لإنقاد هذه فئة المعانية من سلعية المرأة المستعبدة (الأمَة) الذي يقره منطق الاقتصاد السياسي للإماء، باعتبارها في الخارطة المجتمعية البطركية داخل وخارج المنزل، في منزلة سائر الأموال من الأرض والخيل والدواب، التي يتم إدماجها وتناولها وتبادلها وتناقلها قسرا وبشكل واسع كمصادر إنتاج أو شعيرة من شعائر الدين لإرضاء الآلهة والتقرب إليهم، والتي كانت مقبولة في التشريعات السائدة في الإمبراطوريات قبل الغربية والتي كان يطلق عليه اسم: " البغاء الديني " أو " البغاء المقدس" والذي عثر الباحثون على عدة مظاهر وآثار ممارسته في الأديرة والمعابد كطقس ديني عند الكثير من الشعوب البدائية والمتحضرة، وإن كان انتشاره عند الشعوب المتحضرة أوسع من انتشاره عند البدائيين..

فمحاربة الدعارة كآفة اجتماعية سلبية لما لها من الآثار الضارة على البنية المجتمعية وتماسك شرائحها وطبقاتها، بادرة محمودة وتستحق من كل إنسان يعتز بإنسانيته النبيلة وأخلاق مجتمعه الأصيلة الحميدة، أن لا يقف منها موقف المتفرج، بل يجب التصدي لها قدر الإمكان إمتثالا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه..." لكن شريطة أن يتم كل ذلك ضمن دولة الحق والقانون، إذ فلا بأس من أن تُرفع شعارات العفة والتمجيد لتراثنا وثقافتنا -التي هي افضل حالا من بعض المجتمعات المنحلة- ولا بأس كذلك من تجريب كل الوساءل لنشرها بمحاربة الدعارة، دون ان يتحول ذلك الى نوع من قانون الغاب، على حد تعبير الكثير من الحقوقيين وعامة المواطنين الذين يتوجسون من ان تنصب أي جهة أو جماعة نفسها وصية على مواطنات بريآت تهددهم أو تنزاح إلى تصفية بعض الحسابات السياسية..

فمحاربة الدعارة لا يعني محاربة الداعرات ولا احتقارهن لأن اغلبهن ضحايا لظروف خاصة تحتاج إلى التفكير في تفعيل آليات البحث عن حلول انتشالهن من مستنقع عالم الدعارة، عوض الاعتداء عليهن واحتقارهن وسبهن, والوقوف على جذور المآسى التي تمنع تحقيق كرامتهن بعيدا عن كل خلفيات حركات التلميع والتنظيف الاجتماعي والسياسي في جميع خطوطه التي تمتد طولا وعرضا في زمن أخطائنا وانشقاقاتنا وتصدعاتنا الباذخة التي لا تنفع معها سبل التورية والإخفاء ولا تجدي إلا في فضح إفلاس المجتمع وخطاباته الوردية حول حقوق النساء اللائي ننسى منهن- نسيانا منظما بمهارةٍ وتضطلع به مجموع العناصر النشيطة التي تؤثر في تكوين الذاكرة الجماعية- تلك العينة المقهورة التي تخلت مرغمة عن كرامتها بامتهانها أقدم فعل إنساني الأكثر بعداً عن مقومات الشرف والفضيلة، والأكثر مجافاة لمناهج الاجتماع الإنساني السليم، إذ نجد الواحدة منهن تعيل نفسها وربما أسرتها بأنوثتها، أي اعتمادا على جسدها فى مرحلة إقبال الرجال على نضارة جسمها، تم تتحولن المسكينة بعد ذبوله إلى"قوادة" إما في الحانات والكبريهات وفي النهاية تلفظ إلى الشارع.. فما يدعوا للغرابة، هو أن جل تلك الجماعات التي تروع بعض المواطنات في كثير من مناطق المغرب، وفي بعض من بلاد المسلمين، تدعي لفعلها ذاك أنه معبر عن الدين ومترجم لزبدة أفكاره وجواهر معانيه، وأنه نابع من صفة الإيمان بالله، وكأنه لم يوصينا جلّ إسمه إلا بتعنيف بعضنا بدل محبة وأحترام خلق الله جميعهم، الشيء الذي يخالف سماحة الإسلامي، ويعد خرقا لتعاليمه التي تحاول جماعات الضلال والباطل تلك أن تكُمُّ به أفواه الناطقين بالحق والحجّة، بما يستطيعون من تخويف وتسويل، وترهيب وترغيب، ولا يَدعون النّاس يتجادلون بالحجة ويتراجعون بالأدلّة، حتى يفرضوا صفة الشرعية الدينية على تصرفاتهم وأفعالهم الهوجاء التي لم يشرعها الإسلام، ولم يطلب من أحد فعلها لأنها منافية لسماحته، ولأنهم، كما يقول الطّاهر بن عاشور رحمه الله في "التحرير والتنوير24/277: "هذا من شأن دعاة... يوقنون أنّ حجّة خصومهم أنهَضُ ، فهم يسترونها ويدافعونها لا بمثلها ولكن بأساليب من البهتان والتضليل ، فإذا أعيتهم الحِيَل ورأوا بوارق الحقّ تخفق خَشُوا أن يعُمَّ نورُها الناسَ الذين فيهم بقية من خير ورشد عدلوا إلى لغو الكلام ونفخوا في أبواق اللغو والجعجعة لعلهم يغلبون بذلك على حجج الحق ويغمرون الكلام القول الصالح باللغو، وكذلك شأن هؤلاء"..

فهل يمكننا، في هذه الحالة المعقدة والمرتبكة، أن نطعن في الإسلام كدين، أم نطعن في من يمارسونه وينفذون تعاليمه بطرق عير صحيحة ودون فهم؟، أكيد أنه علينا أن نطعن في من يصور للناس أنه المترجم الحقيقي لنظريات الإسلام وشرائعه، والمتحدث باسمه وحده، فما كان خير مترجم لشرائعه، ولم يحسن التحدث باسم الله، لأنه بكل بساطة ليس كل مسلم يمثل الإسلام، وليس كل مسلم يعكس حقيقة الإسلام، وتبقى شريعة الإسلام جامدة مالم يطبقها المسلم على حقيقتها، وما لم يمثلها خير تمثيل.. لأن الإسلام كمنطوق فكري حضاري إنساني مؤثر في بناء الحياة البشرية، هو الموجود على الرفوف والمعتق في أمهات الكتب العربية الإسلامية في مكتبات التراث الإسلامي الكبرى، وهو بعيد كل البعد عما تفعله الكثير من هذه الجماعات المتطرفة، التي تبقى جوهر تصرفاتها، سلوكات هجينة لم ولن تؤتي بنتائج ناجعة وحاسمة مهما حاول أصحابها تبريرها - لإراحة ضمائرهم وحتى يرفع عن كواهلهم التأنيب، كما يقال- لأن العلاقات الإنسانية والإجتماعية لا يكتب لها الدوام والرسوخ من خلال القرارات الفوضوية العنيفة غير العادلة، كما حدث قبل أسابيع، في عين اللوح وافران وسيدي حرازم وخنيفرة، وغيرها من المناطق التي تشيع فيها الظاهرة/الآفة التي لن تنجح مساعيها إلا عن طريق البحث الجاد والممنهج عن والسائل الناجعة للقضاء على مسبباتها ودوافعها والحد من تداعياتها وإفرازاتها المخربة للمجتمعات والمفككة لأواصر الأسر، الودية والروحية والدينية والإنسانية، وقيادتها إلى انزلاقات اخلاقية مشينة تعريها من كافة القيم والأخلاقيات النبيلة، وتسقطها إلى الدرك الأسفل من الانحطاط الإنساني والاجتماعي والديني.

فبدل الخوض فى السجالات الايديولوجية، والجدالات السياسية حول المساواة والمناصفة بين المرأة والرجل، علينا أن نسعى جميعا إلى هدف لا يمكن الاختلاف حوله وهو العمل على تحقيق كرامة المرأة في بعدها الاجتماعي الذي لم تضف إليه أو تعدل منه ثورات الربيع العربى شيئا، ولم تغير من بنية الأنظمة المهيمنة التي مازالت محتفظة بنهج ثقافتها القديمة الذي لم يمسها أي تغيير ولا زالت ترزح تحت هيمنة قوى متخلفة ترسخ دونية المرأة، وتختصر وجودها في جسد مخصص للمتعة بالطرق الشرعية أوغير الشرعية كالدعارة التي هي أشد النظم الاجتماعية فساداً، وأبعدها عن مقومات الشرف والفضيلة، وأكثرها مجافاة لمناهج الاجتماع الانساني السليم، وأدناها إلى الحيوانية الوضيعة، وأدعاها إلى إشاعة الفوضى وانتشار الفجور، وانقاذ المرأة من نظام خدمة جنسية مدفوعة الثمن يعد بحق وصمة عار في تاريخ بني الانسان، واحتقارا للكائن الإنساني الذي تتحول سلامته النفسية والجسدية إلى مادة عرض وطلب كأي بضاعة؛ وذلك لأن تلك الثورات لم تزد على كونها إنتفاضات قوية حطمت رموز أنظمة ديناصروية فاسدة بلغت مصيرها المحتوم بعد أن إنتهى زمنها الإفتراضي وبقيت جل الشعوب العربية والإسلامية، محتفظة بنهج ثقافتها القديمة، في التعامل مع الظاهرة، لا تريد مبارحتها رغم ما لها من نواقص مؤثرة في هذه الشريحة المقهورة المعانية من الإستغلال الجنسي الذي هو من دون شك نتيجة لأنظمة عديدة يغيب فيها العدل وينتشر بها العوز والعنف الذي يساهم في الإيقاع بضحايا أبرياء في فخّ الدعارة والإتجار بجسدهن، هن في أكثر حالاتهن يطلبن النجدة للتحرر من هذه العبودية، لأنهن ما كن يرضين بيع أجسادهن في الشوارع مهما كان الثمن لو خيرن أو كن في ظروف طبيعية، فحديث الكثير منهن والذي لا يخلو من حسرة، ومرارة وندم على السير في طريق الخطيئة، يؤكد وبصدق على أن الظروف هي التي تتحكم في الإنسان، وتجبره على السير في طريق هو نفسه غير راض عنه، لكن لا مفر منه لأنه الوسيلة الوحيدة للتخلص من الوضعية المزرية المفروضة عليهن عنوة، في الوقت الذي يمكن لأي متتبع، ملاحظ أن الكثير من الشعوب قد تجاوزت ذلك النهج القديم في التعامل مع كل قضايا المرأة -حتى البغاء منها- بالتعديل والتطوير كنتيجة حتمية لصيرورة الزمن والتطور، إلى درجة أن بعضها -مع تناوب الحضارات وتعاقب الأزمنة- جعلت منه مهنة مقننة ومعترف بها لدى المؤسسات الوسمية الحاكمة، كما هو الشأن بالنسبة لكثير من دول الغرب التي رقنته على بطاقة تعريف صاحبتها تدفع عنها رسوما وضرائب تستفيد منها الدولة مقابل قوانين تحميها، وذلك لأن حظ المرأة الغربية طيب فى تواجد ثقافة وعلاقات إنتاجية متطورة أصبح لها أصول وجذور تجاوزت ثقافة اوربا القديمة لتمنحها مدارات وفضاءات أكبر لتدعيم حريتها وكرامتها، بينما تبقى مآساة المرأة العربية بسبب جمود المنظومة الثقافية العربية بكل مفرداتها من تراث وعادات وتقاليد مازالت تنتهج منهجية القبيلة والعشائرية وكبير العائلة لتشل أوصال المجتمع حتى ولو إكتست طبيعة حياة بمظاهر عصرية، وهذا لا يعني أنني لا ادعو إلى قبول شيوع البغاء كمهنة معترف بها في البلاد على غرار ما هو موجود في الغرب، لأنه ليس بالضرورة أن كل ما تعانيه، أو تحلم به وتسعى المرأة الأوروبية، أو الأميركية، أو سواهما إلى تحقيقه من أهداف، يمكن أن ينطبق بحذافيره على المرأة العربية في العالم العربي.

وفي ختام هذه المقالة استسمح السيد عبد الرحمان، الأستاذ الباحث في علم الإجتماع باقتباس جزء مما جاء في مقالته "سؤال الدعارة الرخيصة..تراجيديا الأجساد المتهدلة " والذي يقول فيه: "كم هو صعب هذا الذي نروم كشفه, كم هو قاس ومؤلم هذا الأخذوذ الذي سنهوي إليها جراح واقع بئيس ترفض الاندمال, ودموع مالحة تهتاج من مقل مدن وقرى غاب عنها التخطيط وهرب عنها الماء والكهرباء وأدنى شروط العيش الكريم.. فقر وفاقة وضياع باذخ يدثر المكان.. وأجساد متهدلة من بندول الزمن الرديء."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى