الثلاثاء ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم تيسير الناشف

التصادم بين رغبات الحكومة غير الديمقراطية ورغبات المجموعات

للبشر عموما أنماط سلوك مختلفة. وتحدد تلك الأنماطَ عواملُ كثيرة الأهم منها هي الحاجات الاقتصادية والحياتية والنفسية والتهيئة الاجتماعية التي تشمل التنشئة العائلية والمدرسة والعلاقات الاجتماعية والتاريخ. ولكل إنسان موقف وسلوك يتخذهما عن وعي أو بدون وعي حيال شتى الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ويسهم في تحديد تلك المواقف (ويُعرَّف "الموقف" بكيفية تحديد المرء للحالة) وأنواع السلوك العواملُ المذكورة أعلاه. ويقوم تفاعل مستمر بين مختلف العوامل التي لها أثر مختلف في تحديد الموقف والسلوك.

وتشتمل شخصية الإنسان على أخلاقه وفكره وميوله وتصوراته ومطامحه وطريقة تفاعله مع نفسه ومع المحيطين الاجتماعي والطبيعي اللذين حوله. ولدى الإنسان الباعث على محاولة تأكيد شخصيته. ولعبارات مثل الرغبات والتطلعات والمطامح في شتى مجالات الحياة مضامين الحاجات والقيم البشرية.

ويقوم تاثير متبادل بين المجتمع الدولي والدولة والمجموعة والفرد الإنسان الذي يشكل جزءا منها. وهذا التاثير يكون إيجابيا أو سلبيا. ينشأ التاثير الايجابي بقيام المؤثِّر بعمل يؤدي إلى التاثير في ما يتعرض للتاثير. وينشأ التاثير السلبي عندما لا يقوم طرف بعمل مما يتيح لطرف آخر القيام بعمل، وفي هذه الحالة يكون الطرف الأول هو المؤثر السلبي والطرف الآخر المؤثر الايجابي.

وتستوجب ممارسات الحكومة غير الديمقراطية تغييرا في حياة الأفراد والمجموعات الصغيرة والمجتمع عموما. وبالنظر إلى أن الحكومة غير الديمقراطية تتولى سلطة اتخاذ القرار والقيام بالتنفيذ فهي في أحيان كثيرة أقوى من المجتمع على تنفيذ قراراتها. وتوجد أولويات واعتبارات ومصالح للحكومة والأفراد والمجموعات في الدولة. وتعمل هذه الحكومة، في ممارستها لسلطتها، بوحي وتوجيه من اعتبارات مختلفة، منها اعتبار بقائها في تولي مقاليد السلطة واعتبار تلبيتها لمتطلبات النظام الدولي الذي تسيطر عليه حفنة من الدول العظمى واعتبار تلبية قسم من حاجات الأفراد والمجموعات في الدولة.

وفي الأغلبية الساحقة من الحالات، إن لم تكن الحالات كلها، ينشأ تعارض بين مقتضيات هذه الاعتبارات والأولويات والمصالح المختلفة. فعلى سبيل المثال رغبة دول عظمى في أن يقوم بلد بتخفيض أسعار المواد الخام التي يصدرها البلد إلى تلك الدول لتحافظ على نمط الحياة الاستهلاكي المبذر، بينما تكون رغبة أفراد مجتمع البلد المعني في اأ ترفع أسعار تلك المواد ليحسن بالعائد الأكبر من الصادرات مستوى معيشة اأراد المجتمع الفقراء والمرضى والأميين.

وبالنظر إلى أن الحكومة غير الديمقراطية هي المالكة لسلطة صنع القرار وهي المالكة لوسائل إنفاذ القرار وبالنظر إلى أنها معنية في المقام الأول ببقائها في موقع السلطة ففي مواجهتها لتلك الاعتبارات المذكورة أعلاه تتخذ قرارا يراعي الاعتبارات التي توليها الأولوية الأولى ولا تولي المراعاة الواجبة والكافية للاعتبار الذي لا توليه الحكومة الأولوية الأولى. وفي حالة التعارض بين اعتبارات مواصلة الامساك بمقاليد السلطة، من ناحية، واعتبارات الوفاء بحاجات الشعب الاقتصادية والنفسية والسياسية، من ناحية ثانية، عادة تولي الحكومة غير الديمقراطية الأولوية للاعتبارات الأولى. وفي حالة ارتباط مواصلة الحكومة غير الديمقراطية لتولي مقاليد السلطة بالدول العظمى - وهو ما هو حاصل في حالات كثيرة - فلهذا الاعتبار وزن أكبر لدى الحكومة في قراراتها وسياساتها وإجراءاتها.

وفي هذه العلاقات الواسعة المتشابكة بين الفرد والمجموعة والحكومة والدولة ثمة قوى اجتماعية وسياسية واقتصادية تنحو إلى الإبقاء على الحالة القائمة في مختلف مناحي الحياة، وثمة قوى اجتماعية وسياسية واقتصادية تنحو إلى تغيير هذه الحالة. وبسبب هذا التضارب في الاتجاه يحدث صدام بين مجموعتي القوى. وثمة أسباب مختلفة لنشوء تضارب اتجاهات قوى تغيير الحالة القائمة وقوى الإبقاء عليها. ومن هذه الأسباب أن اعتبارات الحكومة غير الديمقراطية، في رغبتها في التغيير، لا تراعي أحيانا كثيرة المراعاة الكافية أسباب تمسك أفراد المجتمع وشرائحه بالحالة القائمة. وتفرُّد الحكومة باتخاذ القرار وبتنفيذه وبالمبادرة إلى التغيير يمنحها الجرأة على محاولة إحداث التغيير بدون المراعاة أو بدون المراعاة الكافية لمواقف أفراد المجتمع وشرائحه ومصالحهم وبدون استشارتهم. وبالنظر إلى أن الحكومة هي التي تتعرض مباشرة للضغوط الأجنبية باتجاه القيام بتغيير معين يستلهم ويسترشد بمصالح مصادر تلك الضغوط فيحتمل احتمالا أكبر أن الحكومة في محاولة بتِّها في التغيير أو عدم التغيير تكون متأثرة تاثرا أكبر بموقف مصادر الضغوط الأجنبية وتاثرا أقل بمواقف أفراد المجتمع أو لا تكون مراعاتها لتلك المواقف تستحق الذكر لتفاهتها، مما من شأنه أن يؤدي إلى نفورهم من ذلك التغيير أو استيائهم منه أو مقاومتهم له.

وثمة سبب آخر للتضارب بين اتجاه التغيير لدى الحكومة واتجاه الإبقاء على الحالة القائمة لدى أفراد المجتمع، ويتعلق ذلك السبب بطبيعة طريقة اتخاذ القرار الحكومي. ففي الدول غير الديمقراطية اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي والعسكري مقصور على من ينتمون إلى الحكومة، وهم الذين يقومون بالإشراف على تنفيذه. وتترتب على تنفيذ أي قرار حكومي نتائج سياسية واقتصادية وعسكرية ومالية تتطلب أن يتحمل أفراد المجتمع المسؤولية المالية والاقتصادية والنفسية عن هذه النتائج. وهنا يحدث الصدام بين الحكومة وأفراد المجتمع لأن قرارات الحكومة قد تضر بهم ولأنهم لا يشعرون بأنهم مسؤولون عن تبعات سياسة لم يساهموا في وضعها وفي تنفيذها ولم يستشاروا في صياغتها ولم يوافقوا عليها.

والسبب الثالث في ذلك التضارب هو الوجود الدائم لفجوة - تضيق أو تتسع وفقا للظروف السائدة - بين مفاهيم الحكومة غير الديمقراطية ومفاهيم أفراد المجتمع لشتى شؤون الحياة والافتقار إلى الاتصال أو الاتصال الكافي اللازم بينهما. وبالتالي تتخذ الحكومة قراراتها وتنتهج سياساتها وتقيم علاقاتها بالدول الأجنبية دون المراعاة أو المراعاة الكافية لمواقف أفراد المجتمع ومفاهيمهم. وفي هذه الحالات لا يكون أفراد المجتمع مهيئين ومستعدين لأن يقبلوا التغييرات التي تقتضيها تلك القرارات والسياسات التي تتخذها الحكومة.

وفي ظروف أخرى تكون الحالة مختلفة، أي تكون لدى أفراد ومجموعات المجتمع الرغبة في التغيير بينما لا تتوفر هذه الرغبة لدى الحكومة. وتعزى هذه الرغبة لدى أفراد ومجموعات المجتمع إلى أسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية ونفسية. فالبطالة والفقر، مثلا، يسهمان في نشوء الرغبة في التغيير في الوطن العربي. والقمع والقهر السياسيان والاجتماعيان يحفزان على الدعوة إلى التغيير في أماكن كثيرة في العالم النامي. والسيطرة الأجنبية تبعث على مقاومة الجهة المسيطِرة لإنهاء السيطرة. والإهانة التي يتعرض لها الإنسان في ظل النظم السياسية القمعية والاستبدادية تدفع إلى العمل لتغيير هذه الحالة وللانعتاق. وتدني مركز النساء يدفعهن الى الكفاح لرفع مركزهن. وإذا توفرت لدى الحكومة والمجموعات في الدولة الرغبة في التغيير فقد تكون في هذه الظروف لدى المجموعات رغبة أقوى من رغبة الحكومة في التغيير.

وقد تنشأ لدى المجموعات في الدولة رغبة في التغيير نتيجة عن زيادة تقدير أفراد هذه المجموعات لقيمة التغيير. وتكون زيادة التقدير هذه نابعة من انتشار العلم والثقافة في صفوف أفراد المجتمع ومن وصول رسائل وسائط الإعلام إلى جمهور أكبر من المستمعين والمشاهدين في شتى بقاع العالم، مما يجعلهم يدركون قيمة التغيير إدراكا أكبر.

يبين هذا العرض أن ثمة عوامل تحدد سلوك الفرد والجماعة والحكومة وأن هذه العوامل وهذه الجهات الفاعلة تمارس تاثيرا بعضها في بعض. للفرد والمجموعة والحكومة حاجات في المجالات السياسية والاقتصادية والنفسية والبيولوجية. ومن أهم الوظائف التي تؤديها التاثيرات المتبادلة فيما بين الجهات الفاعلة هذه في المجالات المذكورة تحكُّم بعضٍ بسلوك بعضٍ. والطرف الأقوى - ويشير الواقع إلى أن الحكومة هي الطرف الأقوى في الأغلبية الساحقة من الحالات - يمارس قدرا من التحكم أكبر من قدر التحكم الذي يمارسه الطرف الأقل قوة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى