الثلاثاء ١٥ أيار (مايو) ٢٠١٢
بقلم عواطف البوغبيش

الحکمة ومصادرها في العصر العباسی

إعداد:عواطف البوغبیش، جامعة آزاد الاسلامية، فرع شادگان، شادگان، إیران

المقدمة:
لقد عرف العصر العباسي بعصرالإنفتاح والتجدد، واندماج الثقافات الدخیلة بالثقافة العربیة، وقد أخذ العرب الکثیر من تلك الثقافات فی الکثیر من المجالات، أدبیّة، حکمیّة، وعلمیّة،وماشابه ذلك. وتحدث المجتمع العباسي بما فیهم الشعراء بتلك الحکم والأقوال المأثورة، وأدخلوها في طیّات أبیاتهم الشعریّة، فقد أخذوا من الحکمة الیونانیة والحکمة الفارسیة والهندیة و...علماً بأنّ العدید من الشعراء کانوا من أصول غیر عربیّة، وهولاء الشعراء أدخلوا ثقافتهم غير العربية بالثقافة العربیة، ولربّما تقبّلها المجتمع العباسي،وأیضاً رأینا من خلال الدراسة بأنّ شعراء العرب أنفسهم أتوا بمضامین ما أخذوا من الثقافات الأخری في أشعارهم.

تحاول هذه المقالة دراسةالحکمة ومصادرها فی العصرالعباسي،فقبل الدخول في صلب المقال درست المدلول اللفظي والاصطلاحی لکلمة الحکمة، وبعد ذلك أتیت بأنواعها مع تعریف مبسط،ومن ثمّ تطرقت الی مصادر الحکمة في العصرالعباسي.

المد ول اللّفظي والإصطلاحي لکلمة الحکمة:لاشك أنَّ كلمة َ «الحِكمة» لها معانٍ كثيرة، وحسب الاستعمال يكون المعنی وارداً في الكلام أوالجملة. نأتي في البداية بمعنیً لغوي، ثمَّ اصطلاحي. مما ذكر في مختلف المعاجم اللغوية حول «الحكمة»، أولاً: جاء في لسان العرب: «الحِكمَةُ: هي عبارةٌ عن معرفة أفضل الأشياء بأفضلِ العلوم». [1]

جاء في المُنجِد:« الحِكمَة: جمع حِكَم، الكلام الموافق الحقّ، الفلسفة، صواب الأمر وسداده، العدل، العلم، الحلم». [2].

جاء في المعجم الوسيط: « الحِكمَةُ: معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، والكلام الذَّي يَقِلُّ لَفظُه ويَحِلُّ معناه».( أنیس، إبراهيم وآخرون، لاتا، مادة «حَ كَ م»). جاء في مفردات القرآن الكريم: «الحِكمَةُ: عبارةٌ عن معرفة أعيان المجودات علی ما هي عليها». [3]

والحُكمُ أعمُّ من الحِكمَةِ، الحكمة حكمٌ، وليس كل حُكمٍ حِكمَةً، فإنَّ الحُكم أن يُقضی بشئٍ علی شئ. وقال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم):«إنَّ من الشعرِ لَحِكمَةٌ». [4]

وجاء في مُنجدِ الطلاب: « الحِكمَةُ: العدل والحِلم وقول الحق المطلوب، والحِكمَةُ: الفلسفة». [5].

كما جاء في «صوان الحِكمَةُ»: « الحِكمَةُ: هي عِلم حقائق الأشياء، الموجودة بحالٍ واحدة أبداً». [6]

أما الحِكمَة في المصطلح، فهي: «كل ما يهدي إلی الخير في العقيدة والسلوك، فهوحكمة». [7] الحكمة هي التي تهدي الإنسان من الظلمات إلی النور، والحِكمَة، هي التجربة الذاتيّة المكتسبة مِن فعلٍ أورأي. ومن طبيعة الحِكمَة أنها تنتشر بين الآخرين للانتفاع بها، والحِكمَة تَنبذُ الرذائل وتَحُثُ على المكارم والمحاسن. قال تعالی: «يؤتِي الحِكمَةَ مَنْ يشاء» [8] تنبيهاً علی أن الله يُعطي الحِكمَة لمن يَستحقها ويضع كلَّ شئٍ في مكانه، كما قال عزَّوجلّ: «ولَقَد آتَينَا لُقمان الحِكمَة». [9] . ومما قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عن الحِكمَة: «خُذوا الحِكمَة ولومِنْ ألسنةِ المشرِكين». [10]

انواع الحكمة:
_ تنقسم الحِكمَة إلی نوعین:«حكمة نظريّة» و« حكمة عمليّة»، وفیما یلي نأتي بما ورد من تعاریف لهاتین الحکمتین:

الحكمة العمليّة: هي التَعرُّف إلی أفعال البشر الاختيارية، كيف وبأي طريقة يَتم التعرُّفُ إليها، الحسنة والمطلوبة منها، والرديئة المذمومة. والحكمة العملية هي العلم بما يؤدي إلی إصلاح المعاش والمعاد والعمل به، ومعرفة الأمور التي لها مساس مباشر بالعمل كالطب والحساب والهندسة، وتنشعب الحِكمَة العملية، إلی الأخلاق، وتدبير المنزل، وسياسة المدن. [11]

الحكمة النظرية: وأما الحِكمَة النظرية، فهي العلم بحالات الأشياء كما هي أوكما سوف تكون، هذه الحِكمَة يكسبها الفرد عن طريق الفكر والدراسة والتحقيق، مثل معرفة حالات الأجسام ومعرفة النّجوم وأماكنها. والحِكمَة النظريّة، المقصود منها ما حصل بالنظر. الحِكمَة النظرية تَتحدثُ عن الوجود وما هوكائن، بينما تتحدث الحِكمَة العملية عما يجب وعما ينبغي. ومسائلها من نوع الجمل الخبرية . [12]

وقال صاحب «موسوعة الأمثال»: الحِكمَة قسمان:

القسم الأول: الحِكَمُ القوليّة، وهي كُلها محمودة من حيث ذاتها، وأن تكون الحِكمَة في نفس الأمر.

القسم الثاني: «في الحكم الفعليّة بناءً علی إطلاق الحِكمَة عليها كما مّر». [13]

وقد أعطيت للحِكمَة قيمة ومقام خاص من قِبَل الشعراء، ولذلك نری في العصر العباسي الحِكمَة تأتي في قصيدة مضمونها حِكَمي. أما الوضع في العصر الجاهلي فكان يختلف، حيث كانت الحكمة أبياتاً متناثرة ترد في بعض القصائد، كما قال زهير بن أبي سلم [14]

ومَن يجعلِ المعروفَ في غيرِ أهلِهِ
يكـُـنْ حـمـُده ذَمـاً عـلـيـه ويَـنـدَم

وقال بعض الحكماء: « الحِكمَة موقظةٌ للقلوب من سِنَة الغفلة، ومُنقذِةٌ للبصائر من سكرةِ الحيرة، ومحييةٌ لها من موتِ الجهالة، ومستخرجة لها من ضيقِ الضّلالة.

والعلمُ دواءٌ للقلوب العليلة، ومُشِحذ للأذهان الكليلة، ونورٌ في ظلمة.» [15]

«تُطلَق الحِكمَة علی معانٍ منها العلم بالله وصفاته ومنها وضع الشيء في محله ومنها الكلمة الواعظة، ومنها طاعة الله». [16]

«الحكمة وليدة العقل الثاقب تصقلها التجربة ويبلورها العمر المديد. فإن أتی صاحبها فصاحة لسان وحضور منطق ودَمغة حجة، جاء منها بالبين الُمعجز والجامع الموجز.». [17]

«تطلق الحِكمَة علی معانٍ: منها المصلحة ومنها الموعظة ومنها العلم والفهم ومنها النبوة. وقيل الحِكمَة، هي علم الفقه، والعلوم الدينيّة، وهي طاعة الله فقط». [18]

والحِكمَة هي الفهم والعمل الجيِّد والقول الحسن وكلُ فِعلٍ يصدر من الإنسان باستثناء القبيح، فالحكيم الشخص الذي يُحكم ويُتقن عمله وقوله بالصواب والعقل. والحِكمَة لا تختص بالأنبياء والأولياء، والفلاسفة والعلماء، فكل إنسان إذا أحكم وأتقن عمله فهورجلٌ حكيم، وقد سمّی «الأعشی القصيدة المحكمة حكيمة» فقال: [19].

وغَريبةٍ، تأتي المُلوك حكيمةٍ
قد قُلتُها ليقال: مَنْ ذا قـالـهـا؟

وقال النَّمرُ بن تَولَب: [20]

أحـبـب حـبـيبـَك حـُبـاً رويـدا
فـقـد لا يـعـولـك أن تـصـرمـا
وأبغضْ بَغيضكَ بُغضاً رويداً
إذا أنـت حَـاولـت أن تـحـكـمـا

والحِكمَة هي من العلوم العقلية، كما قال أبن خلدون: «وأما العلوم العقليّة التي هي طبيعّية للإنسان من حيث ذوفكرٍ فهي (الحِكمَة) غير مختصةٍ بِملة بل بوجه النّظر فيها إلی أهل الملل كُلّهُم، ويستوون في مداركها ومباحثها، وهي موجودة في الإنسان، تسمی هذه العلوم: الفلسفة والحِكمَة». [21]

يقول الدكتور بلاشير:«كلمة الحِكمَة و(الجمع حِكَمْ) فأقل وضوحاً، ويخيل إلينا أنه كان لهذه الكلمة معنی؛ القول المأثور والحِكمَة المثاليّة، والظاهر أن الحكمة تحمل أكثر من المثل، وأشعار «لافونتينLafontaine » التي أصبحت فيما بعد أمثالاً وحِكماً في قالب شعري». [22]

«الحكمة العدل، ورجل حَكيمٌ: أحكم الأمر وأتقنه، وأحكمتهُ التجارب علی المثل». [23]

«وقيل للحكيم صاحب الحكمة وهوالذي حكمته الحقيقة» . [24] الحكمة هي خلاصة تجربة الشخص، وعلی نطاق أوسع، هي تمثل ثقافة المجتمع وفكره. وتوجد عدة طرق يستمد الإنسان منها حكمته مثل الحكم والأمثال والقصص والحكايات. والأهم منها التجربة الذاتيّة للشخص. فعن الحكمة قال الشاعر القروي: [25]

أشبع العقلَ حكمةً واختبارا
واملإ القلبَ رحمةً وحنانا

الحِكمَة : «بتعبيرالرازي، هي العلم والعمل به، والحِكمَة مِنْ إحكام الأمور وتقويتها». [26]

وكان للحكمة في المجتمع العربي والمجتمعات الأخری مكانة كبيرة، وكانت الحِكمَة تختص بالكاهن أوسيد القبيلة في العصر الجاهلي، أوالملك والشاعر، والخطيب.

لذلك نری أنّ موضوع الحكمة يرتبط بالأدب وخاصة الشعراء ارتباطاً يجعل الحِكمَة مع الشعر تشكل أساس الأدب. الحِكمَة بمعنی الخبرة المكتسبة من الملاحظات العمقيّة إلی الأشياء المستخلصة من التجارب وبمعنی العلم والرأي الصائب.

« والجاهليون أرادوا بالحكمة، الحكايات والأمثلة التي تعلّم وتَعظِ الإنسان، تقال ليتعظ الشخص بها طوال حياته وليسير علی وفق هدی هذه الحِكَمُ. ولذلك نُسبت الحكم إلی أناسٍ مجربين أذكياء لهم صفاء ذهن وقوة ملاحظة وفكر راسخ». [27]

وقال افلاطون: الشرف ثلاثة: شرف النفس، وشرف الحِكمَة، وشرف الآباء».( السجستاني، 1974 م، ص 290.)
والحِكمَة هي ضد الجهل والغباوة كما قال الشاعر رشيد البرمكي: [28]

كم حِكمَة عِند الغبيَّ كأنها
ريحانةٌ في راحةِ المَزكوم

وقال المتنبي: [29]

وكلُّ شجاعةٍ في المرء تغني
ولا مثلُ الشجاعةِ في الحكيمِ

إذاً «العلم» معناه المعرفة، و« الحِكمَة» معناها المعرفة، إذن ما الفرق بينهما؟

«العلم يقيس الكميّات، ويتعرف علی العلاقات التي تربط هذه الكميّات بعضها ببعض وأثر الخير والشرَّ عليها. أما الحكمة، هي النجاة وصفة الثبات عند أوائل الأمور، فإنّها تأمر بإتباع العقل السليم، وإستعمال الشئ فيما وُضع لهُ». [30]

مصادر الحكمة في العصر العباسي: مما لاشك فيه أن الحكمة لها مصادر ومآخذ فرديّة أوجماعيّة، إن الأمم والملل تتأثربأسلافها وقدمائها وتتوارث العقائد والعادات والطقوس الدينيّة. ومن تلك المواريث، الحكم والأمثال والأقوال المأثورة التي هي بمثابة لوحات مرورٍ مغروسةٍ لدی تلك الشعوب. ومحصول التجارب الفعليّة والعمليّة وحتی الإكتسابيّة من الأمم الأخری تبيّن لنا مدی حكمة الفرد أوالأمة أوالشعب، وإلی أي مستوی علمي وفكري وصلوا. وحكمة الشعوب هي عنوانهم ومكانتهم الثقافيّة والفكريّة والأدبية عند الأمم الأخری.

وإذا أردنا أن نقارن الهند بالأمم الأخری فلا غرومن أنّ الهند ومللها ونحَلها وحكمتها وفلسفتها وصناعتها، هي الأقدم من كافة الأمم الأخری. والهند لم تغز الأمم الأخری، مثل فارس والعراق واليونان،والدافع الفتوحي لم يكن عند أهلها كما كان عند «الإسكندر»و«كورش» و«داريوش».

وإذا تعرَّفت ألی آرائهم وعقائدهم البوذية يتضح لك، بأن السلم وعدم إراقة الدماء والتعايش السلمي وإعطاء حق الحياة لجميع الموجودات، هي من شعاراتهم، «وعُرف شعبُ الهند بأنّهُ شعبٌ ذوعاطفة وإحساس عظيمين، فعمود وأساس الخُلق الهندي هو«العاطفة». [31]

يقول الأستاذ مطهري: «الغربي الذي طالع «الأوبانيشاد» وصل إلی ثلاثة أصول: [32]

أولاً: أساس الثقافة الهنديّة هومعرِفة النفس.
ثانياً: من عرف نفسه، فقد عرَفَ ربَّه والعالم.
ثالثاً: قوة التسلط علی النفس.

وهذان ِ الأصلان اللذان ِ قالهما موجودان ِ في أقوال النبي محمّد (صلی الله عليه وآله وسلم) والإمام علي(عليه السلام)، الذي قال: [33]

«معرِفةُ النَّفس أنفعُ المعارف»، و«مَنْ عرَفَ نفسهُ، فقد عرَفَ ربَّهُ»

وفي كليهما غاية وحكمة واحدة.

ونستطیع تقسیم مصادر الحکمة إلی قسمين:

أ - الموروث الشعبي.

ب- التأثیرات الأجنبيّة.

الف- الموروث الشعبي:
الوراثة التي يرثها الشعب من الأسلاف، تشمل العادات، التقاليد ومن ضمنها الحِكم والأمثال، الحكايات، القصص، النوادر والتجارب الذاتيّة الجمعية والفرديّة. من الأمثال والحكم والأقوال المأثورة نذكر من المتنبي: [34]

إذا أنتَ أكرمتَ الكريمَ مـلكتَهُ
وإن أنتَ أكرمتَ اللئيمَ تمرَّدا

وقال الفرزدق في امرأة قالت شعراً فأصبح مثلاً: «إذا صاحتِ الدَّجاجة صياحَ الدّيكِ فلتذبَح». (المصدرالسابق،ج 1، ص 97.) «إذا شاورت العاقل صار عقلهُ لكَ». [35]

وقال أبونؤاس: [36]

خيرُ هذا بـشرّ ذا
فإذا الربُّ قد عفا

*******
الأقوال والحكم العربية الموجودة في الموروث الشعبي، كثيرة لا تعد، وقد جُمع الكثير منها في « مجمع الأمثال للميداني» المتوفی سنة (518ه‍). والأقوال والحكم التي قالها الإمام علي (عليه السلام) قد جمعت في كتاب «نهج البلاغة» علی يد الشريف الرضي (359ه‍ -406ه‍). وأما القصص والنوادر فمنها قصة «ألف ليلة وليلة» و«كان ياماكان» و«سندباد» وغيرها التي أخذت من القصص الهنديّة.

ب- التأثيرات الأجنبية:

أولاً: الفرس: كان للفرس الدور البارز في إيصال الثقافات الأخری إلی العرب، كالهنديّة واليونانيّة والسريانيّة. وكان الخلفاء العباسيون متأثرين بالفرس أشد التأثر، حيث نری مؤدب المأمون والرشيد فارسيّاً والوزير، والكاتب والمشاور فرسا. والأهم من ذلك أن أكثر زيجات الخلفاء فارسيّات، فَمنهُنَّ أمُّ هارون وإحدی نسائه، التي هي اُم المأمون. [37]

إنَّ التأثير الفارسي شمل ألوان الحضارة في العصر العباسي برمَّتِها. والثقافة الفارسيّة التي كانت يانعة بثمارها العلمية وحكمتها البهيّة خلَدها حكماء الفرس مثل، «بزرجمهر»، و«كسری»، و«أردشير بن بابك» (226-241 م) و«سابوربن أردشير» و«قُباذ» الذي تولی الملك سنة (448م). والحكمة في كتاب «جاويدان خرد» [38]لإبن مسكويه فيه حكم منسوبة «لبزرجمهر» وزير كسری أنوشيروان، الذي أنشأ مدرسة «جنديسابور»، فإذاً ؛كان للفرس الدور الفعال في إيصال العلوم والحكمة الفارسية إلی العباسيين، وكان لهم الدور الأساس في ايصال حكم الثقافات الأخری وعلومها إلی العرب.

ثانياً: الداخلون في الإسلام: دخل الکثیرمن جمهور الفرس في الإسلام،واندمج العرب مع الفرس ثقافياً، واقتبسوا منهم، فنتيجة الموالي وأسری الحروب ظهور جيل جيد أسهم في نقل معظم العلوم والحكم.

وعندما فتحت بلادالسنّد وبلاد الهند دخل الإسلام عددٌ غفير من أصحاب تلك الأرض، فأصبح الإندماج العربي مع الثقافات الداخلة في الاسلام يتكاثر إل‍ی أن ملئت بغداد بالجواري والإماء الهنَّديات والفارسيّات والروميّات. الموالي وسبايا الحروب اللواتي تحرّرن، فحقّت لهم الحقوق كالعربي. من أبناء الموالي السنَّديين نذكر، أباعطاء السندي و«أبامعشر السندي» صاحب كتاب «المغازي» و«اختلاف الزيجة» في الفلك و«الألوف»، ويذكربأن معظم صرافي البصرة كانوا من الهنود، ذلك لأنّ الهنود كانوا أعرف الأمم بالحساب والأعداد.

ومن شعراء العرب ذوي الأصل الهندي، أبوالأصلع الهندي الذي كان شعوبياً ويفتخر بالهند وما أخرجت بلاد الهند، فقال: [39]

وفـــي مِـدحـتـي الـهنـد
وسـهمُ الهندِ في المقتَلْ
وفـيـه الــسَّــاجُ والعاجُ
وفـيـه الـفيـلُ والدَّغفلْ

ومن الموالي الذين جلبوا من الهند، نبع مِن أولادهم شعراء وعلماء و«أبوعطاء السنّدي، الشاعر المخضرم (الأموي- العباسي) منهم، ومن أشعاره التي يذكر فيها عُجمة لسانه وعدم قدرته علی تلفظ الحروف العربيّة، نختار قوله: [40]

أعوزَتني الرواةُ يا ابن سـليم
وأبی أن يُقيم شعري لسـانيِ
وغَــلا بالذي أجمجمُ صدري
وجفاني لِعجمتي سُـلطـانـي

و«ابن الأعرابي» اللغوي، الشاعر والأديب والمؤلف الذي تتلمذ علی يده «ثعلب وابن السّكيّت الدورقي»، كان أصله هنديّا ً، ويُعد من أئمة اللغة العربيّة وله كتاب «الأنواء» [41] في علم الفلك والنجوم. ومن أشعاره نذكر مما قاله في الحكمة عندما أنشد لأبي الحسن المدايني، فقال ابن الأعرابي: [42]

وإذا أظـهرت أمراً حسناً
فليكُنْ أحسن منهُ ما يُـسرّ
فـمسِرُّ الخير موســومٌ بهِ
ومُسِرُّ الشّرِّ موسومٌ بِسرّ

ومما يبدولنا مِن أشعار أبن الأعرابي أنَّ مضمونها حكمة هنديّة وتحمل آراء الدهريّة ويبدوأنّه علی عقيدة أهل التناسخ في نظرته الكليّة للدنيا وطريقة التعايش، وأنشد يقول: [43]

حســبُ الفـتی مِن عَيشهِ
زادٌ يــبـلـغـهُ الـمـحـلا
خُــبــزٌ و مـاءٌ بـــــاردٌ
والطّفلُّ حين يُريدُ ظِلاَّ

ثالثاً:الجيرة: أما المجاورون للعرب، فهم: الفرس، واليهود، والنصاری، والكلدانيون، والسرّيان، فكانت التأثرات منهم كبيرة جداً، والفُرس كحلقة وصل بين الهند والعرب.

ويُنقل إلی العرب ما نقلته الفُرس من الهند، والمدينة التي لعبت الدور الوسيط في نقل علوم الهند إلی الفرس، ثمَّ إلی العرب، هي «بلخ» [44]التي كان بها معبد للنار اسمه النوبهار ومن سدنة ذلك المعبد كان «برمك» جد يحيي البرمكي في عهد هارون الرشيد.

والمدن التي فتحت علی يد المسلمين مُلئت سكنة، بالنزوح العربي إلی تلك الديار وأخذ هذا النزوح يتكاثر، فهاجرت طوائف من العرب إلی خراسان والرّي، وجرجان، وبلاد السّند، والمدن الهنديّة التي فُتحت علی يد محمّد بن القاسم بن المنبّه الذي قال فيه الشاعر: [45]

إن المروءة والسماحة والنّدی
لـمـحمّـد بـنِ القـاسـم بنِ محمّـد

الذي افتتح بلد «بمَهنوا» وسمّاه «منصورة» و«مولستان» وسماه «معمورة». [46]وفتح «ديبل» و«نيرانكوت» المسماة «بحيدرآباد». [47]ومن الهند طائفة «السنت» التي هجرت الهند منذ بضعة آلاف السنين وأتت، فاستقرّت في مصر باسم «الغجر» وفي سوريا باسم «النَور» ويُدعون «كوُاولة» في العراق و«بوهيميينن» في أوروبا. [48]

ج- محطات العلوم والحكمة لدی الشاعر العباسي:

العصر العباسي هوعصر إمتزاج الثقافات الأجنبيّة في سلّة الثقافة العربيّة الإسلاميّة. فكان حاصل المزيج الفكري والعقلي والعرقي ثقافة جديدة متأثرة بالثقافات الهنديّة والفارسيّة واليونانيّة. ونقل الكتب وترجمتها من هذه الثقافات إلی العربيّة كان رابط التعارف ما بين العرب وتلك الشعوب. والجسر الرئيسي بين الهند والعرب كان الفرس «لأن حدها الشرقي حوض نهر السند ونهر جيحون». [49]الكتب المترجمة والمنقولة إلی العربية كانت بعض الأحيان تصل إلی الشاعر؛ مشافهة ً عن طريق الخطب والمحاضرة والعلماء. ومن أهم محطات العلوم هي:

أولاً: الوراقون: «أنشأ بعض الورّاقين لهم دكاكين ملأوها بالكتب يتاجِرُون فيها». (ضيف، شوقي،1427هـ.ق، ص104.)وكان الشعراء وغيرهم يأخذون كل ما طلّبوا مِن الكتب العلميّة والأدبيّة. «ويقول الجاحظ:«سألتُ بعض العطارين وكان منهم المعتزلة، فكان منهم يُناصرون هذا المذهب أوذلك». [50]

ثانياً: المساجد: «كانت المساجد ساحات العلم الكبری، فلم تكن بيوتاً للعبادة فحسب، بل كانت أيضاً معاهد لتعليم الشباب». [51]والشعراء وعلماء اللغة والرواة، كانوا يجتمعون في المساجد، فيدور النقاش العلمي والثقافي في ذلك المكان ومن الشعراء نذكر أبانؤاس، وبشاراً، وواصل بن عطاء المعتزلي. يقول شوقي ضيف أيضاً: «أما المساجد فتحولت بجانب ما كان فيها من صلوات إلی جامعات كبری، يتعلّم فيها الشباب جميع فروع العلم». (ضيف، شوقي،1428 هـ . ق، ص521. )

وعن أصحاب المساجد ينقل لنا الجاحظ ويقول:«قال أصحابنا من المسجديين: «اجتمع ناسٌ في المسجد، ممن ينتحل الاقتصاد في النفقة». [52]والمسجديّون كما قال يتخذون المسجد منتدیً لهم، منهم الشعراء والرواة ومنهم من يقول الحكمة، وكان لهم أثر غير قليل في التوجيه الأدبي والتأثير في اتجاهات الشعر العباسي.

ثالثاً: المجالس: تحوّلت مجالس الخلفاء ومنهم المأمون بن الرشيد المتأثر بآراء المعتزلة، ومن الوزراء يحيی البرمكي، والأطباء، «يوحنّا بن ماسوية الذي كان مجلسه أعمر مجلس ببغداد». [53]

وكانت «مجالس البرامكة، ومجلس المأمون، ومجلس أيوب بن جعفربن المنصور العباسي، ومجلس المتكلمين والفلاسفة، ومجلس أزدی بالبصرة»، [54] مِنْ أهم المجالس. وكان التعليم فيها شفوياً مجاناً. وکانت أبواب هذه المجالس مفتوحة لکلّ الطبقات،أي:عامة الناس.فکان بإستطاعتهم أن يرتووا معرفةً وحكمةً وثقافةًمن تلك المجالس، ونذکر من الطبقة العامة العلماء والشعراء الأعلام مثل: «بشاربن برد (96ه‍ - 168ه‍)، وأبي نواس (145ه‍ - 199ه‍) وأبي العتاهية (130ه‍-210ه‍) ومسلم بن الوليد (130ه‍ -208ه) وأبوتمّام (172ه‍ -2ه‍) وابن الرومي (221ه‍ -283) والمتنبي (303ه‍ 354) وابي العلاء المعري(363ه‍- 449).

ولقد إزدهرت الحرکة العلميةوالادبیة فی الاعصر العباسیةوذلك حسب ما یذکره الدکتورشوقي ضیف:«ومن أهم الأسباب التي دفعت إلی ازدهار الحركتين؛ العلمية والأدبية في العصر العباسي هوالاتصال الخصب المثمر بين العرب والأمم المغلوبة المستعربة وما طوی فيها من علوم ومعارف ... وعن طريق المشافهة مع المستعربين وطريق النقل والترجمة». [55]

نعم، یُعدّالعصرالعباسی من أزهی العصور الادبیة القدیمة علمیاًوادبیاً وذلك بسبب الانفتاح الذي حصل في المجتمع العباسی واختلاط الثقافات المختلفة مع الثقافةالعربیة، والتبادل الثقافي الذي حصل بینها،فجعلت کل واحدة تأخذ من الثانیة،وحصل تطور واسع فی کافة مجالات العلوم، ادبیة کانت أوعلمیة.

ملاحظة:

Awatef Alboghobeish,Shadegan Branch, Islamic Azad University ,Shadegan,Iran.

المصادروالمراجع

  1. القرآن الکریم.
  2. آل غالب،علی رضا،الحکمة الهندیة فی الاعصرالعباسیة، رسالةماجستیر،جامعة آزاد الاسلامیة، آبادان،ایران2009م.
  3. الآمدي، عبدالواحد بن محمّد، غرر الحکم ودررالحکم، دار المعارف، القاهرة،مصر 1932 م .
  4. ابن خلدون، عبدالرحمن : المقدمة، شرح وتقدیم الدکتور : محمّد الإسکندراني دارالکتاب العربي، بیروت، لبنان، 2008 م، .
  5. ابن عبدر به الأندلسي، أحمد بن محمّد : العقد الفرید، تحقیق وتعلیق : برکات یوسف هبُّور، الجزء الأول، دار الأرقم، ط1، بیروت، لبنان 1999م.
    # أبن منظور، لسان العرب، دارصادر، ط4، بیروت، لبنان، 1999م.
  6. الإصفهاني، راغب، مفردات ألفاظ القرآن، تحقیق : صفوان عدنان داودي، طلیعة النور، ط2، قم، إیران، 2006 م .
  7. أمین،أحمد، ضحی الإسلام، دار الکتب العلمیة، ط2، بیروت، لبنان 2007 م
  8. أنیس، إبراهيم و...،المعجم الوسیط،مکتب نشرالثقافةاسلامیة،ط3،1408هـ.ق، ایران .
  9. الأیوبي،یاسین،صفي الدین الحلي،دار الکتاب اللبناني،ط1،بیروت،لبنان،1971 م .
  10. البستاني، فؤاد أفرام، منجد الطلاب، ترجمة : محمّد بندر ریگي، مطبعة حیدري، ط17، طهران،إیران، 2002 م .
  11. المجاني الحدیثة،نشرذوي القربی،ط4،قم، إیران، 1998 م.
  12. بعلبکي، روحي، موسوعة روائع الحکمة والأقوال الخالدة، دار العلم للملایین، ط12،بیروت، لبنان، 2008 م .
  13. بلاشیر: تاریخ الأدب العربي، ترجمة : إبراهیم الکیلاني،دار الفکر، دمشق، سوریة، 1998 م .
  14. الحصري القیرواني، أبوإسحاق إبراهیم، زهرالأدب وثمر الألباب، شرح وضبط : محمّد محیي الدین عبدالحمید،دار الجیل،ط4، بیروت، لبنان، 1972م.
  15. السجستاني، أبوسلیمان : صوان الحکمة وثلاث رسائل، حققه وقدم له الدکتور: عبد الرحمن بدوي، انتشارات بنیاد فرهنگ إیران، طهران، 1974 م،لا تا .
  16. شجاعپوریان، ولي الله، اخلاق وحکمت عملی در شعر متنبی، دانشگاه شهید چمران أهواز، ط1، أهواز - ایران، 1376هـ . ش .
  17. الشیخ غرید: أحلی ما قیل في الحکم والأمثال، دار الکتاب العربي، ط1، بیروت، لبنان، 2006 م.
  18. ضیف،شوقي،تاریخ الأدب العربي(العصرالعباسي الأول)،نشرذوي القربی،ط2،قم، إیران،1427 هـ . ق .
  19. ـ ( العصر العباسي الثاني )، نشرذوي القربی،ط2، قم، إیران، 1427 هـ . ق .
  20. ـ ( عصر الدول والإمارات )، ذوي القربی، الطبعة الإولی،قم، إیران، 1428 هـ . ق .
  21. طرّاد، مجید، دیوان أبي نواس،دار الفکر العربي، ط1،بیروت، لبنان 2003م.
  22. العاکوب، عیسی، تأثیر الحکم الفارسیة في الأدب العربي ( العصر العباسي الأول )، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، ط1، دمشق،سوریة، 1989م.
  23. علي، الدکتور جواد، المفصل في تاریخ العرب قبل الإسلام، نشر جامعة بغداد، ط2، بغداد، العراق 1993 م.
    مسکویة، أحمد : الحکمة الخالدة ( جاویدان خرد )، تحقیق : عبدالرحمن بدوي، نشر دانشگاه تهران، إیران، 1358 هـ . ش -
  24. مطهري، مرتضي، الحکمة العملیة،دارالولاء،ط1، بیروت، لبنان 2009م.
  25. ــــــــــــــــــــــــــــ، فلسفة الأخلاق، انتشارات صدرا، ط24، تهران - إیران، 1424 هـ .ق .
  26. معلوف، لویس،المنجد،مطبعةمعراج،ط2،طهران، إیران، 1367 هـ.ش .
  27. مغنیة، محمّد جواد، تفسیر الکاشف،مؤسسة دار الکتاب الإسلامي،ط4، قم - إیران، 2007م.
  28. المنوفي،محمود:تهافت الفلاسفه، دار الکتاب العربي، ط1،بیروت، لبنان، 1967م.
  29. المیداني، أبي الفضل أحمد، مجمع الأمثال، قدم وعلّق علیه : نعیم حسین زرزور، نشر دار الکتب العلمیة، ط2، بیروت، لبنان،2004 م.
  30. هومیروس:الإلیاذة، تعریب : سلیمان البستاني، دارالفكر، تونس،بلا. تا.
  31. الیوسي، الحسن، زهر الأکم في الأمثال والحکم، تحقیق: قصي الحسین، دار ومکتبة الهلال، ط1،بیروت، لبنان، 2003م.

[1ابن منظور،1999م، مادة «ح ك م».

[2معلوف، لويس، 1988م،مادة «ح ك م»

[3الإصفهاني، راغب، 2006 م، ص 31.

[4المصدرالسابق،ص249.

[5البستاني،فؤاد: 2002 م، ماده «ح ك م»

[6السجستاني، أبوسليمان،1974 م،ص 117.

[7مغنيّة، محمّد جواد: 2007م.، ج7، ص232.

[8البقرة/269

[9لقمان/12

[10بعلبكي، روحي، 2008 م .، ص 245.

[11آل غالب،علی،2009م،ص6،نقلاًعن:مطهري،مرتضی2009م.ص12

[12المصدرا لسابق،ص8،نقلا عن:مطهری، مرتضی، 2009م،ص13

[13اليوسي، حسن: زهرالاّكم في الأمثال والحكم، ج1، ص 43.

[14البستاني،فؤاد: 1998 م،ج1،ص88.

[15الحصريّ القيرواني، إبراهيم،1972م، ص142.

[16مغنية،محمّد جواد،2007م، ج6،ص 160.

[17الأيوبي، ياسين،1971 م، ص 305.

[18مغنيّة، محمّد جواد،2007م، ج1، ص421.

[19أبن منظور،1999م، مادة «حكم»

[20الميداني، أحمد2004 م، ج1، ص272.

[21ابن خلدون،2008 م، ص 442.

[22بلاشير،1998 م،ص914.

[23ابن منظور،1999م، مادة «ح ک م».

[24المنوفي، محمود،1967م، ص 20.

[25البعلبكي، روحي،2008 م، ص246.

[26مغنيّة، محمّد جواد،2007م، ج6، ص 369.

[27علي،جواد،1993 م، ج8، ص 339.

[28البعلبكي، روحي،2008م، ص 245.)

[29الشيخ، غريد، 1999م، ص 27.

[30مغنيّة، محمّد جواد، 2007 م، ج1، ص 422.

[31آل غالب،علی رضا،2009م،نقلاً عن:مطهري، مرتضی،1424 هـ .ق.، ص 49.

[32المصدر السابق، ص50

[33آل غالب،علی،2009م،ص 21الآمدي، عبدالواحد بن محمّد،1932 م، ص 786.

[34الميداني، أحمد،2004م، ج1، ص 43.

[35المصدر السابق،ج،1، ص128.

[36المصدرالسابق،ج1، ص195.

[37آل غالب،علی رضا،2009م،ص15.

[38العاكوب، عيسی،1989م، ص 83.

[39ضيف، شوقي: العصر العباسي الأول،ص94.

[40أمين، أحمد،2007م، ج1، ص 179.

[41المصدر السابق، ص180.

[42الجاحظ،2000م، ج2، ص259.

[43المصدر السابق، ص259.

[44ضيف، شوقي، 1427هـ.ق، ص 110.

[45آل غالب،علی،2009م،ص27،نقلاًعن:أمين، أحمد: 2007م، ج1،ص 178.

[46البيروني،ابوریحان، 2008،ص19

[47آل غالب،علی رضا،2009م،ص26،نقلاًعن:أمين، أحمد،2007م، ج1،ص178

[48آل غالب،علی،2009م،ص 27،نقلاًعن:هوميروس، 1993م، ج1،ص245.

[49العاكوب، عيسی،1989م، ص 18.

[50المصدر السابق،ص108.

[51المصدر السابق،ص100.

[52الجاحظ،2001م .، ص41.

[53ضيف، شوقي،1427هـ.ق،ص107.

[54المصدر السابق،ص106

[55المصدرالسابق: ص 109.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى